الولايات المتحدة تقوم على سلطة رجال المال

هدف الدبلوماسية الأميركية الأول والأخير هو خدمة مصالح الولايات المتحدة الأميركية التجارية والسياسة الخارجية قبل كلّ شيء.

  • الحلم الأميركي
    الحلم الأميركي

الحلم الأميركي هو الحلم المثالي الذي ينبغي أن يتمتّع به كلّ مواطن في الولايات المتحدة الأميركية بفرص متساوية لتحقيق النجاح والازدهار.

أما بالنسبة للبلدان الصغيرة التي تجري على أراضيها النزاعات المحدودة، فهي تدفع بهذه الطريقة ضريبة السلام العالمي. وما ينزل بهذه البلدان الصغيرة من خسائر بشرية ودمار مادي، فهو يمنحها امتياز ضمانها الاضطراري لشرعيّة نظام عالمي نذر نفسه للمحافظة على وضع راهن يسحقها. 

الويل للبلدان الصغيرة التي يؤدّي تطوّرها الداخلي إلى تغيير نظام الحكم. فسترى إحدى الدولتين العظيمتين بأنّ هذا التطوّر من شأنه أن يزعزع التوازن العالمي. فكلّ شعب، مهما كان صغيراً يحقّ له بلا ريب، كما يقول جيفرسون أن "يحكم نفسه بنفسه بالشكل الذي يناسبه" وهذا ما قامت به الولايات المتحدة الأميركية، باسم الحلم الأميركي، عندما قطعت صلاتها بالتاج البريطاني. غير أنّ الحلم الأميركي لا سبيل له إلى الإفلات من قوانين التاريخ الصارمة. والتاريخ جعل من الولايات المتحدة أكبر دولة، والعالم بحاجة إلى السلام الذي أقيم على التوازن بين الدولتين العظيمتين. وإنّ مبادى حقّ تقرير المصير وعدم التدخّل، هي بلا شك، جدّ سامية   وتجذب بشدة البلدان الصغيرة التي يعنيها جيفرسون بقوله إنّ لها الحقّ في تغيير نظام حكمها بحسب مشيئتها"، إنما على البلدان الصغيرة أن تدرك أنّ حقاً، كهذا، منوط بالمفهوم الذي تتبنّاه الدولتان العظميتان في التوازن الدولي. مسموح للشعوب، بلا شكّ، بأن تحلم إنما عليها أن تبقى واقعية، وإلّا فالدمار مصيرها.

   استمرّت الفكرة التي كان يؤمن فيها كلّ من يعيش على أرض الولايات وخارجها على حد سواء. بأنّ أميركا هي أفضل حارس للكرامة والحرية  الإنسانيّين وفق ما أكده جون كندي بأنّ "الأميركيين هم الحرّاس على معاقل الحرية في العالم".  فهل ما زال الحلم قائماً؟ سؤال مهم يطرح نفسه. في عام 2020 أجرت المجلة الأميركية للعلوم السياسية تحقيقاً أوضحت فيه: أنّ الأميركيين أصبحوا أقلّ ميلاً إلى الاعتقاد بإمكانية تحقيق الحلم مع زيادة عدم المساواة في الداخل. 

إنّ أوّل من صاغ مصطلح الحلم الأميركي، كان المؤرّخ والكاتب الأميركي جيمس تراسلو آدامز. بوصفه الأرض الأميركية أرضاً تكون الحياة فيها أفضل وأغنى وأكثر اكتمالاً للجميع، مع إتاحة الفرصة لكلّ فرد بحسب قدرته أو إنجازه.

 اعتمدت الولايات المتحدة في سياستها الداخلية وبصياغة دستورها على كتاب روح القوانين الذي كتبه الفيلسوف الفرنسي والقاضي المرموق، أشهر فلاسفة عصر التنوير شارل لوي دي سيكوندا الملقّب بمونتسكيو (1689-1755)، والذي استمرّ بإعداده مدّة عشرين عاماً. وانتهج فيه مبدأ فصل السلطات الثلاث عن بعضها البعض ـــــ التشريعية والتنفيذية والقضائية ـــــ لكنّ التجلّي الأكبر لهذا الكتاب كان في استقطاب الآباء المؤسّسين للولايات المتحدة الأميركية وبالتحديد القائد العام للجيش القاري جورج واشنطن  الذي قاد التمرّد وانتهى بإعلان انفصال الولايات المتحدة الأميركية الثلاث عشرة عن بريطانيا العظمى في 4 حزيران/ يونيو عام 1776.

من هنا بدأت تتبلور نواة الحلم الأميركي في العالم، حيث تضامنت الأنظمة   الديمقراطية كلّها للدفاع عن الحقوق المقدّسة التي حمل الشعب الأميركي السلاح باسمها، أما في الواقع فمنذ الكسندر هاملتون مؤسّس الولايات المتحدة حتى هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركية، كانت أميركا  تستعمل لغة أخرى هي لغة التجارة وليست لغة الديمقراطية. لأنّ المصالح التجارية هي الأداة الأساسية التي تثير الكثير من الحروب وتبرّرها، ولخدمة هذه المصالح التجارية ينبغي ألّا يكون المرء ساذجاً وعميق الوجدان ولا حتى عميق الضمير. لأنه عند ما تُقدِم دولة أخرى على ممارسة سيادتها والقيام على مصالحها عبر تدابير لها ما يبرّرها، إنما تقوم على الإضرار بالمصالح الأميركية.

