هل ألهم "حنظلة" رسامي الكاريكاتور أم أتعبهم؟
عبر "حنظلة" نجح ناجي العلي في وضع بصمة فارقة في تاريخ فنّ الكاريكاتور العربي. أين أصبح هذا الفنّ اليوم؟ وأيّ تحديات يواجهها رسّامو الكاريكاتور؟
من كان يعتقد أن رسمة خُطّت بقلم رصاص لطفل يدير ظهره للقارئ ويعقد يديه خلفه، بلا ألوان أو ملامح أو تعابير، ستتحوّل إلى رمز للقضية الفلسطينية. هذا ما حدث بالفعل عندما أطلق الفنان ناجي العلي شخصيته الكاريكاتورية "حنظلة" لأول مرة عام 1969.
منذ ذلك الحين، وعبر عشرات الرسومات التي عبّر فيها "حنظلة" عن الواقع العربي والدولي وحال الفلسطينيين في الداخل والشتات، نجح العلي في وضع بصمة فارقة في تاريخ فنّ الكاريكاتور العربي. إذ حرّره من دائرة السخرية الاجتماعية الضيقة إلى فضاء أرحب أسماه البعض بـ"المقاومة الساخرة".
ومنذ بدأ صاحب "حنظلة" بنشر رسوماته وحتى تاريخ اغتياله في لندن عام 1987، سخّر العلي رسوماته لتجسيد القضية الفلسطينية، وتوصيف أسباب الهزائم والنكبات العربية، على نحو لا يخلو من السخرية السوداء.
وإلى جانب سخريته الجريئة ذات السقوف المرتفعة التي لم تعجب بعض الأنظمة العربية في وقتها، كانت المقاومة الفلسطينية عنواناً بارزاً في الكثير من رسوماته، حتى قيل إن: "الرصاصة التي في داخل قلم الفدائي ناجي العلي لا تقل أهمية عن الرصاص في بندقية المقاوم، الواقف في وجه الاحتلال الإسرائيلي".
لكن ناجي العلي، رغم ذيوع صيته، لم يكن أول رسام كاريكاتور عربي. فقد سبقه العديد من مشاهير هذا الفن الذي بدأ عربياً في مصر مطلع خمسينيات القرن الماضي. وقد دفع هذا الفن، بما يحمله من رسائل علنية ومبطّنة حول العديد من القضايا، دفع الأنظمة العربية إلى التضييق على الرسامين والمجلات والصحف بشكل مباشر وغير مباشر، وصولاً إلى ما نشهده اليوم من تطوّر تكنولوجي حيّد الصحف الورقية لصالح "الإنترنت" ومنتجاته ومنصاته الاجتماعية لاحقاً.
إلا أن قصة ناجي العلي مع القضية الفلسطينية والمقاومة، بقيت مصدر إلهام لعدد كبير ممن تبعه بفن رسم الكاريكاتير، خاصة الذين التحقوا بمدرسته القائمة على مبدأ تبنّي القضايا الوطنية. حيث بقي لديهم إيمان قوي بأن هذا الفن ما زال قادراً على إحداث فرق في نفوس ونمط تفكير الجمهور، رغم تراجع عدد رسامي الكاريكاتور ومتابعيه على السواء، كما هي الحال مع رسام الكاركاتور الأردني بهاء سلمان، الذي يصر على أن "رسام الكاريكاتور صاحب رسالة، ولا بد أن يبقى متمسّكاً بإيصالها لجمهوره مهما انخفضت سقوف الحريات، وتغيّرت المفاهيم والتعاريف والأدوات".
سلمان الذي يحاول جاهداً التمترس خلف أوراقه البيضاء، والقبض على أقلامه التقليدية، رغم أنه لم يسلم من "طوفان" التكنولوجيا والحداثة، يقول في لقاء خاص مع "الميادين الثقافية" إن: "فنّ الكاريكاتور ليس مجرد مجموعة من العناصر المجمّعة داخل عمل فني، بل يجب أن تحمل كل رسمة موقفاً ثابتاً وقضية واضحة للرسام، إن كان عن طريق السخرية تارة أو بالرمز والتمويه تارة أخرى، حتى يترك الرسم أثراً لدى المتلقّي، وهذا الأمر سمة ثابتة لدى الرسّامين، وتحديداً أولئك المؤمنين بالقوة التأثيرية للكاريكاتور".
لكن سلمان لم يخفِ انزاعجه من التغيّر الكبير الحاصل داخل وسطه الفني، فخلال العقدين الأخيرين حصل إفراغ لقيمة الكاريكاتور، بتأثير من سياسات المؤسسات الإعلامية التي غيّب العديد منها قضايا الأمة العربية عما تنشره، على عكس ما كان في السابق من اتفاق جميع رسامي الكاريكاتور على "البوصلة" (بالإشارة للقضية الفلسطينية والمقاومة الشعبية).
