الغناء في مصر: تاريخ الكبار أم سيرة "الغلابة"؟
كتب عديدة تناولت الغناء في مصر، منذ سبعينيات القرن الماضي. كيف أرّخت هذه الكتب لمختلف صنوف الغناء؟ ومن أبرز الوجوه الممثِّلة لكل صنف منها؟
يمكنك، في ميادين مصر وأسواقها الكبرى، أن تستمع إلى أغنيةٍ لمطرب شعبي تنبعث بصوتٍ عالٍ من اللامكان، وفي الخلفية صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد يرتّل ما تيسّر، كما يمكنك أن تسمع أغنيةً لحمزة نمرة، منطلقةً من "توكتوك" يحمل سائقه مؤهِّلاً تعليمياً عالياً.
خليطٌ غريبٌ للغاية من أذواق الناس في الاستماع، ابتداءً من سيد درويش وأم كلثوم وعبد الوهاب، وصولاً إلى "ويجز" ورفاقه، رصدته عدة كتبٍ صدرت في فتراتٍ متلاحقةٍ، بحيث تختصر الأغاني في مصر ملامح الناس وثوراتهم واحتياجاتهم العاطفية والاقتصادية. وربما لا يدرك المطرب أو الشاعر والملحن، في بعض لحظات تجهيز أغنيةٍ ما، أنّها ستُحدث فارقاً في تركيبة مستمعيها، وربما ستجعلهم يُعيدون النظر في أحوالهم ونزواتهم ومصائرهم.
كتب الأغاني وإغراء الكواليس
في كتاب "كشك وعدوية"، ستجد الداعية المشهور في سبعينيات القرن الماضي، عبد الحميد كشك، إلى جوار المطرب الشعبي الأشهر في الفترة ذاتها، أحمد عدويّة، في كادرٍ واحدٍ، يحاول من خلاله الكاتب الصحافي محمد الباز استيعاب خريطةٍ ثقافيةٍ ومعرفيةٍ للقاهرة كمدينةٍ أُم، ومؤسِّسةٍ لحالة من التناقضات.
لكنَّ الأهم أنَّ الباز، من زاويةٍ سياسيةٍ مجرَّدةٍ، يرى أنَّ كشك وعدوية كلاهما "من أبناء الهزيمة"، وهما ظاهرتان تمثلان ترجمةً لـ"النكسة" التي لحقت بمصر في حزيران/يونيو من عام 1967، إذ لمع نجم كلٍّ منهما بعدها، وبدأ في شق طريقه للتأثير في جماهير عريضة. ولأنَّ الهزيمة كانت قاسية، فلقد قرر الناس أن يدخلوا بحر "التيه الكبير"، وفق تعبير الباز.
في تتبُّعه رحلة صعود كشك وعدوية، استطاع الصحافي محمد الباز أن يلتقط كادرات قريبة للغاية لمصر، التي لم يعرفها وقتها إلّا الذي عايشها بالفعل.
كانت تلك الفترة صاخبةً، تماماً كخُطب الشيخ كشك وأغاني أحمد عدوية، فلم يكن كشك يصلح لأن يكون داعيةً بأيِّ مقياسٍ من المقاييس، فهو "رجل جعجاع، عصبي، منحاز، ومبتزّ لمشاعر جمهوره، وغير مرتب في أفكاره"، وكذلك عدوية كان "انعكاساً لواقع متخبط، مترهل، وعشوائي، وعاجز، وفاشل، ومهزوم... ولم يكُ يغني للناس كلمة راقية رقيقة، أو شعراً يعلو بوعيهم، بل كان (يغني عليهم)"، وفق وصف الكتاب. لكن كلاهما كان يشبه المرحلة بامتياز.
في تتبُّعه رحلة صعود كشك وعدوية، استطاع الباز أن يلتقط كادرات قريبة للغاية لمصر، التي لم يعرفها وقتها إلّا الذي عايشها بالفعل، حتى الالتقاطات التي تبدو فرديةً لحرمان بطلَي الكتاب في فترتي طفولتيهما، كانت تلتقط، من دون قصدٍ، صوراً وقطاعات عريضة لمصر، بكل ما فيها من تناقضات إنسانية وتباينات اقتصادية.
ربما لم تَسِر كل الكتب التي تناولت عالم الأغاني على نهج كشك وعدوية نفسه، لكنها جميعاً تؤكد مقدرة الأغاني على أن تلخّص حقباً تاريخية، وأن تحفظ لنا مشاعر لحظات فاصلة، ليتمكّن الناس من استشعار النصر في كوبليه، أو ليتذكروا الثورة في أغنيةٍ ألقاها أحدهم وقتها، ولم يُلقِ بالاً لكونه يترك وراءه وثيقة تاريخية وإنسانية.
