السياسة والكذب: لماذا يكذب السياسيون؟

ليس سيئاً دائماً. قد يصبح "الكذب" مبرراً عندما يتعلق بالسياسة.. فلماذا يكذب السياسيون؟ ومتى؟

  • هل يكذب السياسيون لتحقيق أهداف أوطانهم، أو لغايات شخصية؟
    هل يكذب السياسيون لتحقيق أهداف أوطانهم، أو لغايات شخصية؟

كثيراً ما يتداول الناس مقولة شعبية رائجة يقطعون بها كلّ حديث عارض في الشؤون السياسية اليومية: "السياسة كذب"، وكأنّ هذا الشعار أصبح بمثابة الملخّص لكلّ سلوكيات السياسة والسياسيين، وهو ينطوي، من جهة أخرى، على مضامين خطيرة أهمّها أنّ رجال السياسة لا عهد ولا ميثاق لهم، وأنّ السياسة والأخلاق لا يلتقيان. ومن ثمّ قد يجوز استبعاد بعض القيم الإيتيقية من أجل تحقيق مكاسب سياسية.

بهذا المعنى، قد نضفي على "الكذب" بعض المشروعيّة الموضوعية المرتبطة بالمصالح والمنافع الجماعية. لأجل ذلك كلّه لنا أن نتساءل: هل أنّ السياسة هي فعلاً مجال أكاذيب وافتراءات بالإطلاق؟ ألا يستدعي الفعل السياسي/الممارسة السياسية نوعاً من الفضيلة الأخلاقية؟ ثمّ، لماذا يكذب السياسيون؟ هل من أجل تحقيق مصالح أوطانهم وضمان رفاهية شعوبهم؟ أم من أجل غايات ذاتية أخرى تتعلّق بهوس السلطة وجاذبيّة المناصب؟

السياسي بين المصلحة والأخلاق

  • عراقيون يتفقدون ممتلكاتهم بعد قصف أميركي على العراق عام 1998
    عراقيون بعد قصف أميركي على بلادهم عام 1998

من المعروف أنّ السياسة هي "فن الممكن"، بحيث يتعامل السياسي مع وقائع وأحداث متغيّرة وأوضاع متقلّبة ومتحوّلة على الدوام، تهمّ أوّلاً الأوضاع الداخلية للبلاد، وعلاقة كلّ ذلك بالخارج، وما يستدعيه الأمر من موازنات واعتبارات مصلحيّة أو موضوعيّة.

وفي هذه الحالة، فإنّ رجل السياسة مطالب بالنتائج أوّلاً، وذلك في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، فالهاجس الأكبر هو تحقيق رفاهية الشعب وراحته، وضمان الأمن والسلم الاجتماعيين، وكذلك فرض العدالة والإنصاف بين المواطنين عبر منظومة قانونية إجرائيّة. ولهذا، من المفترض أن يجد السياسيون أنفسهم أمام أوضاع، روتينيّة أو حتّى طارئة، لا يفكّرون إزاءها إلّا من زاوية المصلحة الخاصة لأوطانهم وشعوبهم، وتحقيق تلك المصلحة يحتّم في كثير من الأحيان اتّباع وسائل تبدو للعامة غير أخلاقية أو غير مشروعة، تتّبع بين الحين والآخر طرقاً نسمّيها على سبيل التعميم "الكذب" و"النّفاق" و"الغش" و"الخداع" و "المغالطة"... وكلّ هذه الصفات "اللا أخلاقية" هي التي يمكن، بمعنى آخر، أن تؤسس قواعد الواقعيّة السياسيّة. فنحن منذ البداية نجد أنفسنا أمام مفارقة صعبة بين السياسة كفنّ، والإيتيقا كأخلاق نظريّة.

يبدو لنا أنّ السياسة لا تخضع إلى الصرامة النظريّة، بقدر خضوعها إلى الحصافة والكياسة والحكمة العملية، التي تقتضي التعامل مع الموجود والتحلّي ببعد النظر، الذي يرتبط بدوره بحسابات استراتيجية يمكن أن تنفصل عن الانشغال الإيتيقي، والسياسي بهذه الكيفية يحتاج إلى ما يسمّيه الفارابي "التعقّل" و"جودة الرويّة".

يجد السياسيون أنفسهم أمام أوضاع لا يفكّرون إزاءها إلّا من زاوية المصلحة الخاصة لأوطانهم وشعوبهم، وتحقيق تلك المصلحة يحتّم معظم الأحيان اتّباع وسائل تبدو غير أخلاقية أو غير مشروعة.

