البورتريه الذاتي: كيف يرى الفنانون أنفسهم؟
تعكس البورتريهات الذاتية للفنانين الحالة النفسية التي ترافقت ورسْمها.. كيف رأى الفنانون أنفسهم؟
تعكس البورتريهات الذاتية للفنانين الحالة النفسية التي ترافقت ورسْمها، وقد ازدهرت هذه الأعمال في بداية القرن العشرين في أكثر مظاهرها تنوعاً. وهي تنطوي على أبعاد جمالية وفلسفية وأفكار يقصد الفنان إظهارها، وقد يشكل البورتريه رسالة مباشرة إلى المشاهد ليتلمس رغبة الفنان في أي هيئة أراد أن يظهر، وما هي عناصر الخلفية ومكوّناتها، وأي الألوان تجسد بنظره هذه الرغبة.
لطالما كانت هذه الأعمال محط اهتمام دارسي الفنون حول العالم، إذ تُقام معارض تُجمع فيها هذه اللوحات من أماكن حفظها المختلفة، وتعرض أمام الزائرين مجسدة موضوعاً متجانساً يخفي الكثير من القصص. يتمكن الباحثون من مقارنة البورتريهات الذاتية لرسامين ببورتريهات رسمها لهم زملاؤهم.
كنا قد تعرفنا إلى البورتريهات الذاتية للكاتب الروسي ميخائيل ليرمنتوف (1814-1841)، وكيف جسّد عبرها مراحل حياته المختلفة وعكس من خلالها أعماله الأدبية. وربما كان الأكثر تشابهاً مع هذه البورتريهات لدينا تلك التي رسمها كاتبنا جبران خليل جبران (1883-1931)، ففي اللوحة التي رسمها سنة 1908 (محفوظات متحف جبران، لجنة جبران الوطنية)، مثلاً، نبحث في معاني نظرته إلينا، فإلى جانب الصفاء الروحي، ينظر إلينا الشاب بعينه نظرة محايدة تختزن معالم الأسى، فيما عينه اليمنى في الظل. نهرع إلى سيرته الشخصية، أو إلى أعماله المؤرخة في تلك الحقبة كي نقف على حالته النفسية وما الذي أرادنا أن نشاهده بالفعل.
عملياً، نبحث عن قصّة. وتكون قصة البورتريه جذابة عادة؛ لأن اللوحة عبارة عن تكثيف مرحلة زمنية وصبّها في لحظة واحدة أمامنا... لذلك، يعكف الباحثون في روسيا على تقصي القصص الكامنة وراء البورتريهات والبورتريهات الذاتية.
إيليا ريبين
رسم أستاذ الفنون والرسام المخضرم إيليا ريبين (1844-1930) نفسه عام 1894 أثناء إقامته في مدينة نابولي، حين كان على حد قوله "في وادي الشيخوخة"، في زمن أزمة إبداعية (محفوظات متحف ليف تولستوي التذكاري في ياسنيا بوليانا، 1894). اختار للوحة نظام ألوان محدوداً وزاوية غير عادية، إذ يبدو أن المشاهد ينظر إلى الفنان الجالس من مستوى أكثر علواً. أظهر ريبين نفسه في وضع مريح، لكنه غير عادي للبورتريه الذاتي. لا شيء في اللوحة يذكرنا بمهنته، إذ لا نجده أمام حامل لوحات خشبي، ولا فرشاة في يده، بل يجلس فقط أمام خلفية مظلمة وكتب بجوار النافذة.
لكن ريبين يبدو مختلفاً تماماً في لوحة تلميذه إسحاق برودسكي. في عام 1902، بعد تخرجه من كلية أوديسا للفنون، التحق بأكاديمية الفنون. أنهى الطالب الجاد في 3 أشهر فقط برنامج الفصل التحضيري، الذي تم تصميمه للعام الأكاديمي، فألحقه ريبين بمحترفه.
يقول برودسكي في سيرته الذاتية: "أقمت على الفور علاقة جيدة مع ريبين، لأنني كنت طالباً مجتهداً ومخلصاً وعملت بجد. لقد أحب ريبين الطلاب وأولاهم اهتماماً خاصاً". في عام 1908، تخرج برودسكي بمرتبة الشرف من المدرسة العليا للفنون في الأكاديمية، وسافر إلى خارج روسيا القيصرية.
خلال هذه المدة، تعددت الأعمال التي حملت توقيعه وتنوعت موضوعاتها، وكان أحدها رسْمه بورتريه معلمه داخل المحترف (محفوظات المتحف العلمي البحثي التابع للأكاديمية الروسية للفنون في سان بطرسبورغ، 1912). كتب ريبين في إحدى رسائله: "رسم إسحاق برودسكي بورتريهاً لي، أظهرني بشكل جيد، والعمل مثير للاهتمام. أجد أن التشابه كامل. أراني معجباً بهذه التقنية. فيها البساطة، والتناغم، والانسجام والحقيقة. الحقيقة فوق كل شيء. كم هو جميل! نعم، لديه موهبة رائعة".
أظهر برودسكي معلمه ريبين في السابعة والستين من عمره، عبقرياً جليلاً، حكيماً بالتجربة، في جو محترفه الإبداعي، مع لوحة وفرشاة في يده. في الخلفية، يمكننا رؤية لوحة الموسيقار أنطون روبنشتاين (1829-1894) التي عمل عليها ريبين بين عامي 1909 و1915.
