الشيء ونقيضه.. أو الوعي اليهودي الشقي
ترسم هذه المقالة لحظات من الوعي اليهودي الموسوم بـ"الشقي"، قبل إعلان "الدولة" وبعد إعلانها وتحوّلها إلى آلة قتل عمياء يومية بحق الفلسطينيين، أصحاب الأرض.
أتت عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ضد ما يسمى "إسرائيل"، مماهيّة بين التسمية ومفاعيلها، بين الدال والمدلول، فزحزحت التخوم المرسومة وشقت عنان السماء لتعيد إلى أبجدية القضية الفلسطينية ألقها، وتعود بالرواية إلى الأصل، بما هي: قضية احتلال الأرض واستعمارها بعد قتل السكان في مجازر مشهودة، وتهجير من تبقى منهم بآلة حرب حديدية لا ترحم.
"دولة" الاحتلال هذه كانت محط نظر كثير من النخب اليهودية، مفكرين وفلاسفة وباحثين وروائيين، قبل إعلانها في 14 أيار/مايو عام 1948، وبعد إعلانها على يد الحركة الصهيونية بمباركة الاحتلال البريطاني. وحتى قبل إعلانها، كانت فكرة الدولة اليهودية نفسها، مثار استنكار وشجب بعض هذه النخب.
ترسم هذه المقالة لحظات من الوعي اليهودي الموسوم بـ"الشقي"، قبل إعلان "الدولة" وبعد إعلانها وتحوّلها إلى آلة قتل عمياء يومية بحق الفلسطينيين، أصحاب الأرض. وقد وجد الصهيوني الراديكالي، يشعايو ليبوفيتز (1903 - 1994) الذي كان طامحاً إلى سلام يتأسس على التخلي عن الأراضي المحتلة في عام 1967، وإلى نبذ العنف، أن "دولة إسرائيل"، قد تحولت "لا دولة يهودية، بل جهاز سلطة عنفي ضد شعب آخر".
لا أرض لليهود
من دَرَس الفكر اليهودي في بعض نماذجه وجده "وعياً شقياً"، لأنه بحث عن صلته بالعالم بعبارات "الفرادة" و"الخصوصية" و"الرسالة" و"المسؤولية الأخلاقية" (الأتيقا)، والصلة المباشرة بالله. وحتى في لحظة التفكير في الاندراج في العالم والاندماج بين الأمم، وضداً من طغيان الكلانية، فقد أفتى بضرورة العودة إلى الدين وإلى الوحي، واضعاً في حسبانه تجربة الحرب العالمية الأولى (1914)، وأفكار الموت وصراع الدول والقوميات.
وازدهر هذا النمط من التفكر قبل قيام "دولة" الاحتلال في العام 1948 على الأرض الفلسطينية. وفي استعادته التجربة الدينية ركز على فكرتيّ الفداء والخلاص، وبهذا المعنى كان من الصعب استدخال الشعب اليهودي في أي قومية.
وأبرز مفكري هذا النمط هو فرانز روزنتسفايغ (1886- 1929) الذي عد "الشعب اليهودي، الشعب الوحيد الذي تخلص من المسار التاريخي الأفقي، لأنه شعب أزلي". وكتابه الأساس "نجمة الفداء" [1]، المنشور عام 1921، مرتبط بتجربته الخاصة في الحرب الأولى والموت المصاحب لها، وما شاهده من أهوال فيها. فأتى كتابه معارضة لها، ونظر إلى اليهودية بمنزلة "شكل خارج العالم، يتمظهر في علاقة الله بالإنسان، أي تلقي الوحي".