فالممارسة السياسية اليومية لا يمكن أن نربطها بمسألة الحق والمثال الأخلاقي الصريح، بل هي مسألة واقع نتعامل معه بكل الطرق والوسائل الممكنة من أجل تحقيق غاية وحيدة للشعب والوطن، وهذه الغاية تسمّى تارة "المنفعة"، وطوراً "المصلحة"، وحيناً "الخير".

ويمكننا أن نربط هذه الاستراتيجية السياسية بمقولة "الغاية تبرر الوسيلة"، بحيث يجوز للسياسي استخدام كل الوسائل الممكنة، بما في ذلك الكذب والدعاية أو حتى المغالطة، إذا رأى أنّ ذلك يجلب المنفعة لشعبه. في هذا الصدد، نرى مثلاً أنّ الكثير من رجال السياسة في الدول ذات مؤشرات التنمية الضعيفة، يلجأون إلى تضخيم أرقام ونسب الفقر والتضخّم الاقتصادي، من أجل التمتّع بالمساعدات المالية الدوليّة أو الحصول على قروض مهمّة من "صندوق النقد الدولي"، وحتّى الأرقام المتعلّقة بالتضرّر من جائحة "كورونا" وتأثيراتها في الاقتصاد الوطني لتلك البلدان، يتمّ تضخيمها للتمتّع بتعويضات "منظّمة الصحّة العالمية" والجهات الإنسانيّة الدوليّة. فهنا لا تهمّ المغالطة، ولا يعني التضليل شيئاً أمام ضمان مصلحة الشعب، والحفاظ على السلم الاجتماعي.

السياسة التي تقوم على المثل الأعلى الأخلاقي هي ضربٌ من الخيال الذي يجلب المتاعب للدولة أكثر مما يجلب لها المنافع، والأجدر برجل السياسةأن يتعامل مع الواقع كما هو . وهكذا يتحوّل الخطاب السياسي من المجال الإيتيقي الأخلاقي، ومن المجال النظري التأمّلي "العقيم"، إلى خطاب خاص يتعلّق بما هو موجود، لا بما ينبغي أن يوجد.

إنّ مجال السياسة هو مجال تحقيق المنفعة، وهذا ما أشار إليه المفكّر الإيطالي ماكيافيلي (Machiavelli) منذ عصر النهضة، وبالتحديد في أواخر القرن الــ 15، حيث كتب: "ولكن، لما كان من قصدي أن أكتب شيئاً يستفيد منه من يفهمون، فإني أرى أن من الأفضل أن أمضي إلى حقائق الموضوع بدلاً من تناول خيالاته، لاسيما وأن الكثيرين قد تخيلوا جمهوريات وإمارات لم يكن لها وجود في عالم الحقيقة، وأن الطريقة التي نحيا فيها تختلف كثيراً عن الطريقة التي يجب أن نعيش فيها، وأن الذي يتنكر لما يقع سعياً منه وراء ما يجب أن يقع، إنما يتعلم ما يؤدي إلى دماره بدلاً مما يؤدي إلى الحفاظ عليه" (1).

فالسياسة التي تقوم على المثل الأعلى الأخلاقي، أو على "ما يجب أن يكون"، هي ضربٌ من الخيال الذي يجلب المتاعب للدولة أكثر مما يجلب لها المنافع، والأجدر برجل السياسة، من هذه الزاوية، أن يتعامل مع الواقع كما هو  ويسعى إلى التكيف مع مقتضياته وشروطه. وهكذا يتحوّل الخطاب السياسي من المجال الإيتيقي الأخلاقي، ومن المجال النظري التأمّلي "العقيم"، إلى خطاب خاص يتعلّق بما هو موجود، لا بما ينبغي أن يوجد.

ففي المجال السياسي اليومي، نحن لسنا في حاجة إلى تنظيرات العقل لتقودنا إلى الممارسة، بل في حاجة إلى ممارسة تحتكم إلى منطق الواقع و تقلّباته.  وبما أنّ الدولة هي القوة المكلفة بحماية مواطنيها وضمان أمنهم و ممتلكاتهم، فإنّ هذه القوّة لها الحق في أنّ تدافع عن نفسها بكل الوسائل الممكنة، لأن استمرارها كذلك مرتبط بقوّتها التي ستضمن سيادتها.

