بعد 60 سنة: إلى أي حد تحقق الاستقلال الثقافي في الجزائر؟
بعد 6 عقود من نيل الجزائر استقلالها، ما هي المكانة التي وصلت إليها اللغة العربية في الثقافة والتعليم؟ وماذا عن مكانة اللغات الأجنبية الأخرى؟
في الذكرى الستين لاستقلال الجزائر، يُعاد مجدداً طرح الأسئلة التاريخية عن مدى نجاح الدولة الوطنية الوليدة في تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها ثورةٌ كبرى، نسفت استعماراً استيطانياً عنيفاً، دام أكثر من 130 سنةً.
ارتبطت تلك الأهداف التي رسَّختها "الوطنية الجزائرية الحديثة" منذ تشكُّلها في عشرينيات القرن العشرين، ضمن مسارٍ تاريخي طويل وشاق، بخيارٍ اقتصادي - اجتماعي يروم تحقيق التحرر الكامل، ويُؤكِّد حقَّ الجزائريين في التمتع السيادي بثرواتهم التي حُرموا منها طيلة الفترة الاستعمارية، وهو ما يُسمَّى في الخطاب السياسي الرسمي "الطابع الاجتماعي للدولة".
ولكنَّ تلك الأهداف ارتبطت أيضاً بالاستقلال الثقافي، بما يعنيه من استرجاعٍ للشخصية الوطنية والهوية الحضارية للبلاد، التي حاول المشروع الكولونيالي اجتثاثها من جذورها، وفي الأساس منها الدين الإسلامي واللغة العربية، فإلى أيِّ حدٍّ استطاعت الجزائر، بعد 60 سنةً من انتزاعها استقلالها، بلوغ ما رسمته حركة التحرر فيها من أهداف؟
المشروع الكولونيالي وتفكيك البُنى الثقافية التقليدية
بعد سقوط مدينة الجزائر سنة 1830، بدأ المشروع الاستعماري في التأسيس لرأسماليةٍ كولونياليةٍ زراعيةٍ، اعتمدت على تفكيكٍ مُمَنهجٍ للبُنى الاقتصادية التقليدية الريفية، من خلال المصادرة العنيفة للأراضي بالتهجير أو بإبادة قبائل عن بكرة أبيها، كما حدث مع قبيلة "العوفية" في ضواحي مدينة الجزائر، وقبيلة "أولاد رياح" في ضواحي مدينة مستغانم، أو من خلال منظومةٍ تشريعيةٍ تحرم الجزائريين بقوة القانون من ملكيتهم العقارية. فيما تراجعت الحواضر الجزائرية التي عرفت ازدهاراً كبيراً في العصر الوسيط، قبل الاحتلال الفرنسي، إذ فقدت دورَ الوسيط التجاري بين أفريقيا وأوروبا، بسبب انزياح الطرق التجارية عن منطقة بلاد المغرب، وفي القلب منها الجزائر، وتراجع نشاط القرصنة التي كانت تزاولها البحرية الجزائرية، وتضمن من خلالها مداخيل مهمة للخزينة.
اعتمد الاستعمار الفرنسي التفكيك المُمَنهج للبُنى الاقتصادية التقليدية الريفية، من خلال المصادرة العنيفة للأراضي بالتهجير أو بإبادة قبائل عن بكرة أبيها.
بقي الريف الجزائري مُهمَّشاً وفقيراً، تحكمه بُنى اجتماعية قبلية، عمد المشروع الكولونيالي أيضاً إلى ضربها، وبُنى أخرى ثقافية تقودها "الزوايا"، التي اضطلعت، بالإضافة إلى دورها التعليمي، بدورٍ حاسمٍ في تأطير الشرعية الدينية للطرق الصوفية، التي كان من الطبيعي أن ترفع لواء المقاومة بعد الانهيار التام للحكم المركزي، الهش أصلاً، سنة 1830، وأن تُحوِّل الإسلام الشعبي طيلة عقود القرن الـ19 إلى قوةٍ تعبويةٍ ناجعةٍ ضد النظام الكولونيالي.
لذا وضع هذا النظام في صلب أولوياته تفكيك هذه المؤسسة الدينية والثقافية للمجتمع الريفي الجزائري، من خلال إضعافها بمحاولة تجريدها من الدين الإسلامي كأساسٍ لشرعيتها، ومن نظامها التعليمي التقليدي كوسيلةٍ تأطيريةٍ للمجتمع، بالتوازي مع نسف بُناه الاقتصادية بمصادرة أملاكه العقارية والاجتماعية، مُجسَّدةً في القبيلة.
"نجم شمال أفريقيا": الوعي بأهمية مكونات الهوية الجزائرية
مع استنفاد المقاومات الشعبية في القرن الـ19 لأساليبها العنفية كلها، وفشلها في تحقيق انتصاراتٍ حاسمةٍ، بدأت مرحلةٌ جديدةٌ في النضال الجزائري، في عشرينيات القرن العشرين، في الأوساط العُمَّالية المهاجرة في فرنسا، مع منظمة "نجم شمال أفريقيا" سنة 1926، مُتأثِّرةً بالسياق النضالي الذي صنعته الثورة البلشفية في العام 1917 على مستوى العالم.
تأثرت منظمة "نجم شمال أفريقيا" بالسياق النضالي الذي صنعته الثورة البلشفية في العام 1917 على مستوى العالم.