ميخائيل لاريونوف
في عام 1915، غادر الزوجان الفنانان ميخائيل لاريونوف (1881-1964) وناتاليا غونتشاروفا (1881-1962) إلى باريس، بدعوة من سيرغي دياغيليف (1872-1929) للعمل على لوحات خاصة بمؤسسته المسرحية "المواسم الروسية"، التي كانت تنظم عروضاً سياحية لفنانين في المسارح الإمبراطورية في سان بطرسبورغ وموسكو بين عامي 1908 و1921.
رسم لاريونوف بورتريهاً ذاتياً "مع امرأة مجهولة" عام 1924، مستذكراً الرحلة الباريسية (محفوظات غاليري تريتياكوفسكي، موسكو، 1924). درس الناقد الفني ألكسندر كوفاليف (1935-2017) أعمال لاريونوف في تلك المرحلة، وكتب عنها: "في مطلع العشرينيات من القرن الماضي، أصبحت رسوماته متناغمة، مبنية على تدرجات لونية من اللؤلؤي إلى الرمادي... لوحاته متقنة الرسم، تبثّ أنغاماً حميمة وقوية بشكل غير عادي، خاصة تلك التي تظهر غرفة المعيشة، حيث تغدو الألوان ملحوظة بشكل مميز".
أما ناتاليا غونتشاروفا فقد رسمت بورتريه لاريونوف في المرحلة المبكرة من نشاطها، في عام 1910 (محفوظات غاليري تريتياكوفسكي، موسكو، 1911)، حين كانت مولعة بأسلوب فلاديمير تاتلين (1885-1953)، فجعلت تركيز المشاهد على إحدى خصال لاريونوف وليس على وجهه، مظهرة إياه جالساً يدخن، ممسكاً الغليون (البايب) بيده ويخرج الدخان من بين شفتيه.
وهذه اللوحة ليست البورتريه الوحيد الذي رسمته لزوجها، فقد رسمته مرات عديدة، على سبيل المثال، "بورتريه لاريونوف وفصيلته العسكرية" وهي لوحة تعبيرية أنهتها عام 1911 أو "بورتريه لاريونوف" عام 1913.
إسحاق برودسكي
في بورتريه ذاتي، صوّر إسحاق برودسكي (1884-1939) نفسه مع ابنته ليديا البالغة من العمر عاماً واحداً (محفوظات المتحف العلمي البحثي التابع للأكاديمية الروسية للفنون في سان بطرسبورغ، 1911).
وضع الفنان نفسه والطفلة على حافة اللوحة، وفي الوسط أظهر الطبيعة الساكنة عبر الفاكهة ولعبتين للطفلة فوق قماشة، وفي الخلفية أجواء المدينة الإيطالية.
في عام 1908، أقيم معرض في أكاديمية الفنون، حيث لفتت أعمال إسحاق برودسكي أنظار الجمهور والنقاد بشكل خاص. عُرضت فيه لوحة زوجة الفنان لوبوف على الشرفة، فحصل على لقب فنان، ورحلة إلى خارج البلاد.
حظيت أعماله الناجحة بسمعة جيدة، إلى درجة أن أساتذة الأكاديمية قرروا تمديد رحلة عمل برودسكي لمدة عام آخر. عاش الفنان وعمل بشكل أساسي في إيطاليا، بما في ذلك جزيرة كابري، حيث كان يزور مكسيم غوركي.
عن لوحته "الحكاية"، حصل برودسكي على جائزة عموم الروسيا لجمعية تشجيع الفنون. استخدم أموال الجائزة، ليذهب مرة أخرى إلى شبه جزيرة آبينين، وخلال تلك الرحلة، في عام 1911، رسم البورتريه الذاتي مع ابنته ليديا.
التحقت ليديا بمدرسة الرقص مع الراقصة الشهيرة أغريبينا فاغانوفا (1879-1951)، ورقصت في مسرحيات حتى منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، ثم انضمّت إلى محترف والدها في معهد لينينغراد للرسم والنحت والعمارة. حققت مسيرة فنية ناجحة في الرسم، وعُرضت أعمالها في روسيا وخارجها وتزوجت من الرسام فيودور ريشيتنيكوف (1906-1988).
رسم بوريس كوستودييف لوحة بألوان مائية تجسد برودسكي وهو يمشي في شوارع سان بطرسبورغ (محفوظات المتحف العلمي البحثي التابع للأكاديمية الروسية للفنون في سان بطرسبورغ، 1920). في الخلفية يمكننا رؤية البرج الذهبي للمبنى الأدميرالي ومشهد ظلي لكاتدرائية القديس إسحاق. يحمل الرسام لوحة بيده اليسرى، وهي إحدى لوحات كوستودييف نفسه، وكان متميزاً في رسم الفتيات النبيلات وإظهار جمالهن.
واللوحة هي عربون شكر من كوستودييف لبرودسكي على مساعدته. ففي منتصف العقد الأول من القرن العشرين، عانى كوستودييف من مرض خطير تسبب له بإعاقة حركية، وبات يستخدم الكرسي المدولب. حاول العديد من أصدقائه مد يد العون له، وكان برودسكي أحدهم، إذ كان يبتاع لوحاته بنشاط.