لذلك، فإنّ السياسي مطالب بأن يكون براغماتياً في تعامله مع كل المكوّنات في الدولة، من الشعب والمؤسسات والأحزاب، غايته في ذلك تحقيق الهدف المنشود وهو الحفاظ على البلاد، وهذه البراغماتية تفترض حضور الدهاء السياسي والقوّة والتبصّر والمكر واختيار أنجع الوسائل لتحقيق السيطرة (2).

على السياسي أن يعمل دائماً على تقوية سلطته وتدعيم تفوقه على الجميع، حتى يشعر الشعب بالحاجة إليه كحاكم ذكي ومتبصّر، وهو يحتاج في ذلك طبعاً إلى وسائل دعاية وتضخيم، تختلق في غالب الأحيان الأكاذيب والمغالطات من أجل ضمان الولاء والإخلاص.

لذلك فإن من أهم الخصائص التي يجب أن تتوفّر في الحاكم الناجح بهذه المقاييس، هي بلا ريب، معرفته الدقيقة بالطبيعة البشرية ومزاج الجمهور. فلا أحد يستطيع أن يحكم شعباً وهو يجهل خصائصه السيكولوجية. فأن تكذب من أجل مصلحة شعبك، أو أن تمكر وتخطط وتغالط من أجل الحصول على مغنم أكبر لوطنك، فإنّك في حاجة قبل كل شيء إلى الإحاطة بالأحوال النفسية للمواطن.

ينبغي على الحاكم السياسي الذي يريد لوطنه النجاح ولنفسه الاستمرار في السلطة ألّا يبني حكمه على الأخلاق ومبدأ الفضيلة، بل على درايته بفساد الطبيعة البشرية وتناقضاتها الداخلية، لأنها طبيعة ميّالة إلى المكر والخديعة والخوف والكذب والطمع.

وانطلاقاً من معرفته لهذه الطبيعة البشرية لشعبه، يمكن للسياسي أن يفهم أنّه لا مكان للأخلاق ولاعتبارات الفضيلة والطيبة داخل حقل الممارسة السياسية، لأنّ الطبيعة البشرية بالذات ماكرة و فاسدة، و"لا ريب في أن الإنسان الذي يريد امتهان الطيبة والخير في كل شيء، يصاب بالحزن والأسى عندما يرى نفسه محاطاً بهذا العدد الكبير من الناس الذين لا خير فيهم. ولذا فمن الضروري لكل أمير يرغب في الحفاظ على نفسه أن يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير، وأن يستخدم هذه المعرفة أو لا يستخدمها، وفقاً لضرورات الحالات التي يواجهها" (3).

ينبغي إذن على الحاكم السياسي الذي يريد لوطنه النجاح ولنفسه الاستمرار في السلطة ألّا يبني حكمه على الأخلاق ومبدأ الفضيلة، بل على درايته بفساد الطبيعة البشرية وتناقضاتها الداخلية، لأنها طبيعة ميّالة إلى المكر والخديعة والخوف والكذب والطمع... فالناس "ناكرون للجميل، متقلّبون، مراؤون، ميالون إلى تجنّب الأخطار، وشديدو الطمع. وهم إلى جانبك طالما أنت تفيدهم، فيبذلون لك دماءهم وحياتهم وكلّ ما يملكون، طالما أنّ الحاجة بعيدة نائية، ولكنها عندما تدنو يثورون، ومصير الأمير، الذي يركن إلى وعودهم من دون اتخاذ أيّة استعدادات أخرى، إلى الدمار والخراب"(4).

الكذب والطبيعة البشرية

  • لوحة
    لوحة "كاذب، كاذب" لمارلين فولسون

كذب رجل السياسة مبني أساساً على أهداف تكتيكيّة، تقوم إمّا على فرضيّة استغفال الشعب وعدم تثمين قدراته الذهنيّة وكفاءاته الحقيقية، وإمّا على اعتبار المصلحة العامة للبلاد. وفي الحالتين هناك تهميش واضح للقوى الشعبيّة.