وفي رؤيته إلى "فرادة هذا الشعب"، وجد أن مقولات السياسة والاجتماع لا تنطبق عليه، ولا سيّما مقولة "الأرض". إذ يشكل النفي والخروج، المعطى الأساس الذي يُحدد اليهود في علاقتهم مع الأرض، لأنهم إذا امتلكوها سيكونون عرضة للاندثار، فأنبياء بني إسرائيل لم يكونوا إلا غرباء في الأرض. وهنا، تبرز فكرة "التيه" و"اليهودي التائه"[2]، كون هذا الشعب لم يرتبط بدولة. وبالتالي، رفض روزنتسفايغ الحركة الصهيونية لارتباطها بالدولة، فالهوية اليهودية عنده مرتبطة بالشتات (الدياسبورا) [3].
لا دولة يهودية
كما رفض زميله، النمساوي الأصل، مارتن بوبر (1878 - 1965) قيام الصهيونية ببناء دولة في فلسطين، فمعتقداته كانت في إطار "الصهيونية الثقافية"، أي كان يشغله أكثر اندثار القيم والتقاليد اليهودية ضمن المجتمع اليهودي، والذي حصل مع انتشار القيم البرجوازية وانخراط اليهود في التقاليد غير اليهودية في مجتمعاتهم.
ونبعت معارضته لـــ "الصهيونية السياسية" من المبدأ نفسه، إذ رأى أن مفهوم القومية السياسية سيؤدي إلى اندثار قيم الهويّة اليهودية وروحانيتها. لقد عارض "فيلسوف الحوار"، "الصهيونية السياسية" بشدة، ورأى بسخرية وعد بلفور لأنه يضع الصهيونية في صف الدول الاستعمارية وما يعنيه ذلك من اضطهاد للشعب الفلسطيني. ولذلك، عارض الانتداب البريطاني على فلسطين، والسياسة الممنهجة للحركة الصهيونية في زيادة عدد اليهود في فلسطين من أجل إقامة دولة يهودية على أسس ديموغرافية. وكان أيضاً ضد شراء الحركة الصهيونية للأراضي وطردها الفلاحين منها. ووقف ضد تقسيم فلسطين وإقامة "دولة إسرائيل"، وشارك فعلياً على مستوى المؤسسات الدولية من أجل منع ذلك.
وبعد نكبة فلسطين عام 1948، عارض بشدة سياسة الحركة الصهيونية إزاء العرب ودعم حق العودة للاجئين. وكان ضد مصادرة الأراضي الفلسطينية لبناء مستوطنات يهودية. وقد أثرت قيم بوبر الإنسانية العالمية كثيراً في رؤيته السياسية لمستقبل الوجود اليهودي في فلسطين،لذلك آمن بوجوب التفاوض مع الفلسطينيين حول ذلك، والسعي لنيل موافقتهم من دون استخدام القوة، لأنه من دون موافقتهم لن يكون هناك أي حل، والحل الذي رآه هو وجود دولة ثنائية القومية ووجود حال "سلام" بين اليهود والعرب [4].
لا قومية لليهود
كانت حنة أرندت (1906- 1975) ، فيلسوفة السياسة والتاريخ، شاهداً حياً على أحداث عصرها. وهي حين كتبت مقالها "إعادة فحص الصهيونية" عام 1946 أثارت حنق صديقها كورت بلومنفِلد، الرئيس الأسبق للمنظمة الصهيونية الألمانية، ذلك الشخص الذي فتح عينيها على "المسألة اليهودية" حين كانت في ألمانيا، ودفعتْه إلى القول بأن ربيبته "لا تعرف شيئاً عن الصهيونية"، وأنها تقارب هذه المسائل بلا مبالاة ووقاحة، وما ذلك سوى تعبير جليّ عن "كره يهودي للذات" و"رغبة جارفة في الاندماج". وأضاف بلومنفِلد أنه لم يؤمن يوماً بصهيونية أرندت، والمقال الآنف الذكر خير شاهد على ذلك.
لم توجِّه أرندت نقدها إلى زعماء الصهيونية فحسب، ولكنها أنكرت كلَّ شرعية يمكن أن يدعيها أو يتظلَّل بها المشروع الصهيوني. وهي، إذا كانت تعاونت في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الفائت مع بعض المنظمات الصهيونية، فإنها في العام 1948 كانت من الأصوات المعارضة لإقامة دولة يهودية في فلسطين، بالإضافة إلى الخلاف السياسي مع الحركة الصهيونية في كيفية التعامل مع "المسألة العربية" في فلسطين.
