الفنون البصرية والأدب... أين يلتقيان؟
هناك علاقة وثيقة بين الأدب والفنون البصرية، فكيف يلتقي هذان العالمان؟ ومن هم الكُتّاب الذين كانوا رسامين أيضاً؟
ارتبط الأدب بالفنون البصرية، ومثّلت المدارس الفنية والأدبية روافد مشتركة، سواء على مستوى التنظيرات الفكرية أو الرؤى الجمالية. فكيف تداخل هذان النشاطان الإبداعيان؟ ومن هم أبرز الكُتّاب الذين استلهموا أعمالهم من الفضاء البصري، والفنانين الذين استمدّوا ثيمات أعمالهم من التمثّلات النقدية في حقول الكتابة؟
كتب وروايات عن الرسم والرسامين
في كتابه "حياة وفنّ أوجين ديلاكروا"، أعلن الشاعر شارل بودلير افتتانه بأعمال هذا الرسّام، متحدّثاً عنه بقوله: "إنه أكثر الرسامين إيحاءً بالمشاعر التي اعتقدنا أنّها دُفِنت إلى الأبد في الماضي السحيق، وذلك من خلال لوحاته".
وتتجلّى عبقرية ديلاكروا أيضاً في أنّه كان دائم البحث عن طرق التعبير عنها بشكل واضح. وينبع تفرّدها من قدرته الاستثنائية على الخيال، وهي القدرة الأكثر أهمية عندما تكون الموهبة في خدمتها. بينما ذهب ديلاكروا في ردّه على شارل بودلير، بقوله إنّ القلم، أي الكتابة، ليست أداته. وليس أدلّ على اهتمام الشاعر بعمل الرسام أكبر من أنّه اقتبس من كلامه 59 مرةً في كتابه.
بينما ذهب الأكاديمي جون إيف تاديه، في كلامه حول الرسم في سُباعية "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست، إلى أنّ هذه التحفة تزخر بمناخات ثالث الفنون، وتسلّط الضوء على رسامين اهتمّ بهم الروائي، منهم لوفيل هاريسون، وإيلوار فيبار، وبول سيزار هللو، وجيمس ويستلر، ليصل عددهم في الرواية الضخمة إلى أكثر من 130 رساماً.
وليس اختراع شخصية "الستير" سوى تأكيد على شغف بروست بهذا العالم المملوء بزمنٍ آخر، يتعالق فيه السؤال بين نشأة العمل الفني وظروف الكتابة لاحقاً. ويعلّق جون إيف تاديه بأنّ هذه الرواية تبدو وكأنّها وُلِدت من الرسم، وكتبت عن الرسم، وتمّت قراءتها من خلال عددٍ لا يُحصى من اللوحات.
بينما نجد روايات شتى انشغلت بالنحت والنقش، شرقاً وغرباً، يمكن الإشارة من بينها إلى رواية "اسمي أحمر" لأورهان باموق، ورواية "الفتاة ذات القرط اللؤلؤي" لتراسي شوفالييه، التي ترصد علاقة العبقرية بتصيّد البراءة والحيوية لإنتاج لوحة خالدة.
أما الكاتب الروسي ديمتري ميرجوكوفسكي، فقد كتب رواية تضمّنت سيرة ليوناردو دافنشي، المعروف بموهبته وإلهامه النادرين. وقد استغلّ سيغموند فرويد هذه الرواية ليشرح دور ذكريات الطفولة في تطوير واحد من تحاليله النفسية حول رمزية العذراء ويسوع عند دافنشي، الذي حلم وهو صبي صغير بالطيران، ليختم الكاتب بقوله إنه: "بدا له الأمر مهيناً، لأنّ الرجال ليسوا مجنّحين".
كما أنّ رواية غوستاف لوكلوزيو، "دييغو وفريدا"، فهي تتبُّعٌ سردي للارتباط الغريب بين رسامين شغلا المكسيك والعالم، فكيف لعبقري الجدرايات الثوري، المؤمن بالعمال والفن، أن يرتبط بفتاة هشة قادمة من عالم الأزتيك، ومنكبّة على تجسيد مأساتها على قماشة اللوحة، والتي علّق والدها على زفافها بدييغو بأنه سيكون "زواج حمامة وفيل".
وبالنسبة لمجموعة القصائد التي كتبها واليز ستيفنس، التي حصد بفضلها جائزة "بولتيرز" للشعر، فهي تضمّ نصاً شعرياً بعنوان "قصيدة الرجل ذو القيثارة الزرقاء"، مستوحى من لوحة بيكاسو التي تحمل الاسم نفسه، وهي تعبر في جوهرها عن دور الفن في حياة الفرد، حيث "الخيال هو حرية الروح. فيما تروي رواية "الفردوس على الناصية الأخرى" (2003)، لماريو فارغاس يوسا، فهي تروي سيرة النسوية الفرنسية البيروفية فلورا تريستان، وحفيدها الرسام بول غوغان، وهما شخصيتان ستتحولان في الرواية الى أشخاص آخرين، ليصل يوسا إلى أن الفردوس مطمحٌ عسير المنال.
