"اليهودي التائه وصل".. كيف ساعدت الفلسفة الأوروبية في قيام "إسرائيل"؟
أدى الأدب الصهيوني والفلسفة الأوروبية دوراً كبيراً في التنظير لقيام "إسرائيل" وشيطنة العرب والمسلمين. كيف حدث ذلك؟
لا نقاش حول الدور الذي لعبه كل من الأدب الصهيوني والفلسفة الأوروبية، في تجميع رأي عام إلى جانب "إسرائيل" (الصهيونية) ومزاعمها.
نستعرض هنا بعض الأعمال الأدبية المؤسسة للصهيونية، كما نرصد تنظيرات فلاسفة أوروبيين للصهيونية، تُعد من أهم أوراق الدعاية لها في القرن العشرين. إضافة إلى ذلك، فإن تزييف التاريخ، سواء القديم أو الحديث، من أهم الأهداف لخدمة الصهيونية، وهو ما يوضحه كيث وايتلام في كتابه "اختلاق إسرائيل القديمة".
الأدب وغسل التاريخ اليهودي
منذ القرن الثامن عشر، بدأت صورة اليهودي الكريه تتراجع في الأدب الغربي وتحلّ محلها بالتدريج صورة اليهودي الإنساني، الجار والمعين.
يرصد ممدوح عدوان في كتابه "تهويد المعرفة" أعمالاً عديدة ظهرت فيها هذه الصورة، سواء في رواية "هارنغتون" لماريا إدجورت (1767 -1849)، ثم عند بنيامين دزرائيلي (1804 -1881) الذي تعدّه الصهيونية واحداً من طلائعها المبكرة، والذي كان يدرك كما يقول إنّ: "التوجه الفطري لدى الشعب اليهودي مضاد لمبدأ المساواة بين البشر".
وفي روايته "آلوري" 1833، يعرض دزرائيلي موضوعه بوضوح، وهو "النضال من أجل إقامة كيان يهودي في فلسطين وإعادة بناء هيكل سليمان"، وقد وصل دزرائيلي إلى رئاسة الوزارة البريطانية مرتين، كما توجد في روايته، وفقاً للشهيد غسان كنفاني، البذور الفعلية لولادة الصهيونية السياسية.
بعده نذكر جورج إليوت (1819 -1888) في كل من "الغجرية الإسبانية" و"دانييل دينورا"، وفي الأخيرة جعلت إليوت همها أنّ تفسير اصطلاح "شعب الله المختار" يعني أن الله اختار اليهود لينقذوا الإنسانية، واختارهم "في سبيل الشعوب الأخرى"، وقد اتكأت على هذا الهدف الميتافيزيقي لتقفز إلى نقطة أخرى هي الدفاع عن حق اليهودية في أن تكون قومية.
في كتابه "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948 - 1966"، يقول كنفاني إنّ أي رواية صهيونية لا تخلو من الاستعانة بسلاحين شديدي الإغراء، أولهما التطويل في الحديث عن المذابح التي قامت بها الهتلرية، وثانيهما الربط بين الصهيونية ووعود التوراة بشأن فلسطين. ويشرح كذلك كيف أصبحت كلمتا "العرق" و"الدين" اصطلاحين لمعنى واحد في الأعمال الأدبية الصهيونية، وهي عنوان واضح لجوهر الدعوة الصهيونية السياسية وقاعدة من أهم قواعدها، أي مبدأ التفوق اليهودي الذي يقوم على احتقار عرقي لبقية الشعوب وخاصة العرب.
بعد تمكن اليهود من مواقعهم الأكاديمية، بدأت عمليات مزدوجة في المراجعات التاريخية، وكان لها 3 أغراض حسب ممدوح عدوان، هي:
1 - غسل التاريخ اليهودي من كل شائنة، فأي حدث غير محمود قام به اليهود، تتم إعادة النظر فيه إما لنفي دور اليهود فيه، وإما لتبرير هذا الدور.
2 - يواكب الغرض الثاني الأول، وهو عملية "سرقة العبقريات"، فكل عبقرية تأتي في التاريخ يتم اختراع نسب يهودي لها.
3 - احتكار المآسي، وقد تم ذلك من خلال إعادة النظر بمآسي الشعوب الأخرى لطمسها أو تبريرها أو إنكارها نهائياً للإبقاء على مأساة اليهود على أنها المأساة الإنسانية الوحيدة، وهي تشمل المأساة المعاصرة (الهولوكوست) والمأساة التاريخية (التيه والسبي).
"اليهودي التائه وصل"
منذ البداية، أي منذ الاختلاجات الأولى للصهيونية السياسية في أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر، يظهر أن الجهوزية لنازع المركزية الأوروبية، حددت بقدر كبير رؤية النزاع الذي كان قيد البروز في الشرق الأوسط، من خلال تغييب السكان الفلسطينيين من جهة، والازدراء بتطلعاتهم الوطنية، ومن خلال تولية "الصهيونية" أمر "مهمة حضارية" مثلها مثل أي مشروع كولونيالي، كما يقول فاروق مردم بك في محاضرة ألقاها عام 2010، في مؤتمر "الكتاب والقضية الفلسطينية" وترجمها حسن الشامي.
منذ إصدار وعد "بلفور" عام 1917 ثم استيلاء البريطانيين على القدس حتى الحرب العالمية الثانية، انضوى الكتّاب والفلاسفة الذين تناولوا الوضع في فلسطين في منطق النزعة المركزية ودعم المشروع الصهيوني. من جوزيف كيسيل وكتابه "أرض الحب والنار" 1924، أو ألبير لوندر وكتابه "اليهودي التائه وصل" عام 1930، والذي يحتفي فيه بالانبعاث القومي لليهود.