وأضاف: "كانت قضايا الأمة هي محور رسوماتهم مع اختلاف القالب والتعبير والموقف، اليوم ترى صحفاً تتجاهل بشكل مقصود أحياناً تناول القضايا المفصلية في عالمنا العربي، والترويج، عن طريق الرسومات، لقضايا أخرى غير محورية للجمهور، وهذا الأمر يرقى لأن يكون تلاعباً في أفكار المتلقّي، وتشويهاً لمكانة وقيمة رسام الكاريكاتور وفنه النبيل، لذلك تراجع خلال هذين العقدين عدد رسامي الكاريكاتور العرب، وباتوا قلّة في الوسط الفني والصحافي كذلك".
لكن رغم ذلك يعترف سلمان بأن ما يجري من اعتداء همجي إجرامي "إسرائيلي" في قطاع غزة، والمشاهد البطولية للمقاومة الفلسطينية وصمود الغزيين، "أعادت إشعال لهيب الثورة والغضب داخل صدور رسامي الكاريكاتور، وأصبح من الصعب عليهم وعلى غالبية المؤسسات الإعلامية تجاهل ما يجري هناك".
سلمان الذي بدأ رحلته مع فن الكاريكاتور قبل ما يزيد عن 20 عاماً، استبعد أن يكون دخول التكنولوجيا إلى عالم الكاريكاتور وانتقال عملية النشر من الصحف الورقية إلى الإلكترونية أو منصات التواصل الاجتماعي، استبعد أن يكون سبباً في تراجع قيمة فنّ الكاريكاتور أو مكانة الرسام، بل على العكس، ساعد هذا التطور والانفتاح على الانتشار الأوسع والأسرع أيضاً للرسومات الكاريكاتورية، وجعلت الرسامين قادرين على تلقّي ردود أفعال الجمهور بشكل مباشر، مشيراً إلى أن طريقة النشر التقليدية القديمة خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي لم تمكّن الرسام من معرفة حجم تأثير رسوماته على الحالة الاجتماعية.
كما أن سلمان الذي يعدّ من جيل الرساميين التقليديين، أي ما قبل الثورة التكنولوجية، يعتقد أن الموهبة التي يمتلكها العديد من رسامي الجيل الجديد لا تكفي وحدها لإخراج أعمال كاريكاتورية ناضجة، بل يحتاج فنانو هذا الجيل إلى توسيع قواعدهم المعرفية حيال الأحداث الجارية وغيرها، وتثقيف أنفسهم بشكل أكبر مما هم عليه الآن، ليكونوا قادرين على مخاطبة جمهورهم، وتقديم أنفسهم بشكل يليق برسام الكاريكاتور المحترف.
الكاريكاتور بين جيلين
يتفق العشريني إيهاب حصوة، وهو أصغر رسام كاريكاتور أردني، مع رأي بهاء سلمان حول أهمية توسيع رقعة المعرفة لدى ممتهني فنّ الكاريكاتور، لكنه في الوقت نفسه يعتبر أن تنوّع مصادر المعلومات في الوقت الحاضر، وسهولة الحصول عليها، يعطي أفضلية للأجيال الجديدة من رسّامي الكاريكاتور عن سابقيهم، الذين لم تكن التكنولوجيا الحالية متاحة لهم، "ربما كان يحتاج رسّام الكاريكاتور سابقاً إلى مجهود كبير حتى يحصل على معلومة ما أو التأكّد منها، أما اليوم فيمكن ذلك بكل يسر وسهولة".
وقال حصوة خلال مقابلة مع "الميادين الثقافية"، إن الفضاء الإلكتروني الواسع سمح لرسامي الكاريكاتور بالاطلاع على قضايا سياسية واجتماعية، ورصد الآراء والتوجّهات حول المواضيع عربياً ودولياً. الأمر الذي جعل من الكاريكاتور انعكاساً لـ"لسان حال" الشارع العربي والقضايا السياسية والاجتماعية التي تشغله وتمسّ حياته اليومية.
ويضيف حصوة الذي بدأ برسم الكاريكاتور في عمر مبكر، أن مواقع التواصل الاجتماعي ساعدت الرسامين على الانتشار ونشر رسوماتهم على نطاق واسع، وهو ما لم يكن متاحاً لجيل الرسّامين في الثمانينيات والتسعينيات وحتى مطلع الألفية الجديدة، إذ بقيت أعمالهم محصورة في الصحف والمجلات الورقية، "أما اليوم، وعندما أنشر رسماً كاريكاتورياً على أي من منصات التواصل الاجتماعي يمكن أن يراها عشرات الآلاف في كل أنحاء العالم، مع إمكانية تناقلها وإعادة نشرها من قبل المتابعين أنفسهم".
