النصر ما زال قائماً
تشنّ الرأسمالية حروباً اقتصادية وعسكرية لا هوادة فيها، تعلّق فيها جميع مبادئ الحرية والديمقراطية حتى داخل المجتمعات الغربية لحين استتباب الأمن الرأسمالي.
في كتابه "ملاحظات نحو تعريف الثقافة"، يطرح أحد أكبر المثقّفين المحافظين، ت.س. أليوت فكرة مفادها أنّ هناك لحظة في التاريخ الحلّ الوحيد فيها للحفاظ على الإيمان في ظلّ انتشار البدع والإلحاد، هو إيقاظ الانشقاق الطائفي من سباته.
كأنّ الرأسمالية اليوم تستمع إلى كلمات أليوت، فتعزّز الانشقاقات الدينية والطائفية والإثنية لتكون سلاحها في وجه المقاومين الذين لا يؤمنون بالحلّ الرأسمالي، ويحاولون شقّ طريقهم الخاص نحو مصالح شعوبهم، وكذلك في وجه أولئك الذين يروّجون لرأسمالية أخرى، غير إمبريالية، كما تفعل روسيا والصين وبقية دول منظّمة "البريكس".
تشنّ الرأسمالية حروباً اقتصادية وعسكرية لا هوادة فيها، تعلّق فيها جميع مبادئ الحرية والديمقراطية حتى داخل المجتمعات الغربية لحين استتباب الأمن الرأسمالي. عندها تمنح الشعوب حقّ تنظيم انتخابات على وقع الشروط الاستعمارية وتعلن الديمقراطية الليبرالية نجاحها في تطويع مجتمع جديد.
في الطريق نحو الديمقراطية المنشودة يعلن الجميع سعيه لتحقيق التماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية على قاعدة التعايش وقبول الآخر، والحاجة إلى العمل على تحسين الحالة العامّة للبلاد من دخل المواطنين، ورفع معدلات النمو الاقتصادي وتحسين الخدمات من صحة وتعليم ونقل. وسط فوضى الأمنيات والوعود تغيب الحقيقة الأيديولوجية البسيطة والرئيسة، من أنّ هذه الوعود تتناقض جذرياً مع فكرة السعي للجلوس في حضن الوحش الرأسمالي.
لا تعدم الرأسمالية وسائلها. إذ ينبري المثقّفون (المتحوّلون) ممن اشتهروا بتعداد عيوب الرأسمالية وكانوا قساة في نقدها، ليطرحوا معادلة جديدة؛ يعترفون أولاً بأنّ الرأسمالية جلبت الاستعمار والمجاعات والحروب، لكنهم يقرنون اعترافهم بحقيقة مفادها أنّ الرأسمالية أثبتت في الوقت نفسه أنها الطريق الأنجح (وربما الوحيد) للثراء والرفاه. الحلّ السحريّ بحسب هؤلاء يكمن في ترويض الوحش الرأسمالي بوضع المزيد من القواعد والضوابط لسلوكه، ثمّ إطلاقه في الأسواق العالمية لتحقيق فوائض الإنتاج وتوجيهها لإنجاز الرفاه العالمي.
الخطأ الوحيد في هذه الفكرة، أنها مثالية إلى درجة السذاجة. فهي تخفي عن عمد حقيقة مفادها أنّ انتعاش الرأسمالية لا يتحقّق إلا باستغلال الشعوب ونهب ثرواتها. فهل هذا هو الهدف الذي تسعى الرأسمالية لتحقيقه من خلال نشر ديمقراطيتها؛ استسلام الشعوب من دون مقاومة؟
أما الأكثر سذاجة فتصديق ادّعاء الدول الرأسمالية وعلى رأسها الولايات المتحدة أنها تدعم "الثورات" في سبيل جلب الديمقراطية أو الحرية أو الازدهار الاقتصادي. علينا إدراك حقيقة مفادها أنّ هذه الثورات المزعومة ليست سوى حروب بالوكالة تخوضها قوى مرتبطة بالاستعمار، في سياق الصراع العالمي الذي يدور بين القوى الكبرى. فالقوى الاستعمارية موجودة في كلّ ميدان حرب، من العراق إلى سوريا وليبيا واليمن وأوكرانيا، وهذه القوى تتدخّل بالعتاد والرجال لتغيير مسار المعارك في حال سارت الأمور بعكس المخطّطات الاستعمارية.
