الفن التشكيلي الفلسطيني يوثق جرائم الاحتلال
كيف نجح الفن التشكيلي الفلسطيني في توثيق جرائم الاحتلال بصرياً؟ وكيف كان رديفاً للثائرين على الظلم؟
على مدى 75 عاماً استطاع الفن التشكيلي الفلسطيني أن يكون فعلاً من أفعال مقاومة الاحتلال وفضح ممارساته، وعلى اختلاف الأساليب. إلا أن المصورين الفلسطينيين جاهدوا بريشهم وألوانهم وخطوطهم، مُقدِّمين صوراً ستبقى في الذاكرة عن عنجهية الاحتلال الإسرائيلي، وثبات الإنسان الفلسطيني في مواجهة المظالم والجرائم، بحيث باتت أعمالهم بمنزلة معرض استعادي قادر على توثيق ما مرت به فلسطين وشعبها منذ النكبة، وحتى آخر ممارسات العدو الصهيوني المستمرة على غزة حتى الآن.
من خلال هذا التحقيق نرصد آراء بعض الفنانين الفلسطنيين حول قدرة الفن التشكيلي على توثيق جرائم الاحتلال بصرياً، وكيف كان رديفاً للثائرين على الظلم.
**
الفنان بشار خلف من رام الله قال في تصريح خاص بــ "الميادين الثقافية": "إن المثقف والفنان عملا على مواجهة المشروع الصهيوني منذ بدايته عبر أدوات الثقافة في مختلف حقولها، ما أوجد منبراً لا يقل أهمية عن المنبر الثوري والسياسي بل هو موازٍ له في بعض الفترات، نتج منه خطاب ثقافي نقل بدوره القضية الفلسطينية إلى العالم برؤية "توثيقية" بعد النكبة 1948، "ورمزية" بعد النكسة 1967، "ونقدية تحررية" بعد الانتفاضة الأولى 1987 مروراً باتفاقية أوسلو 1993، والانتفاضة الثانية 2000، وصولاً إلى يومنا الحاضر".
وأوضح خلف رأيه بأنه بعد النكبة عايش مجموعة من الفنانين مأساة الإبادة والنزوح من أراضيهم التاريخية، فلم يتوانوا عن توثيق ما وقع على أجساد أبناء شعبهم وذاكرتهم وأرضهم، إذ وثقوا بأعمالهم الفنية سرديات توضح ما مورس عليهم، فكانت شاهداً حيّاً على الجريمة، يعزز من الوعي وإظهار التاريخ كأداة قوة يستثمر فيها للمطالبة بأحقية العودة إلى كامل التراب التاريخي لفلسطين، سواءً أكان إنتاجهم داخل فلسطين أو خارجها من مخيمات النزوح في الدول العربية المجاورة.
وأضاف أنه بعد تأسيس "منظمة التحرير الفلسطينية" عام 1964، واندلاع الثورة الفلسطينية بقيادة حركة فتح عام 1965 في الخارج، أصبح الفلسطينيون ينتشون بشعور القوة واستعادة الكرامة، طامحين بمشروع مقاوم من شأنه أن يستعيد الحقوق، فشكلت المنظمة والثورة حالة أشبه بمظلة استثمر فيها الفنان الفلسطيني لإنتاج أعمال في سياق أشبه بالفعل المقاوم من جهة، ووصف الممارسات الصهيونية من جهة أخرى، فخلق حيزاً جديداً لإنتاج المعنى والخطاب الذي تشكل من خلال رمزيات وأيقونات انتشرت غالبيتها من خلال البوسترات، ما ساهم في تثبيت مسألة الهوية، التي كان من شأنها تعزيز وعي المجتمع الفلسطيني في سياق محلي، ووعي المجتمعات الخارجية في سياق عالمي، استمر هذا النهج إلى فترة ما قبل الانتقاضة الأولى، وانحسار منظمة التحرير بعد حرب بيروت والخروج عام 1982.
يتابع ابن رام الله أن انحسار منظمة التحرير انعكس في بدايته على شكل حالة من الفراغ والعجز في الشارع الفلسطيني، إلى أن اندلعت الانتفاضة الأولى "انتفاضة الحجارة"، والتي بدورها ارتكزت على ابتكار فعل جمعي للفلسطينيين في مقاومة الاحتلال من خلال أدوات بسيطة مثل الحجر، يؤكد على التمسك بالقيم والثوابت الوطنية، وتعزيز الهوية مجدداً.
وقال خلف: "لاقى هذا الأمر التصاق للفنان مع الشارع بشكل مباشر، فعبر عن هموم الشعب وتطلعاته في سياق منعزل إلى حد ما عن المأسسة، فبدأ الفنان يشق طريقه بإعادة النظر في كيفية صوغ خطابه إلى الآخر محلياً وعالمياً. لم يكن من السهل في هذه المرحلة التحرر من النماذج البصرية المعتادة سابقاً، ولكنه ابتكر أدوات وخطابات متجددة، مثل "جماعة التجديد والإبداع" التي نصت على مقاطعة أدوات وخامات فنية تقوم بتصنيعها واستيرادها الجهات الإسرائيلية، فتعززت حالة الوعي أكثر من خلال الاستثمار في خامات الأرض الطبيعية".