وأوضح أنّ هناك تحوّلاً كبيراً في فن الكاريكاتور أبرز ملامحه، انخفاض سقف الحرية للرسامين الجدد، مقارنة مع الجيل الأقدم الذي كان "شرساً" في التعبير عن القضايا الوطنية، وتحديداً القضية الفلسطينية ومواقف دول العالم منها، "لكن اليوم ومع تراجع المستوى المعيشي والمادي للشعوب العربية، وزيادة المشكلات والأزمات الاجتماعية، أصبح من الصعب على رسام الكاريكاتور تجاهلها، لأن الجمهور شريك للرسام عند نشر أعماله على المنصات الاجتماعية".
أما الرسم عن طريق الأجهزة الإلكترونية، فقد اعتبر حصوة أنها مجرد وسيلة مساعدة للرسام في إنجاز عمله، وليس لها تأثير على جودة الفكرة أو أهمية الموضوع الذي يجسّده في الكاريكاتور.
الشارع العربي وموقفه من الكاريكاتور
خلال أعوام مضت، أثارت رسومات كاريكاتورية ساخرة من رموز دينية في مجلات بعض الدول الأوروبية، غضب المسلمين، وموجة احتجاجات شعبية في العديد من الدول العربية والإسلامية، ترافقت مع حملات مقاطعة لمنتجات تلك الدول، ومن أبرزها فرنسا، ما يشير بوضوح إلى أن فنّ الكاريكاتور ما زال له أثر، سلبي أو ايجابي، في مواقف ووجدان الشعوب العربية والإسلامية تجاه القضايا التي تمس ثوابتهم.
"رسمة كاريكاتور واحدة كفيلة بأن تنقل الواقع لي حول ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة من دون حاجتي لقراءة الأخبار أو متابعتها في الكثير من الأحيان"، هذا ما أفصح عنه الخمسيني علي الجنيدي عند سؤاله عن رأيه في فنّ الكاريكاتور. فهو لم يتوقّف عن ملاحقة الرسومات الكاريكاتورية وخاصة الساخرة منذ 30 عاماً، إذ يعتبرها انعكاساً مصوّراً لما يجول في نفس الشارع العربي، ولا يستطيع التعبير عنه بالكلام أو الكتابة.
الجنيدي الذي يحتفظ بالعديد من قصاصات الصحف الورقية، وصفحات المجلات الأسبوعية والشهرية، كان شغوفاً بالرسومات الجريئة والخارجة عن إطار المألوف، وتحديداً حول القضية الفلسطينية، وكانت الصحافة اللبنانية بالنسبة إليه الأكثر جرأة عربياً، "ما يحدث في غزة أثبت لي أن حنظلة ناجي العلي ما زالت حاضرة لدى جيلي، هذا الجيل الذي تجرّع مرارة الهزائم العربية، وتخاذلها في وجه الاحتلال عندما كان يسلب فلسطين أمام عيوننا جميعاً".
أما الطالب الجامعي مصطفى المعايطة، الذي أتم عقده الثاني، فيقول إنه يتابع مجموعة من رسامي الكاريكاتور عبر موقع "فيسبوك"، لكنه يرى أن بعض تلك الرسومات تفتقر للأفكار الواضحة، أو حتى الرمزية الساخرة، وتكون إما إعادة رسم لصورة معينة، أو مخصصة لفئة مجتمعية محددة وليست للعامة، بحسب وصفه.
ويرى المعايطة، العاشق لفن الكاريكاتور، كما يصف نفسه، أن "على الرسامين القدامى أو الجدد إدراك أنهم يرسمون للجمهور وليس لأنفسهم، أي أنهم لا بد أن تكون رسوماتهم تعكس ما يجول في خاطرنا، ويحاكي مشاكلنا خاصة نحن الشباب، والأهم أن يعرفوا بأن الجمهور عبر منصات التواصل الاجتماعي ليس جميعه على مستوى الثقافة والمعرفة نفسها ليتمكّنوا من فهم مقاصد الرسامين المبهمة أحياناً".
وأكد أنه دائم التفاعل مع الرسومات الكاريكاتورية التي يطالعها يومياً عبر "فيسبوك" ويشارك في التعليقات على صفحات الرسّامين، مقدّماً اقتراحاته أو منتقداً للرسومات أو مادحاً لها، "الجميل أني أشعر أحياناً أن بعض الرسامين الذين أعلّق عندهم يتجاوبون مع ملاحظاتي، ويأخذون بها أحياناً".