ما تفعله الولايات المتحدة اليوم هو تحويل العالم إلى إسبارطة عالمية مقسومة إلى 3 طبقات:
- طبقة الحكّام الذين يملكون السلطات السياسية والعسكرية والقانونية ويفرضون أيديولوجيتهم (الرأسمالية) على الجميع وتمثّل الولايات المتحدة منفردة هذه الطبقة.
- طبقة التجّار والصنّاع والمنتجين وتمثّلها دول أوروبا واليابان ودول آسيوية مثل الصين وكوريا الجنوبية ودول في أميركا اللاتينية مثل البرازيل والأرجنتين. تتكفّل هذه الطبقة بالإنتاج والتصدير وتحقيق فوائض القيمة التي يدفع جزء منها لطبقة الحكّام على شكل أتاوات من خلال استخدام الدولار كعملة رئيسة للتجارة العالمية، أو رفع موازنات الدفاع لهذه الدول باعتماد الأسلحة الأميركية، والالتزام بشروط اتفاقيات التجارة العالمية.
- طبقة العبيد وهي بقية دول العالم النامية والفقيرة الخاضعة بكلّ مكوّناتها للطبقتين السابقتين، وهذه الطبقة تتراوح بين العبودية الاقتصادية والسياسية، وشيء من الحرية الاجتماعية بحيث تظهر أمام شعوبها وكأنها دول مستقلة.
أي محاولة للإخلال بهذا النظام العالمي تستدعي حرباً شعواء غاشمة، لا تخضع لأيّ من المعايير القانونية أو الإنسانية التي طوّرتها البشرية منذ سقوط إسبارطة حتى اليوم.
هذه الرؤية للنظام الاستعماري ليست جديدة. فقد تحدّث عنها الزعيم السوفياتي، فلاديمير لينين في مؤتمر الأممية الثالثة عندما قال: "إنّ العالم ينقسم إلى أمم مقهورة وأخرى سائدة، وإنّ الأمم المقهورة تعدّ 70% من سكان العالم". لذلك رفعت الأممية الثالثة من أجل شعوب الشرق الشعار الآتي: "يا عمّال العالم وأيتها الشعوب المقهورة اتحدوا".
عاد المفكّر المصري، سمير أمين، ليطرح الفكرة نفسها قبل وفاته بحديثه عن ضرورة قيام "أممية الشعوب والكادحين". هذه الأممية هي أممية المقاومين للنظام الاستعماري العالمي من كلّ المشارب الفكرية والاجتماعية، لا تحدّها الجغرافيا بل ترسم حدودها فكرة المقاومة.
لقد كشف الاستعمار عن وجهه القبيح في غزّة ولبنان والعراق واليمن وليبيا وفنزويلا وإيران، وأثبتت المقاومة قدرتها على خوض الحرب، وهي رغم خسائرها الكبيرة استطاعت الصمود في حروب لم تشهد البشرية مثيلاً لها عبر تاريخها.
المعركة ما زالت قائمة، ونتائجها النهائية مرهونة بالمستقبل، ومهما ادّعى العدو وحلفاؤه من تحقيق انتصارات فإنّ ذلك إنجاز لحظي لا يقلّل من قدرتنا على امتلاك المستقبل بعد أن امتلكنا خبرة الصمود وخوض الحرب، وبنينا مشهداً محلياً ودولياً مدركاً لعدالة مطالبنا وداعماً لقضيتنا. نصرنا سيصنعه مقاتل على الجبهة، ومتظاهر في الشارع، وطفل يرفض شراء قطعة حلوى لأنها مقاطعة.