وأضاف: "تدحرج هذا النهج إلى مرحلة عودة المنظمة من الخارج وتشكيل الحكومة الفلسطينية التي وقعت على اتفاقية أوسلو. ساهمت الاتفاقية في خلق شرخ في النسيج المجتمعي وعلاقته مع الممثلين الشرعيين للقضية الفلسطينية، ما أدى إلى تغيير في بوصلة الخطاب، لنجد أنها اتخذت قالباً نقدياً لفعل السياسة وانعكاساته على البنية المجتمعية. وفي هذه المرحلة أيضاً، بدأت البنية التحتية والفكرية بإنشاء مؤسسات ثقافية عدة، كوزارة الثقافة الفلسطينية، ما أدى إلى فتح الأفق للفنان الفرد بالاحتكاك مع المؤسسات التي بنت شراكات مع مستويات ثقافية مختلفة حول العالم، لتشكل ممراً جديداً لنقل الخطاب من خلال حضور الأعمال الفنية المتعددة التقنيات في غالبية المحافل الدولية بتصنيفاتها المختلفة، لا سيما أن الانفتاح على العالم من خلال الإنترنت كأداة انبثقت عنه كثافة ضخ التجربة الفلسطينية إلى جغرافية الوطن وخارجه".
وتابع خلف: "عند التدقيق أكثر في هذا الموضوع، فإننا نستعرض عصر الصورة الرقمية، التي تلعب دوراً حاسماً في نقل الخطاب الفني إلى كل بقاع الأرض، وهذا تحديداً ما نلمسه اليوم في كيفية التعبير عن الإبادة الجماعية التي تمارس على الفلسطينيين عموماً، وقطاع غزة بشكل خاص".
أما الفنانة أفياء نواصرة فتوافق خلف في أن الفن التشكيلي الفلسطيني لطالما وثّق جرائم الاحتلال الصهيوني منذ 1948 وحتى اليوم، لكنها تؤكد في تصريح خاص لـ "الميادين الثقافية" أن كل لحظات التوثيق اللحظية أُنتجت ليس بصفتها توثيقاً بل باعتبارها الطريقة الوحيدة للتعبير عن مشاعر القهر، مبينةً أنه بعد مرور سنوات على الأحداث الكبرى للجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني عمد العديد من الفنانين إلى فعل توثيق الجرائم.
وقالت نواصرة: "من أمثلة الفنانين الذين وثقوا فعل التهجير والمجازر كان الفنان إسماعيل شموط أولهم إذ كان له العديد من الرسوم التي وثقت مجزرة ياسين بعد سنوات من المجزرة كما وثق فعل التهجير بالعديد من اللوحات أولها لوحة "إلى أين؟"، وزوجته تمام الأكحل كان لها العديد من التجارب في توثيق التهجير في أعمالها الفنية إذ اعتمدت أعمالهما على فعل التوثيق للجرائم التي مورست بحقهم، وهناك أيضاً الفنانة الفلسطينية العالمية سامية حلبي التي رسمت سلسلة من الأعمال التي وثقت بها مجزرة كفر قاسم، وأغلب الفنانين التشكيليين الفلسطينيين رسموا تعبيراً عن الأسى الذي شعروا به أكثر من القصدية للتوثيق.
وأضافت: "اليوم اختلفت مفاهيم الفنون وأخذت مساراً أكثر معاصرة، فأصبح الاحتلال يلحق الأذى بصورة أكبر مع تنوع أدواته، فصار الفنان يحكي قصته الشخصية في أعماله، وهذه القصة مع مرور الوقت أصبحت شاهدة من الشواهد على فعل الاحتلال ومجازره، كما أن الأساليب الاستعمارية تطورت وباتت أكثر وحشية وتنوعت، فكل ما يرسم هو نتاج للفعل الاستعماري القاسي سواء ظهر ذلك بصورة واضحة باللوحة أم لا، فكل الفن التشكيلي المنتج في فلسطين هو شاهد ومادة أرشيفية تتشكل مع مرور الزمن لتكون شاهداً حقيقياً للواقع تحت الاستعمار يبدأ من الحاجز وينتهي عند توثيق المجزرة".
من جهته، أوضح الفنان جاسم شومان من البيرة أن الفن لغة للتعبير الفردي أحياناً والجمعي في أحيان أخرى، إذ استعمله الفنانون كأفراد واستعملته السلطات أيضاً على مر العصور لتمرير رسائلها المصورة للنصر ولتمجيد القائد، أو لنشر أيديوليجياتها إلى المجتمعات التي تحكمها أو إلى المجتمعات والأنظمة الأخرى التي تريد إيصال رسائلها لها.