ويمتد ذلك إلى الأخوين جيروم وجان تارو اللذين وضعا كتابين يبديان فيهما إعجاباً لا حدود له بإنجازات الصهيونية، التي اجتذبت، باعتبارها عقيدة قومية مولودة في أوروبا، تعاطف الفاشيين من أمثال داريو لاروشيل الذي كتب في نص له سنة 1938: "ليس هناك من تكريم يقدم للفلسفة القومية أجمل وأفضل من ذلك الذي يصنعه اليهود الصهيونيون".
العرب بوصفهم "امتداد للنازي الأوروبي المضطهِد لليهود"
تمكنت الصهيونية، في سنتَي 1947 و1948 من إقناع الرأي العام بأنها حركة من حركات التحرر الوطني، وأن الفلسطينيين أنصار للنازية، كما لعبت مزاعمها على أوتار تتنقل بين الشفقة على ضحايا الهولوكوست والتضامن مع الناجين، وأن "الحراك" الصهيوني في فلسطين لا يختلف عن كفاح اليهود الأوروبيين ضد النازية.
بحسب المراجع، قد يكون جان بول سارتر أول من قدم الدعم السياسي والتنظير الفلسفي للصهيونية، وذلك عبر مقالته "تأملات في المسألة اليهودية" باعتبارها (أي الصهيونية) التمثل الحقيقي كممارسة يهود العالم لحقهم في الوجود الحر واتخاذ موقف يعبّر عنهم.
وكانت أطروحة سارتر هذه واحدة من أولى أوراق الدعاية الصهيونية وأهمها، إذ عدّ من يرفض الأخيرة داعماً للفكر النازي، وصوّر العرب على أنهم امتداد للنازي الأوروبي المضطهِد لليهود والمهدِّد لوجودهم. سرعان ما تم التوظيف الصهيوني لفلسفة سارتر ومفهومه عن معاداة السامية، وتم دمج وإلحاق مصطلح "معاداة الصهيونية" به، وسوف يتبنى تنظير سارتر للصهيونية عدد من فلاسفة أوروبا ويعملون به.
الدعامة الأساسية للإدعاءات الصهيونية كانت تتمثل كذلك في "العصبة الفرنسية من أجل فلسطين الحرة" وقد أنشأها سنة 1947 في فرنسا ناشطون قريبون من تنظيم الإرغون، وضمّت وجوهاً عديدة من الأنتلجنسيا مثل سارتر وسيمون دو بوفوار وريمون آرون وفلاديمير جانكيليفيتش وإيمانويل مونيه وجاك مادول وبول كلوديل وجول رومان وغيرهم.
حظر التمييز بين اللاسامية وبين مناهضة الصهيونية
صدرت في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي كتابات تتناول "النزاع" الدائر في الشرق الأوسط، لكنّ فلسطين (المسألة الفلسطينية) ظلت مطموسة في كل ما ينشر حتى تأسيس "منظمة التحرير الفلسطينية" عام 1964.
ومع ذلك، بقي سارتر مستمراً في تنظيره، وأكد سنة 1967 حظر التمييز بين اللاسامية وبين مناهضة الصهيونية. ثم احتل المشهد آخرون مثل أندريه نيهير وأرنولد ماندل اللذين أسبغا صفة القداسة على الدولة اليهودية وصفة الطهارة على قادتها.
أما أثناء حرب تشرين 1973 فقد كانت التغطية الإعلامية الأوروبية (كما هي اليوم) منحازة، وقد انخرط فيها عدد من مثقفي وفلاسفة المرتبة الأولى، منهم دو بوفوار، وعادوا للتشديد على اللاسامية العربية.
في النصف الثاني من السبعينيات، سلّم الجيل القديم هذه "الأمانة" كما يقول مردم بك، للفلاسفة الجدد مثل برنار هنري ليفي وأندريه غلوكسمان وآلان فنكلكروت، وعدّ هؤلاء اللاسامية معطى ثابتاً لا يتبدل، ووصفوا اليهودي بأنه ضحية ومنشق في جميع الأزمنة والأمكنة.
إذاً، على امتداد القرن العشرين، وحتى الأيام هذه، ثمة تقاطع لخطين اثنين في الفلسفة الأوروبية، والفرنسية تحديداً، حيال الصهيونية. الأول ينبثق من العداء العام للعرب والإسلام، فيما يتمثل الثاني بالوعي الأوروبي الشقي حيال الهولوكوست، والذي ترجم نفسه بانحياز عاطفي إلى اليهود كنقيض وترياق للاسامية: من الاقتناع بأن من واجب الغربيين الأخلاقي التعويض على اليهود إلى القبول بالمشروع الصهيوني.
في هذا الصدد، يقول الفيلسوف جيل دولوز: "كان الظافرون بين الذين تعرضوا لأكبر عملية إبادة في التاريخ. وقد صنع الصهيونيون من عملية الإبادة هذه شراً مطلقاً، بيد أن تحويل أكبر إبادة في التاريخ إلى شر مطلق ينمّ عن رؤية دينية وصوفية لا عن رؤية تاريخية. وهي لا توقف الشر، بل على العكس تنشره وتجعله يقع على أبرياء آخرين (الفلسطينيين)، كما تتطلب تكفيراً عن الخطأ يلقي على هؤلاء الآخرين قسماً مما كابده اليهود، كالطرد والحجز في معازل بشرية والاختفاء كشعب، وذلك بوسائل أكثر برودة من الإبادة، لكن بهدف الوصول إلى النتيجة نفسها".