في كتاب "الحلم والتاريخ" أو مئتا عام من الحلم الأميركي"، يطرح المؤلف كلود جوليان فصولاً أربعة: الرأسمالية ضدّ الديمقراطية. ثانياً: النظام ضدّ الحريات، ثالثاً: العنصرية ضدّ المساواة وأخيراً: القومية الاقتصادية ضدّ الانطلاقة الديمقراطية.

  وكمؤشّر على عدم السعي لتحقيق الديمقراطية المنشودة. فقد اعترفت شركة بترولية بتوزيعها 46 مليون دولار على أحزاب سياسية إيطالية بين عامي 1963-1972 بغية الحصول على مزايا تشريعية وهدفها المزعوم هو تقديم الديمقراطية لإيطالية. كذلك عندما قدّمت شركة I.T.T شركة البرق والهاتف مليون دولار للإطاحة بنظام حكم سلفادور الليندي رئيس جمهورية تشيلي.

يحاول الكاتب نعوم تشومسكي في كتابه الذي يحمل عنوان "وداعاً للحلم الأميركي" والذي صدر عام 2017، فضح يوتوبيا ادّعاءات الليبرالية الجديدة وأوضح عدم المساواة وآثام مجتمع المستوطنات الأوروبية المحتلة التي قضت على حضارة سكان القارة الأصليين ودمّرت ثقافتهم ولغاتهم وطرق معيشتهم، كما اختطفت أبناء أفريقيا وبناتها وأتت بهم إلى هذه البلاد مكبّلين لتجعلهم عبيداً أرقّاء مسخّرين لزراعة القطن والتبغ من دون أجور.

 عندما نتغلغل في ثنايا هذا الكتاب الذي يقارب ثلاثمئة وستين صفحة، نرى أنّ هدف الدبلوماسية الأميركية الأول والأخير هو خدمة مصالح الولايات المتحدة الأميركية التجارية والسياسة الخارجية قبل كلّ شيء. ويؤكد هاملتون بأنّ السلطة يجب أن تقوم على "رجال المال" لأنهم أعقل أصدقاء الحكم الجيد"، ويقول "أليس حبّ الثروة هوساً لا يقلّ سيطرة وجسارة عن هوس القوة والمجد. أو لم تكن المصالح التجارية دوافع حروب تساوي عدد حرب الإرادة الجشعة في الاستيلاء على أراضٍ ومستعمرات"، "علينا أن نكون متأهّبين لإدانة الأعمال التي هي في الحقيقة قرارات منصفة تتخذها دولة مستقلة ذات سيادة. على أساس مصالح تخالف مصالحنا ونرى فيها شراً نُرمى به". هذا هو القانون الذهبي الذي سيكون رائد رؤساء وزراء خارجية، حتى أيامنا هذه، أليسوا مندوبين عن أولئك الذين كانت مصالحهم، منذ الموافقة على الدستور، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسلطة كي تضمن ما كان يسمّيه جورج واشنطن دونما إيضاح "وجود حكومة صالحة"؟ 

إن هدف الولايات المتحدة الأميركية ليس أمن حدودها، بل ثروتها الاقتصادية، ومن هذه الوجهة يكون الأمن الأميركي نسيجاً متفرّداً في العالم الحديث، فهي ما عرفت غزواً أجنبياً، وقبل اختراع الصواريخ العابرة للقارات ما خشيت قطّ من أن ينال أحد من أرضها، ولمدة طويلة ظلّت الدبلوماسية في أوروبا تستهدف الأمن، أما الولايات المتحدة الأميركية فقد استهدفت الازدهار.

يقول المؤلف: إنّ الرئيس جورج واشنطن كتب في رسالة وجّهها إلى الكولونيل جورج تايلور 1777 يقول فيها لا تختاروا ضباطاً إلا من السادة "الجنتلمان" والذين ينتمون إلى الطبقات العليا، ورداً على هذا القرار كتب أحد روّاد سيرته أنّ التجربة رسّخت ميول واشنطن الأرستقراطية فما ينبغي الاحتراس منه في اختيار الضباط هو ألّا يتقارب الضباط والجنود والأفراد كثيراً في أوضاعهم ومستوياتهم فتسلسل المراتب، غالباً ما ينتقل من الحياة المدنيّة إلى الحياة العسكرية. 

انبعاث الحلم

وأخيراً وبالعودة إلى عام 1776 ومقرّرات الدستور الذي يفترض بأن تتقدّم الديمقراطية على رأس المال، والحرية على النظام العقيم. والمساوة على التمييز العنصري وعلى الدفاع عن الامتيازات، والحقّ على القوة. وهذا لن يكون إلا بإصلاح المؤسسات وبكفاح يهبّ في وجه كلّ من يتجاوز السلطة. فمتجاوزو السلطة هؤلاء هم أعداء يُخشى جانبهم. وبنيامين فرانكلين قال منذ قرنين: "إنّ بعض كبار من قابلت من المحتالين كانوا أغنى المحتالين"، إنهم لا يزالون في الوجود أغنى وأقوى من أيّ وقت مضى. ومن خلال هؤلاء يقوم نظام بكامله، على رأسمالية تتجاوز شراستها حدود الظن. وينبغي الإطاحة بها إذا كان للحلم أن ينبعث. فهل يمكن الحلم بذلك؟ وهل يمكن أن يساعد الحلم على تحقيق الحلم؟

 وأخيراً: ثمّة مثلان مهمّان يدلّان على مدى خيانة التاريخ للحلم الأميركي: البترول والحروب.