كُتّاب كانوا يرسمون
هناك كُتّاب وشعراء وقعوا في غرام الألوان، وأغواهم سحر المساحات والخامات المتعددة التي يمكن أن تكون وسيلة أخرى للتعبير، منذ الإغواء الأول لرسالة هوراس، إلى آل بيزون التي تمّ تفسيرها على أنّ الأدب نتاج محاكاة مشابهة للرسم، وهو تفسير مخالف لفكر العصور الوسطى، حيث كان ينظر إلى الرسم كنموذج للأدب باعتباره تجسيداً للواقع وطريقة أخرى لفهمه.
ونشير في هذا السياق إلى الأديب الهندي طاغور، الذي ترك ما يقارب 2000 عمل فني، فقد شعر برغبة في الرسم وهو في سن الـ67، بعد أن تُرجمت أعماله إلى أغلب اللغات في العالم، وحظي بشهرة واسعة. وقد عُرِف عن طاغور أنّه تحوّل إلى رسام دؤوب رغم أنه كان يعتبر هذا النشاط الفني "نزوات"، إلا أنّ منجزه البصري عُرِض في غاليرهات لندن ونيويورك وبرلين والهند، وكان يستعمل لإنجاز لوحاته قلماً وسكّيناً وإسفنجة مبللة بالألوان.
وكان جان كوكتو يعتبر جدارياته العملاقة في كاتدرائية "سانت بيير" الأثر الفني الأساسي في حياته، وأطلق على شخوص المشاهد التي رسمها اسم "أشباح الألوان". ومعروف عن هذا الكاتب المتعدد المواهب أنّه أنجز بنفسه أغلفة كتبه ورسوماتها، وجمع بعض رسوماته المعروفة في كتابٍ أطلق عليه اسم "شعر غرافيكي"، وكان يقول إنّه على الفنان أن يكون في خدمة "بنات الفن السبع"، وهُنّ بنات "زوس" في الميثولوجيا الإغريقية، وكان يضيف إلى ذلك فن السينما.
وكان رافائيل ألبرتي، الشاعر الإسباني المعروف بكتابه "الملائكة"، قد انجذب هو أيضاً إلى الرسم منذ أن كان عمره 16 عاماً في مدريد، حيث عُرِضت لوحاته أول مرة عام 1918. ورغم أنّه ظلّ وفياً للشعر إلا أنه لم ينسَ عالم الفرشاة، ونشر في العاصمة الأرجنتينية بيونس أيرس، التي عاش فيها 15 عاماً، كتاباً بعنوان "قصائد غنائية مترجمة غرافيكياً".
لم يبدأ الأديب الألماني غونتر غراس حياته كاتباً، إنما انغمس في عالم النحت والرسم والغرافيك، واستفاد من هذه الأشكال الفنية بإنجازها على نصوصه الأدبية، وتحوّلت أعماله إلى أغلفة لكتبه. وكان غراس عضواً في مجموعة برلين للكُتّاب الرسامين، ورغم أنّه لُقِّب بـ"صاحب الرواية المفتاح للواقعية السحرية الأوروبية"، إلا أنّه كان في رسوماته يميل إلى تصوير الحيوانات، وكان يعتبر الفن "معركة حتى النهاية، حيث الفحم الأسود والورق الأبيض".
عُرِف هنري ميشو بأنّه شاعر العوالم الداخلية التي تصل إلى حدِّ الهلوسات، وبأنّه رسام مفتون باستخدام تقنية الحبر الصيني، حيث عُرِف عنه شغفه بالخط الصيني. صاحب الـ30 مجموعة شعرية، نشر كتاباً بعد رحلته إلى الصين والهند ودول شرق آسيا، الذي حمل عنوان "بربري في آسيا"، ولخّص رحلته بأنّها كانت مناسبة ليحصل على طريقة جديدة للنظر إلى الأشياء. وقد انعكس ذلك على طريقته في الرسم وهي الطريقة "التبقيعية".
لم يشذّ هيرمان هسه عن السير على خطى الكتّاب الشغوفين بالرسم، حيث بدأ مؤلف رواية "ذئب البراري" الرسم بعد الصدمة التي خلّفتها الحرب العالمية الأولى، وكذلك حادثة طلاقه، فقد كان عصامياً وجد متنفَّساً في نقل المناظر الطبيعية من ولاية "هيسن"، مستخدماً ألواناً غنية وإضاءة خافتة، غالباً ما تعكس نزوعه نحو التأمل والبحث عن نافذة أخرى يتنفس منها عدا الكلمات.
واعتبر مؤلف كتاب "النبي"، جبران خليل جبران، الذي تُرجِم عمله المذكور إلى أكثر من 40 لغة، من أكثر كتاب القرن الـ20 الذين شُغِفوا بالرسم.
وذكر الباحث صبحي حبيشي، في دراسته حول جبران بين الرسم والشعر، أنّ رسوماته الموزعة بين لبنان والولايات المتحدة يتجاوز عددها المئات، وأنّ إنتاجه المشهدي/البصري يستحق دراسته، ليثمن وجهة النظر الصارمة لتاريخ الفن، ولكن في علاقته بالتيارات الفنية الرسمية في القرنين الـ19 والـ20. ولم تشذّ لوحات جبران عن منحاه الشاعري الذي انغمس في قداسة روحية، امتزجت من خلالها روحانية مسيحية بتصوف حدسي، يبحث عن السماوي بين الكائنات الأرضية.