لقد التقطت أرندت إحدى السمات الأساسية في الحركة الصهيونية الألمانية التي ولدت في القرن التاسع عشر، باعتبارها "حركة لإعادة الافتخار بكون المرء يهوديّاً أكثر منها لإقامة قومية يهودية". وهي تشير في كتاباتها إلى اليهود بصفة "الشعب اليهودي"، ومن رأيها ضرورة إعطاء "وضع" له، من "دون الوقوع في الجوهرانية" – تلك الخاصية الموروثة من إيديولوجيات القرن التاسع عشر – وذلك بمنح مقولة الشعب معنى سياسيّاً في المقام الأول.
وكانت الفيلسوفة السياسية تقدِّر للصهيونية عدَّها اليهود "شعباً مضطهداً"، بمعنى الوجود خارج حدود السلطة ودائرتها، لكنها لم تكن تؤيد المطالبة الصهيونية بتحوله إلى "شعب مثل الشعوب الأخرى" بوصوله إلى السلطة السياسية، أي الدولة، وتالياً إمكان استخدامه للوسائل العنفية التي تستخدمها الشعوب، مع ما يرافق ذلك من ظلم وعسف [5].
حين يلبس القاتل ثوب الضحية
عد الروائي الإسرائيلي عاموس عوز (1939- 2018) ناطقاً باسم اليسار الصهيوني، وقد شكلت مواقفه السياسية جدلاً واسعاً، وهو من جيل ولد مع إنشاء دولة الاغتصاب، وتظهر أعماله كيف صالح على نحو "صراعي" الحلم الصهيوني الجمعي لأقرانه وتطلعاته الفردية على محك الواقع.
كانت ولادته في القدس في حي وقع تحت السيطرة البريطانية، لأب روسي وأم أوكرانية، هاجرا إلى فلسطين في العام 1930. وعاش في جو تغذيه الصهيونية القومية لجابوتنسكي (1880- 1940)، ومناحيم بيغن (1913- 1992). فنشأ كما يقول عن نفسه "شوفيني متعصب" متنكر بزي "مسالم"، أصولي يتقد حماسة ضد الإنكليز والعرب.
أقام في "الكيبوتس" وشارك في حروب "دولته"، وبعد حرب عام 1973، أسس مع 30 ضابط احتياط "حركة السلام الآن". وفي أعماله الأدبية حاول أن يصف العالم المحيط به، وجاءت لغته وفاقاً للتحولات الجارية في المجتمع الإسرائيلي وموجات الهجرة المتتابعة.
وفي مواقفه المتقدمة دافع عن وجود دولتين جنباً الى جنب، ورأى ضرورة إعادة الأرض الفلسطينية المحتلة في العام 1967، في مقابل التخلي عن حق العودة للاجئين، ولم ير في السلام وهماً، بل طريقاً مملوءاً بالتضحيات من الجانبين.
في مجموعته "أعزائي المتطرفين- ثلاث أفكار" (2018) يقول :"إن القضاء على المتطرفين لا يعني أن نبيدهم كلهم، بل الأحرى أن نضبط الأصولي المختبىء في داخلنا"، كما "يتوجب علينا محاولة النظر من نافذة الجار وفهم الواقع من خلالها، وهي وجهة نظر تختلف عن تلك التي نملكها".
وفي ما يبدو أنه دفاع عن نفسه في وجه منتقديه من الجمهور الإسرائيلي، كتب في العام 2016، رواية عن "يهوذا"، وكان يقول:" الخائن هو من يكون متقدماً على عصره"، وقد يكون هو المقصود بالكلام هذا [6].