ومع ذلك فإنّ كذب السياسي يكون مدروساً ومخططاً له مسبقاً، عن طريق حسن اطّلاع الحاكم على ميول الناس وطبائعهم الحقيقية. إنّه بالأحرى، لا يكذب من أجل الكذب، بل يكذب لأنّ هناك أرضيّة تسمح له بالكذب، وهذه الأرضية تتمثّل في سذاجة المحكومين وميلهم إلى التصديق، وطمعهم الظاهر وحرصهم على إظهار حاجتهم للسلطة، وكما بيّن ذلك الفيلسوف باروخ سبينوزا: "لو استطاع الناس تنظيم شؤون حياتهم وفقاً لخُطَّةٍ مرسومة، أو كان الحظُّ مواتياً لهم على الدوام، لَما وقَعوا فريسةً للخُرافة، ولكنَّنا كثيراً ما نراهم وقد وقَعوا في مأزقٍ يبلُغ من الحرَج حدّاً لا يستطيعون منه خلاصاً. ولَمَّا كانوا يتقلَّبون بلا هوادةٍ بين الخوف والرجاء لحِرصهم الشديد على النِّعم الزائلة التي يَجلبُها القدر، فإنهم يميلون دائماً أشدَّ المَيل إلى التصديق الساذج" (5).

وهكذا فإنّ ما يدفع السياسي إلى الكذب هي بنية التفكير الخرافي لدى الناس، التي تجعلهم يصدّقون كل الوعود التي يتلقونها. والغريب في الأمر أنّ تصديق كذب السياسيين لا يقتصر على المجتمعات ذات البنية التقليدية فقط، مثل المجتمعات البدوية أو القبلية، بل ينتشر كذلك في المجتمعات "المتحضّرة" و"المتقدمة"، ولعلّ أبرز مظهر لتجلّي الوعود الكاذبة هي الانتخابات، حتى ولو كانت هذه الانتخابات ديمقراطية في شكلها، إذ تكون فرصة لإطلاق الأحزاب لترسانة ضخمة من الوعود التي سرعان ما تذوب وتتبخّر بمجرّد وصول الحزب إلى سدّة الحكم.

كذب السياسي يكون مدروساً ومخططاً له مسبقاً، عن طريق حسن اطّلاع الحاكم على ميول الناس وطبائعهم الحقيقية. إنّه بالأحرى، لا يكذب من أجل الكذب، بل يكذب لأنّ هناك أرضيّة تسمح له بالكذب، وهذه الأرضية تتمثّل في سذاجة المحكومين وميلهم إلى التصديق.

والانتخابات في مجتمعاتنا العربية، على سبيل المثال، هي أكبر فرصة لكذب السياسيين على شعوبهم. ففي هذا الاتّجاه يكون الهدف الأساسي للكذب السياسي هو الوصول إلى الحكم والمحافظة عليه، فهؤلاء السياسيون يرون أنّ حكم الشعوب لا ينجح باتباع نهج الوضوح، والشفافية وتثمين القيم الأخلاقية، بل يمكن أن يتحوّل ذلك إلى عائق للحكم.

فالطبيعة البشرية السيئة عند الأفراد هي نفسها التي تنسحب على الحاكم السياسي كذلك، فمن المستبعد أن "يترك جميع الناس أنفسهم لهداية العقل وحده، إذ تسيطر على كل فرد شهوته، وكثيراً ما يسيطر عليه البخل والغرور والحسد والكراهية إلى حد يستحيل معه سماع صوت العقل. ولهذا السبب فإنه بالرغم من أنّ الناس يقدمون شواهد مقنعة على صفاء نيّتهم عندما يعدون، عن طريق الكلمة أو الميثاق المكتوب، بالوفاء بعهودهم، فإن أحداً لا يستطيع أن يثق بحسن نية الآخر إلّا إذا أضيف ضمان إجباري إلى هذا الوعد، إذ يستطيع كل شخص طبقاً للحق الطبيعي الالتجاء إلى الحيلة، ولا يلتزم باحترام العقد إلّا طمعاً في خير أعظم أو خوفاً شر أكبر" (6).

يبدو واضحاً إذن أنّ ما يحكم الفعل السياسي هي المصلحة، سواء كانت مصالح شخصيّة تهمّ وضع رجل السياسة وامتيازاته، أو مصلحة الدولة والوطن، وكلّ ذلك يجعل من الوفاء بالعهود أمراً غير مرغوب في مواضع معيّنة، 
وخاصة في السياسة الخارجيّة، بل في بعض الأحيان يتحوّل الوفاء بالعهد تجاه دولة أخرى إلى مضرّة واضحة بالوطن ومصالحه، وقد يهدد السيادة الوطنية.

الطبيعة البشرية السيئة عند الأفراد هي نفسها التي تنسحب على الحاكم السياسي، فمن المستبعد أن يترك جميع الناس أنفسهم لهداية العقل وحده، إذ تسيطر على كل فرد شهوته.