هتاف المنسيين: فيدرالية الأغاني
حتى إنَّ الكاتب يسري حسان خَلُص في كتابه "هتاف المنسيين.. أغاني المهرجانات من التكاتك إلى أولاد الذوات"، إلى أنَّ العشوائيين أقاموا دولهم الخاصة، وحققوا انتصارهم. صحيح أن البعض وصفه بأنه "انتصار بطعم الهزيمة"، وإن كان حسان لا يرى أنهم هم المهزومون، بل المجتمع البائس الذي لا يستطيع استقبال التنوع والتفاعل معه بصفته أمراً طبيعياً.
واللافت للنظر أن مؤدّي المهرجانات، الذين تناول يسري تجربتهم في كتابه، يُعَدّون اليوم من الكلاسيكيات، مثل سادات وفيفتي وعمرو حاحا وأوكا وأورتيغا، وغيرهم ممّن كانوا شبّاناً حينها، وكانوا يسكنون العشوائيات، ويُعِدّون أغنياتهم بالكامل على أجهزة كمبيوتر متواضعة.
كانت المهرجانات في ذلك الوقت وسيلة تعبيرية عن أوضاع إنسانية متردية، تشكّل انعكاساً لأوضاع سياسية واقتصادية محبطة، في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك. كانت الأيام مكرَّرة ومتشابهة، تماماً كإيقاع ألحانهم المكرَّرة، "إحنا ما عندناش لحن أساساً، هي جملة واحدة ومتكررة"، يقولون، وهذه الجملة تُصنع منها الأغنية برمتها، على أجهزة كمبيوتر متواضعة تحت "بير السلم"، أو "في أوضة فوق السطوح، ودمتم".
كانت المهرجانات في ذلك الوقت وسيلة تعبيرية عن أوضاع إنسانية متردية، تشكّل انعكاساً لأوضاع سياسية واقتصادية محبطة، في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك.
تواصل حسان وقتها مع كل أطراف صناعة تلك الأغاني، وخصوصاً "الشعراء"، مثل "الشاعر الفاجر"، "الشاعر المشاكس"، "شاعر الغية"، "بلدوزر"، "المعصراوي"، ومحمد روقة، بالإضافة إلى فرقٍ أخرى تكتب أغانيها بنفسها، إمّا لتوفير التكاليف، وإما لأنها تثق بإمكانات أفرادها ومواهبهم.
انتهى حسان إلى أن الهجوم على المهرجانات، والأهم منعها، لن يفيد، وأن المهرجانات، في كل أشكالها، ليست خطراً على الدولة أو الشبّان أو النشء أو الذوق العام، أو غير ذلك من الفزاعات، وأن توصيفهم بأنهم "عيال أوباش" يؤدي إلى نتيجة واحدة، وهي أننا نحن الأوباش.
الغناء الشعبي وبطولات المهمَّشين
ولأن مشهد الغناء في مصر ضخمٌ بالفعل، ظهر كتابٌ آخر، لاحقٌ على كتاب حسان، هو "نهاوند.. أسطوات الغناء الشعبي في مصر"، للصحافي محمد العسيري، الذي يفتح عينيك على عالمٍ لم تكن لتحصّله إلّا في الغوص في أرشيف الجرائد والمجلات، أو عبر الطواف على الأفراح وليالي الحنة والموالد الشعبية، إن كنت من الغاوين. وفي الحالتين يُشترط أن تكون عشت الفترة من الخمسينيات حتى الثمانينيات.
ربما وصلتنا سِيَر بعض هؤلاء المطربين وأغانيهم، كمحمد قنديل وسيد مكاوي ومحمد رشدي وشريفة فاضل، ومنهم من لم نكن لنسمع عنه، مثل الريّس حنتيرة وعمر الجيزاوي وبحر أبو جريشة وسيد إسماعيل ومحمد طه وغيرهم، لولا مثل هذا الجهد في التأريخ.
يؤرّخ كتاب "نهاوند.. أسطوات الغناء الشعبي في مصر" لسيرة مطربين شعبيين غير معروفين، مثل الريّس حنتيرة وعمر الجيزاوي وبحر أبو جريشة.
يورد الكتاب رأياً للشاعر عبد الرحمن الأبنودي، مفاده أنه يرى الغناء الشعبي كـ"الطعام الحرش"، الذي يفتح الشهية ويغري بالاستكثار منه، والذي يتكون عادة من الفول والبطاطس والجبن وكل ما هو رخيص وبسيط وجميل. وبالتالي، فإن حكاياته تُغري بالمتابعة، كاعتداء المطرب محمد قنديل بالضرب على عبد الحليم حافظ في بداية حياة حليم. كان قنديل وقتها نجماً، ووقع الاعتداء بعد أن خطف منه العندليب أغنية من ألحان كمال الطويل. وفي حقبة تاريخية لاحقة، انتشرت معلومة غيرة عبد الحليم حافظ، في أوج شهرته، من أغاني المطرب الشعبي محمد رشدي، وخصوصاً الأغاني التي كتبها له عبد الرحمن الأبنودي، مثل "عرباوي" و"عدوية" وغيرهما.