بيد أن مشروع "اليساريين" هذا كان يعاني من عطب أساسي، أوجزه الروائي اللبناني، إلياس خوري، في كونه "عنصرياً وإنسانوياً في آن معاً، يقول الشيء ونقيضه، فهو الذي قاد حرب النكبة، التي كانت حرب تطهير عرقي ومذابح وطرد، وهو الذي فرض الحكم العسكري على الفلسطينيين في إسرائيل، لكنه يتنعّج وينطق باسم الضحايا اليهود في المحرقة النازية، من دون أن يلتفت إلى مسؤوليته عن الكارثة الفلسطينية".
ما يُذكر، في رأيه، بتوفيق زياد، وقوله: "عن جدنا الأول/ قد جاء في الأمثال/ واوي بلع منجل"، فيضيف خوري "الاحتلال هو المنجل الذي ابتلعته إسرائيل، وصراخها يعني أنها لا تستطيع أن تعيش خارج ثنائية القمع والحروب" [7].
ما ذكر آنفاً غيض من فيض الكتابات التي ترى نهاية الدولة العنصرية وأن سقوطها الواقعي ممكن، وهي آخر القلاع الاستيطانية في العالم. "طوفان الأقصى" يفتح أفق الاحتمالات واسعاً.
المصادر والمراجع
[1] مؤلفه وصف للعلاقات بين الله والإنسانية والعالم، لأنها مرتبطة بالخلق والوحي والفداء. إذا رسم المرء رسماً تخطيطياً مع وجود الله في الأعلى، والعالم والذات أدناه، فإن العلاقات المتبادلة تولد خريطة نجمة داود. إنه ينتقد أي محاولة لاستبدال الوجود البشري الفعلي بالمثل الأعلى. في مخطط روزنزويج، لا ينشأ الوحي في الميتافيزيقيا بل في الحاضر . نحن مدعوون لأن نحب الله، ولكي نفعل ذلك نعود إلى العالم، وهذا هو الفداء.
[2] اليهودي التائه شخصية خيالية عن رجل يهودي حكم عليه بالتجوال للأبد في الأرض عقاباً له على ضربه للسيد المسيح. وفي أشهر قصة عنه كان اليهودي التائه إسكافياً يدعى أحشويرش رأى المسيح يرتاح وهو يحمل صليبه إلى المكان الذي صلب فيه في جبل الجلجلة، فضربه وأخبره بقسوة بأن يسرع بالذهاب إلى موته فرد عليه بأنه سيقف ويرتاح. أما اليهودي فسيبقى حتى يرجع المسيح، فظل اليهودي يهيم في الأرض منذ ذلك الحين بعد أن تاب وأصبح يتوق إلى الموت. وقد تناول الكاتب الفرنسي يوجين سو (1804- 1857) في أحد أشهر أعماله قصة "اليهودي الضال" (1844).
[3] استعنت في رسم هذه الصورة بالرسالة التي قدمها الباحث اللبناني محمود حمادي الممتازة، المعنونة بــ "التأويل الديني والفلسفي للكتاب المقدس مدخلاً للسياسة (نماذج روزنتسفايغ وبوبر ولفيناس)"، لنيل دبلوم الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية، بيروت، 2015. رسالة غير منشورة.
[4] مارنن بوبر، أرض واحدة وشعبان، حول المسألة اليهودية – العربية، النسخة العربية نشرتها مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية. انظر المقدمة. لا. ت.
[5] عفيف عثمان، "حنة أرندت ودولة إسرائيل"، صحيفة النهار، الملحق الثقافي، الأحد 23 حزيران/يونيو 2002.
[6] https://www.letemps.ch/culture/livres/lecrivain-israelien-militant-paix-amos-oz-mort?تعرف إليه الجمهور العربي من خلال ترجمة روايته "قصة عن الحب والظلام" (2002)، وصدرت عن دار الجمل (بيروت، بغداد)، بترجمة جميل غنايم، في العام 2010.
[7] إلياس خوري، في مقالته "أ.ب. يهوشع: الروائي التائه"، صحيفة القدس العربي، 20 حزيران/ يونيو 2022.