لذلك يجد السياسي نفسه مجبراً على المراوغة والمماطلة والتسويف، والتراجع عن الإتفاقيات المبرمة، والخداع... وكلّ ذلك يتمّ باسم المصلحة العليا للوطن، ولكن ينبغي أن ننتبه من جهة أخرى إلى أنّ نقض المعاهدات، المتمثّل عادة في الخروج عن القوانين الدولية المعمول بها، يخضع دائماً إلى قاعدة تفاوت موازين القوى بين الدول، لأنّ "كلّ دولة تخشى أن تخدعها الدولة الأخرى، وهي على حقّ في ذلك، إذ إنّ المرء لابدّ أن يكون غبيّاً جاهلاً بحقّ السلطات العليا لكي يثق بعهود دولة أخرى ووعودها، في حين تحتفظ هي لنفسها بسيادتها وحقّها المطلق في أن تفعل ما تشاء، ولا تعترف بأيّ قانون أعلى من مصلحة نظامها السياسي الخاص ومنفعته. وسيتبيّن لنا أنّ أي فرد يكون قد ارتكب جرماً إذا وفى بوعوده وكان في ذلك ضرر على الدولة التي يحكمها، ذلك لأنّه لا يستطيع الوفاء بهذا الوعد عندما يكتشف أنّه يلحق الضرر بالدولة إلّا إذا تخلّى عن ولائه لرعاياه، مع أنّ هذا الولاء واجب عليه قبل أيّ شيء آخر، فضلاً عن أنّه يكون عادة قد تعهّد بالإبقاء عليه أمام الملأ" (7).

الخطاب السياسي والنسبيّة

  • ميشال فوكو
    ميشال فوكو

الكذب والصدق صفتان منطقيّتان لا غير، وفي السياسة والحكم ينبغي أن نترك جانباً الدلالات الأخلاقية أو الجمالية لهذين المعنيين، لأنّ كل شيء يصبح ذا منطق خاص يرتبط بالمنفعة وجلب المصلحة للشعب، أي باختصار، السياسة هي مجال الجدوى.

فلا حديث هنا عن "عقل خالص"، لأنه ليس إلّا تجريداً، وهو يفتقد إلى وظيفة واقعية، خاصة أنه لا يحلّ أي مشكلة واقعية ولا يحقق أهدافاً ملموسة. إنّ العقل الذي لا يرتبط بغايات إنسانية ولا يحل مشاكل الواقع هو عقل "سخيف"، يحتفظ بطابعه الصوري ولكنه يبقى عقيماً في مستوى الواقع.

 الحقيقة، بالمعنى النسبي، التي تضمّ الصدق والكذب ليست خارج السلطة، وليست بلا سلطة، بل الحقيقة من صلب هذا العالم، وهي ناتجة منه بفضل إكراهات عدة ترتبط أساساً بأحوال الناس ومصالحهم وطبيعة أمزجتهم، وحاجياتهم اليومية، ومدى احتياجهم إلى سلطة تلبّي رغباتهم المادية والأمنيّة.

إنّ الخطاب السياسي من فئة الخطابات التي تسعى إلى السيطرة على الوضع في الواقع الراهن، ولذلك فإنّ طبيعته تتغيّر بحسب معطيات هذا الواقع، فلا شيء ثابت أو مطلق، وكل شيء فيه متحوّل بحسب الهدف الاستراتيجي، ولعلّ الهدف الأقصى لرجل السياسة يبقى متمثلاً في احتكار السلطة وممارستها لأطول مدة ممكنة، ولذلك يعرّف  ميشال فوكو الخطاب بصفة عامة بأنّه من الوسائل النّاجعة للصراع من أجل الوصول إلى السلطة وممارستها فعليّاً، وهو فضلاً عن ذلك،لا يُستخدم لحسم الصراعات السياسية فقط بل يُمثّل كذلك جوهر الرغبة البشرية الدفينة، والتي تنزع دوماً نحو ممارسة السلطة أو الخضوع لها.

الكذب والصدق صفتان منطقيّتان لا غير، وفي السياسة والحكم ينبغي أن نترك جانباً الدلالات الأخلاقية أو الجمالية لهذين المعنيين، لأنّ كل شيء يصبح ذا منطق خاص يرتبط بالمنفعة وجلب المصلحة للشعب، أي باختصار، السياسة هي مجال الجدوى.