تأريخ لثورة يناير أم تأريخ لـ"كايروكي"؟
أما التأريخ لمحور أغاني ثورة 25 كانون الثاني/يناير، فربما لم يكن يحتاج سوى إلى ملازمة فرقة "كايروكي"، وهو ما قام به الصحافي المصري المقيم ببريطانيا، ولاء كمال، حين أرَّخ زراً في جاكيت أسود كان يضايق مغني الفرقة وصوتها الرسمي، أمير عيد، حين يعزف على الغيتار، ليتذكر أيامه في الشتاء الفائت، وليتأكد من أن الحال لم تتغير.
ما ميز "كايروكي" حقاً أنهم لم يغنوا للثورة كحدث، بل غنوا لها كمعنى، وهو ما مكّن أغانيهم من البقاء في وجدان مَن عاصروهم، وفي وجدان التالِين عليهم، فغنوا "يا الميدان" بعد ثورة يناير مباشرةً، و"اثبتْ مكانك" بالتوازي مع أحداث محمد محمود، "ناس بترقص وناس بتموت" بعد أحداث ميدان رابعة العدوية، وغيرها من المَواطن التي حاولت فيها الفرقة أن تكون واقفةً على الخط نفسه مع الحدث السياسي.
ما ميز فرقة "كايروكي" حقاً أنهم لم يغنوا للثورة كحدث، بل غنوا لها كمعنى، وهو ما مكّن أغانيهم من البقاء في وجدان مَن عاصروهم، وفي وجدان التالِين عليهم.
ينطلق الكتاب من تركيز ولاء كمال على نقل حال "الونس" بينه وبين أفراد "كايروكي" بصورة عامة، وبينه وبين أمير عيد على وجه الخصوص، فيذكر فيلم أمير المفضل، "forest jump" لتوم هانكس، وعلاقته بميلاد أغنية "افرد جناحك"، وقربه الشديد من ظروف صنع معظم الأغاني، ويتحدث عن ثيمة الخوف لدى أمير.
نجح الكتاب في ربط الحال التي أنتجت منجز "كايروكي" الموسيقي بتحرر المحتوى عالمياً من قيود التداول قبل ذلك بعقد تقريباً، فيما عُرف بـ"ثورة نابستر"، بحيث حوّل اثنان من المراهقين المحتوى الموسيقي من منتجٍ صعب التداول، إلى منتجٍ يمكنك استحضاره بضغطة زرٍ واحدة، بمجرد امتلاكك جهاز كمبيوتر متصلاً بالإنترنت، وهو ما غيّر قواعد اللعبة كاملةً بين الشركات الكبرى، في كل المجالات.
كتب الأغاني ونوستالجيا الثمانينيات
كان الجديد على الغناء في الثمانينيات والتسعينيات هو ارتباطه بحالات زمنية ومكانية وإنسانية بعينها، يسهل استدعاؤها حين تسمع الأغنية. فهناك أغنية ترسلك إلى المصيف، وأخرى تعيدك إلى شارعكم القديم، أو تذكّرك بوفاة أحد أصدقائك، وهو ما انشغل عمر طاهر برصده في كتابه "إذاعة الأغاني.. سيرة شخصية للغناء".
لم يهتم طاهر كثيراً بمحتوى الأغاني في فصول كتابه، بل كان اهتمامه موجَّهاً إلى أثر الأغاني الإنساني، وارتباطها بحالاته النفسية المتباينة، والتي يمكنها أن تلخص الحالات النفسية المتباينة لجيلٍ كاملٍ، بين المصايف ودفء البيوت في التسعينيات، وبين بقايا المرحلة القديمة المستمرة، التي سماها طاهر "فقرة أم كلثوم" و"فقرة عبد الحليم"، في إشارةٍ اختصرت حيرة جيل الثمانينيات في مصر بين القديم المتمثّل بأغاني الراديو، التي كان يُطلق عليها مسمى "فقرة"، وبين "الأغاني السريعة"، التي تمثّلت بالموجة التي خلقها حميد الشاعري ورفاقه، وأكملها الجيل الذي أتى بعدهم.
الأغاني والسينما وذاكرة الذوق العام
من موسيقى "المشبوه" و"خلي بالك من عقلك"، وصولاً إلى الموسيقى الجنائزية في مقدمة فيلم "هلأ لوين" لنادين لبكي، ترصد الكاتبة ومدوّنة الفيديو، سالي حجازي، في كتابها "مكيروفون.. جوه المزيكا حكايات"، أثر الموسيقى في صناعة ذاكرتنا البصرية، على الرغم من كونها منتَجاً إبداعياً سماعياً في الأساس.
تتنقّل حجازي، عبر كتابها، من سلمى حايك، التي تغنّي بالإسبانية أغنية مؤثرة للغاية، على الرغم من كونها لم تفهم منها كلمة واحدة، إلى الفيلم الهولندي "Layla M"، الذي يستند مشهده الرئيس إلى أغنية فضل شاكر "يا غايب"، إلى "قل أعوذ من الشيطان" في فيلم "حين ميسرة"، التي ينتهي كل مقطع فيها بـ "Oh mummy blue"، وهي أغنية شهيرة لديميس روسوس وخوليو إغليسياس.