وقال شومان: "لذلك نرى توظيف نابليون بونابرت لفنانين مثل جاك لويس ديفيد ونيكولاس شارليت وغيرهما كآلة إعلامية للحرب، مروراً بتمرد فنانين مثل الإسباني فرانسيس غويا الذي ندد بآلة الحرب وصور ويلاتها ومآسيها في أعماله بدلاً من تمجيدها، ومن ثم تبعه في ذلك فنانون مثل الألماني أوتو ديكس في الحرب العالمية الأولى في معرضه "الحرب" وصولاً إلى "الغورنيكا" أيقونة الإسباني بابلو بيكاسو. لنرى كيف تغيرت العلاقة بين الفن والحرب على مر العصور لتصل إلى ما نعرفه من نظرة تنزيهية شائعة للفن بمجملها في يومنا هذا".
وأضاف: "في هذا السياق، سياق الفن والحرب، أدلى الفن الفلسطيني بدلوه وقال مقولته، بدءاً من فطرية الفنان عبد الحي مسلم في أوائل القرن الماضي، وصولاً إلى معاصرة كوفية الفنان عصام الحاج ابراهيم، مَرَّ الفن الفلسطيني بعدة مراحل على يد رواده الأوائل كإسماعيل شموط الذي أسس قسم الثقافة الفنية في دائرة الإعلام والتوجيه القومي التابع لمنظمة التحرير، ومن تبعه من الرواد أمثال مصطفى الحلاج وسليمان منصور وكامل المغني وغيرهم الكثير ممن أمدوا الحركات الثورية الفلسطينية المقاومة بالمحتوى البصري المعبِّر عن آمالها، ومجّد المقاومة وعمل على التعبئة البصرية والفكرية للجماهير".
هكذا نجد بأن الفن عموماً والفن الفلسطيني خصوصاً لعب دوراً هاماً على صعد عدة، فهو فعل تعبير وفعل احتجاجي، وفعلٌ مقاومٌ مجابه، وله دورٌ هامٌ في التوثيق والأرشفة، وفي ترسيخ الذاكرة، وفي إبقاء هذه الذاكرة حيةً من خلال صناعة الرمز.
وأوضح شومان: "قول الفن بتعبيره بصرياً عن وجهات النظر المتبناة من قبل الفنان ومجتمعه وقضيته إنما هو فعلٌ إنساني مشترك بين الفنان والمتلقي بوسيط هو العمل الفني. وهو ليس فعل تعبيرٍ فقط بل هو نوع من الاحتجاج والإدانة والتوثيق، ومناشدة لثقافات السلام للأمم الأخرى -على حد قول الدكتور حسين بداي-. هذا إضافةً إلى كونه فعلاً مقاوماً مجابهاً بحقيقة رفضه للواقع وتعريته وتنكيله بالحرب أمام الأنظمة والسلطات، بجانب عمله المهم في توثيق المآسي والجرائم على شكل كتلة بصرية عاطفية تعبيرية من خلال الوجود الفيزيائي لوسيط العمل الفني الذي يعملُ لاحقاً وظيفةً أرشيفية مهمة يرجع لها التاريخ والباحثون في سياقه الزمني".
وأضاف: "ناهيك بدوره في ترسيخ الذاكرة للمجتمعات المضطهدة ومن ساندها من خلال لغته العالمية البصرية التي تقتحم حدود اللغة، فتنشأ لديهم ذاكرة صورية عن هذه الحقبة الزمنية وعن الصورة العامة للقضية، ويستمر في حواره هذا مع الذاكرة من خلال رموزه المطروحة والتي إذا ما علقت في الذهن على هيئةِ دالٍ "رمز" يشير لمدلولٍ يُعاد للأذهان كلما طُرقَ هذا الرمز واستخدم، كما في حنظلة ناجي وجمل سليمان".
أما الفنانة منال ديب فأشارت إلى أنه من المؤكد بأن الفن لا يستطيع منع الكارثة الإنسانية، ولا يتمكن من حماية المدنيين الغزيين من قصف الطائرات وصواريخ العدو، لكنه قادر على تجسيد جرائم الحرب المرئية، ورفع الروح المعنوية عند المتلقين للأعمال.
وأوضحت "ربما تكون ثيمة الذاكرة هي الأكثر هيمنة في كثير من أعمال الفنانين الفلسطينيين، ومنهم أنا، إذ ما زلت حتى اليوم وأنا المقيمة في أميركا أتلمس أيام طفولتي وصباي في رام الله، وأتذكر القدس وبقية المدن الفلسطينية التي مرّرت بها أو شاهدتها عبر الصور الفوتوغرافية والتلفزيونية والسينمائية، فأسترجعها في أعمالي فنية، ومنها لوحة "إلى الأبد في عقولنا" التي أتذكر فيها أفراد الأسرة الفلسطينية، مُخرِجةً الدلالة من إطار الذات إلى الموضوع، متجاوزةً الخاص إلى ما هو أعمّ وأشمل".
وقالت ديب: "أؤمن بأن الفن عبارة عن مقاومة متخفية الأثر في بواطن الأعمال وتعبيراته، ومن خلاله أستطيع أن أُصرِّح وبشدّة عن الحرب في فلسطين، وآلام الفلسطينيين على مختلف الجغرافيا الفلسطينية، بحيث يتحول الفن إلى نافذة تطل على فلسطين وآلام شعبها".