فحتّى الخضوع للسلطة هو من جوهر هذه الطبيعة الإنسانية. وكلّ ذلك يمكن الكشف عنه بواسطة ما يسمّى بـــ"البحث الأركيولوجي"، أي الحفر في عمق أعماق خطاب السلطة وتحديد استراتيجيات المُتحدِّث. فغايتنا ينبغي أن تنصبّ على هدف أساسي يتعلّق بِمن يمتلك سلطة الخطاب، ولأيّ أهداف يوجّهه؟ (8).

في المجال السياسي، يبدو أنّ من يمتلك الخطاب هو الذي ينتجه في الأصل.  ورجل السياسة المنتج للخطاب هو منتج للحقيقة، ولكن أيّ حقيقة؟ إنّها الحقيقة التي تخصّ واقع بلاده وشعبه. فالحقيقة السياسية نسبيّة أو لا تكون، وما يصلح لبلد أو لشعب معيّن لا يصلح بالضرورة لغيره من البلدان والشعوب. وكذب السياسي يمكن من هذه الزاوية أن يخضع للتقييم المعياري النسبي، فيندرج في إطار استراتيجيات السلطة لضمان طاعة المواطنين لها.

وهكذا ينبغي علينا ألا نرى في السلطة إلّا طابعها القمعي والزجري المرتبط بالعقاب والمراقبة، بل هي المجال الذي يمكن أن يمنح للناس أجنحة أكبر للتحرّك والتحليق حتى بواسطة خطابها المنمّق، الذي قد ينطوي على ما نسميه عادة "أكاذيب السلطة"، وهذه "الأكاذيب" متفشّية في كامل الجسد الاجتماعي، لأنّ السلطة في حد ذاتها ظاهرة اجتماعية وليست ظاهرة قانونية منفصلة.

 من يمتلك الخطاب هو الذي ينتجه في الأصل، ورجل السياسة المنتج للخطاب هو منتج للحقيقة، ولكن أيّ حقيقة؟ إنّها الحقيقة التي تخصّ واقع بلاده وشعبه. فالحقيقة السياسية نسبيّة أو لا تكون، وما يصلح لبلد أو لشعب معيّن لا يصلح بالضرورة لغيره من البلدان والشعوب.

ولذلك "لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن نُعرّف السلطة انطلاقاً من مفهوم القمع وحده، فعادة نحن نحصر دور السلطة في الفعل القمعي، ونعتقد بأنّ تلك هي مهمّتها الأصلية. وهذا الحصر يجعلنا نُعطيها بُعداً قانونياً خالصاً قاعدته الأساسية هي الزّجر أو "قول لا ". ولكن يبدو أنّ هذا التّعريف للسلطة هو تعريف اختزالي لا يمكنه أن يُلمَّ بكلّ أبعادها، رغم أنّه هو التعريف السائد لدى الناس. فإذا كانت السلطة قانونية خالصة وقمعية، فما الذي يُجبرنا على طاعة أوامرها في كل الحالات، وما الذي يبرّر لنا أن نخضع لها تلقائياً وعن طيب خاطر وباقتناع في أغلب الأحيان! وهذا ما يدفع إلى القول بأنّ السلطة تتجاوز البعد القانوني الضيّق لتلتصق أكثر بــ "الرغبة" الإنسانية وبمبدأ "اللذة" وحب "السيطرة"، وهي أشياء تسكن عمق الذات، وتحتاج مِنّا إلى "الفضح" و"التّعرية"، وهي وظيفة يضطلع بها "الأركيولوجي" (9).

ملخّص القول هنا أنّ الحقيقة، بالمعنى النسبي، التي تضمّ الصدق والكذب ليست خارج السلطة، وليست بلا سلطة، بل الحقيقة من صلب هذا العالم، وهي ناتجة منه بفضل إكراهات عدة ترتبط أساساً بأحوال الناس ومصالحهم وطبيعة أمزجتهم، وحاجياتهم اليومية، ومدى احتياجهم إلى سلطة تلبّي رغباتهم المادية والأمنيّة.

ولكل مجتمع نظامه الخاص المتعلّق بالحقيقة، و"سياسته العامة" حول الحقيقة، أي أنماط الخطاب التي يستقبلها هذا المجتمع ويدفعها إلى تأدية وظيفتها كخطابات صحيحة، ولكل مجتمع الآليات والهيئات التي تمكنه من التمييز بين المنطوقات الصحيحة والخاطئة، والطريقة التي نتبيّن هذه من تلك، وكذلك التقنيات والإجراءات المشار إليها من أجل التوصّل إلى حقيقة، وكذا مكانة أولئك الذين توكَل إليهم مهمة تحديد ما يمكن اعتباره حقيقياً (10).