اقتنع قائد "نجم شمال أفريقيا"، مصالي الحاج، منتصف الثلاثينيات، باستحالة تجاوز حقيقة أن الإسلام يُمثِّل فعلياً الرافد الأساس للهوية الجزائرية، التي ترفض الذوبان في المجتمع الاستيطاني الأوروبي، فكانت بداية تشكُّل وطنيةٍ جزائريةٍ حديثةٍ دعت للقطيعة الجذرية مع الوجود الاستعماري، وتمتّعت بمضمونٍ إيديولوجيٍّ يعتمد العدالة الاجتماعية والديمقراطية الاجتماعية (الاشتراكية)، والدين الإسلامي كأساسٍ للهوية، واللغة العربية كمُجسِّدٍ للانتماء الحضاري للدولة المستقلة المنشودة.
الجزائر واللغة الفرنسية: منفى أم غنيمة حرب؟
باشرت الدولة الوطنية المستقلة مشروعاً للتحرر من هيمنة اللغة الفرنسية على مفاصل الإدارة والتعليم والاقتصاد في البلاد، وسار مشروع التعريب جنباً إلى جنبٍ مع التجربة التنموية الاشتراكية، ونُظر إلى الاستقلال الثقافي كجزءٍ لا يتجزأ من مشروع الاستقلال الشامل.
تمكَّنت الجزائر طيلة عقودٍ من تعريب التعليم بمراحله المختلفة، وأقسام العلوم الإنسانية في التعليم الجامعي وعددٍ من الوزارات، لكنَّ سطوة اللغة الفرنسية ظلَّت ماثلةً في المنظومة الإدارية والاقتصادية في البلاد.
ورغم ظهور الكتابة الجزائرية المبدعة باللغة العربية، في مختلف المجالات الأدبية والتاريخية، بأسماءٍ بارزةٍ مثل عبد الحميد بن هدوقة، الطاهر وطار، مفدي زكرياء، وتوفيق المدني... إلا أنَّ الانقسام اللغوي الحادّ الموروث من الفترة الاستعمارية، والذي تحوّل لاحقاً إلى انقسامٍ إيديولوجيٍّ بين مدرسيتين ومقاربتين مختلفتين للثقافة والهوية الوطنية، "المُعرَّبة" و"المُفَرنَسَة" (والإحالة هنا إلى الفرنسية كلغةٍ، وليس كانتماءٍ سياسي).
رغم ظهور الكتابة الجزائرية المبدعة باللغة العربية، في مختلف المجالات الأدبية والتاريخية، إلا أنَّ الانقسام اللغوي والإيديولوجي الحادّ الموروث ظلّ موجوداً.
تمثّلت المقاربة الأولى في صيحة مُثقفٍ وطنيٍّ يستاء من عدم إتقانه للغته العربية، فيعتبر أنَّ "اللغة الفرنسية منفاي"، كما عبَّر مالك حدَّاد (1927-1978) عن هُويَّته المُمَزَّقة، التي قادته في النهاية إلى التوقف عن الكتابة باللغة الفرنسية التي كتب بها رواياته وأشعاره، وبالتالي التوقف عن الكتابة نهائياً، لأنه عاجزٌ عن التعبير بلغته الأم.
بينما تمثّلت المقاربة الثانية في من اعتبر اللغة الفرنسية "غنيمة حرب"، يحق للمناضلين الجزائريين توظيفها، تماماً كما يفعل المقاتلون بالسلاح الذي يغنمونه في معاركهم، وهذا ما رآه صاحب رائعة "نجمة"، المناضل الوطني والروائي كاتب ياسين (1929-1989)، الذي أراد أن يقول إنَّ اللغة الفرنسية سلاحٌ يعود ليقاتل به عدوه بعد أن غنمه منه، فهي لغةٌ تُمكِّنُه من إيصال أدبه، الذي يُعبِّر عن هويته وتوق شعبه للحرية، إلى فضاءٍ أوسعَ من القراء في العالم، وقد أوضح ذلك بالقول: "أكتب بالفرنسية حتى أقول للفرنسيين إنني لست فرنسياً".
التحرُّر الثقافي: تحديات وآمال
تبقى قضية التحرر من هيمنة اللغة الفرنسية في الجزائر، بعد ستة عقودٍ من ولادة الدولة الوطنية، تحدِّياً ماثلاً أمام الدولة والنخبة على حدٍّ سواء، مرتبطاً بما وصل إليه مشروع التعريب من نتائج حتى الآن، ومعه مكانة اللغة العربية في البلاد. كما أنّه يرتبط بالمكانة التي تحظى بها اللغات الأجنبية الأخرى في التعليم، على غرار المشروع المستجد بإدخال اللغة الإنكليزية إلى المراحل التعليمية الابتدائية، الذي أعاد الجدل اللغوي في الجزائر إلى المُربَّع الأول، بمعنى أنّه أعاد إنتاج الانقسام اللغوي الحادّ الموروث، لكن وفق نسخةٍ رديئةٍ وأكثرَ خطورةً هذه المرة، يغلب عليها الهوس الهُوِيَّاتي الانعزالي أو التوظيف الإيديولوجي الساذج.
تبقى قضية التحرر من هيمنة اللغة الفرنسية في الجزائر، تحدِّياً ماثلاً أمام الدولة والنخبة على حدٍّ سواء، مرتبطاً بما وصل إليه مشروع التعريب من نتائج حتى الآن.
ما يؤمل في الجزائر حقاً هو نقاشٌ علميٌّ ينطلق من ضرورة استكمال الاستقلال الثقافي، الذي يُرسِّخ الشخصية الوطنية الحضارية للبلاد، ولكن ضمن مشروعٍ مدروسٍ يعي جيداً الحاجة الملحّة لنوافذ لغوية، تتيح لنا الاستفادة من تجارب الآخرين العلمية والنهضوية. من غير هذا سوف نجد أنفسنا نواصل "إنتاج" أجيالٍ رديئةٍ غير مُتمكِّنةٍ من لغتها، ناهيك عن لغات الآخرين.