لذا فإنّ كلمة "حقيقة" يمكن أن تعني مجموعة من الطرق المنظمة من أجل الإنتاج والتوزيع والتداول.  إنّ "الحقيقة" مرتبطة دائرياً بأنساق السلطة التي تنتجها وتدعمها، وبالآثار التي تولّدها وتسوسها، وهو ما يدعى "نظام الحقيقة".

مصالحة السياسة والأخلاق: أيّ أبعاد إنسانيّة؟

  • قادة الدول العظمى في فرساي
    قادة الدول العظمى في فرساي

إنّ نظام الحقيقة يجعل من نسبية الحقائق قاعدة أساسية لدى رجل السياسة، إذ إنّ كل سلطة تنتج حقيقتها الخاصة التي تراها نافعة لشعبها، وصالحة لمعالجة وضعه الخاص. ورغم كل هذه التبريرات فإن للكذب في السياسة ويلات يمكن أن تنجرّ عن الممارسات العلائقية بين الدول.

من ذلك أنّ بعض الحروب المدمرة التي اندلعت في عالمنا الحديث والمعاصر، نتجت من بعض الأوهام الكاذبة التي كانت تدور في أذهان ساسة العالم، من خلال مناداتهم لخلق نموذج لعالم جديد يرونه أكثر مثالية، وهم يعملون جاهدين على الترويج لهذه الأكاذيب، وإخراجها للناس في صور تبشيرية متعددة، تارة باسم محاربة "محور الشر"، وطوراً "للقضاء على الإرهاب"، وتارة أخرى لفرض "الديمقراطية وحقوق الإنسان".

والنتيجة كانت دخول العالم في أزمات مزمنة، وخلق أوضاع لا إنسانية أكثر ما يعاني منها هي الدول الفقيرة. وهذا الدمار الناتج عن كذب الساسة كان قد ألمح إليه الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة، واصفاً نتائج الحرب العالمية الأولى التي خطط لها ساسة الدول "الأربعة الكبار"، وصفاً مهولاً، فيقول في هذا الصدد "كنت كلّما فكّرت في الحرب التي انتهت، وفي نصيبي منها، شعرت بفداحة الشرور التي يرزح الناس تحت أثقالها. فما كانت حصيلة أربع سنوات من القتال؟ عشرات الملايين من القتلى والجرحى والمشوهين والمعتوهين واليتامى والأرامل، والدور والمزارع العامرة وقد باتت خراباً يباباً، وبلايين الأموال التي هدرت رصاصاً، وقنابل وبنادق ومدافع وبواخر وبوارج استقرت في قاع البحار. ناهيك بالآيادي التي تعطلت عن العمل، والأفكار التي تعمّقت، والقلوب التي باتت مباءات للحقد والكره والنفاق والغش وشهوة الانتقام. وها هم "الأربعة الكبار" الجالسون في قصر "فرساي" يجمعون ويطرحون، ويضربون ويقسمون، ويوهمون أهل الأرض أنهم وحدهم الذين أوتوا الحكمة من ربهم، والسلطان لخلق عالم جديد من أنقاض العالم القديم. فما هو العالم الذي يخلقونه؟" (11).

ولا شكّ أنّه بمثل هذه الممارسات السياسية الجانحة ينحط الإنسان إلى ما دون الحيوان، فالذي يزهو بعقله يصبح أثناء الحرب بلا عقل. فكأنه هنا يشوه الصحيح ليعود من جديد فيحاول تصحيح ما شوهه بيديه، وهو "يقتل الحي ليعود فيندب الحي. وهو يدمّر ما بناه ليعود من جديد فيحاول تصحيح ما دمّره... إلى متى هذا الجنون؟" (12).

نلاحظ اليوم أنّ الأزمات الخانقة التي يعيشها عالمنا المعاصر، من إرهاب وعنف ومشاكل اقتصادية وحتّى صحية (جائحة "كورونا" مثلاً)، ناتجة كلها عن التدمير الممنهج والتشويه الذي طالت معالمه، وضرب في الصميم طبيعته الأولى الأصلية التي نشأ عليها.

السياسة تفلت دائماً من دائرة العلوم الصحيحة ويمكننا اعتبارها فنّاً أكثر من كونها علماً. فالسياسي فنّان لأنّه مطالب أوّلاً ببناء نمط مجتمعي ناجح، انطلاقاً من مادة معقّدة  وشديدة التركيب، وهذه المادة هي ما يسميها فلاسفة السياسة "الطبيعة البشرية". 

إنّ هذه المعاينة الموضوعية لنتائج السياسة الدولية التي يمارسها ساسة الدول الكبرى، والتي أوقعت العالم بأسره في أزمة أخلاقية خانقة، تحتم علينا من جهة أخرى إعادة تثمين المقاربة الأخلاقية للسياسة، التي جعلت من القيم القاعدة الأساسية لممارسة السياسة. وهذه المقاربة نشأت منذ العهود اليونانية القديمة مع الفيلسوف أرسطو، الذي ربط السياسة بالفضيلة ولم يفصلها رغم ذلك عن الهدف الأساسي وهو المنفعة. وبهذا المعنى "يجب على الشارع الذي يريد أن يشرّع قوانين عادلة أن ينظر إلى منفعة المواطنين. العدل هنا إنّما هو المساواة، ومساواة العدل هذه ترد إلى المنفعة العامة للدولة، بقدر ما ترد إلى المنفعة الفردية للمواطنين. وفي الجمهورية الفاضلة إنّما الفرد هو الذي يستطيع ويريد طوعاً أن يطيع ويأمر تبعاً لقواعد الفضيلة" (13). 

تلك هي أسس المدينة الفاضلة، إنها المدينة التي تتحقق فيها مصلحة الناس ومنافعهم في إطار دولة يكون رئيسها وقائدها "محبّاً للصدق وأهله، مبغضاً للكذب وأهله"، على حد تعبير الفارابي (14).

أمّا المدينة الضالة أو الفاسدة، فهي التي يكون رئيسها الأوّل ممن أوهم أنّه يوحى إليه من غير أن يكون كذلك، ويكون قد استعمل في ذلك التمويهات والمخادعات والغرور، التي لا تجلب لدولته إلّا الأزمات وتضعها في عداوة دائمة مع غيرها من الدول، ومع شعوبها كذلك.

مهما يكن من أمر، فإنّ السياسة تفلت دائماً من دائرة العلوم الصحيحة، التي تقتضي منهجاً واضحاً وموضوعيّاً دقيقاً ومحدّداً، يمكن إخضاعه إلى منطق السببية والضرورة. بل يمكننا اعتبارها فنّاً أكثر من كونها علماً. فالسياسي هو فنّان بدرجة أولى، لأنّه مطالب أوّلاً وبشكل خاص، بأن يبني نمطاً مجتمعياً ناجحاً، انطلاقاً من مادة معقّدة  وشديدة التركيب، وهذه المادة هي ما يسميها فلاسفة السياسة "الطبيعة البشرية". ومع ذلك، فإنّ توفّر حدّ أدنى من الإيتيقا السياسيّة والقيم الأخلاقية كفيل بأن يُحافظ على الأبعاد الإنسانيّة لفنّ السياسة، ويُجنّب البشريّة ويلات الشر المتربّص بها.  

المصادر

1- مكيافلي، نيكولاي، الأمير، تعريب خيري حماد، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1985، ص135 وــ136.

2- عبد الحق منصف، كانط في مواجهة الحداثة، بين الشرعية الأخلاقية والشرعية السياسية، أفريقيا للشرق، الدار البيضاء، 2010، ص 253.

3- مكيافلي، الأمير، ص 136.

4- نفس المرجع، ص 144.

5- سبينوزا، باروخ، رسالة في اللّاهوت و السّياسة، ترجمة حسن حنفي، دار الطّليعة، بيروت، ط3، 1994، ص 111.

6- نفس المرجع، ص 382.

7- نفسه ، ص 387.

8- فوكو، ميشال، نظام الخطاب، ترجمة محمّد سبيلا، دار التنوير، بيروت 2007، ص 66.

9- نفس المرجع، ص 84.

10 - نفسه ، ص 93 -92.

11- نعيمة، ميخائيل؛ سبعون، طبعة نوفل، الطبعة الثامنة، بيروت 1998، ص 190-189.

12ــ نفس المرجع، ص 166.

13-ـ أرسطوطاليس، كتاب السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيد، منشورات الجمل، بيروت 2009، الكتاب الثالث، الباب السابع، ص 224.

14- الفارابي، أبو نصر، آراء أهل المدينة الفاضلة، دار المشرق، بيروت 1968، الفصل 28، ص 128.