الإبداع الثقافي لذوي الإعاقة.. متلازمة أم مصادفة؟
ما زال بعضنا ينظر إليهم، ظلماً أو جهلاً، كأشخاص عاجزين. إنهم ذوو الإعاقة الذين يبدع جزء منهم فناً وثقافة وفكراً. تعالوا نتعرّف إلى قصص بعضهم.
داخل أحد ممرات كلية الآداب في جامعة مؤتة جنوب العاصمة الأردنية عمّان، كنت أقف إلى جانب القاعة منتظراً بدء محاضرة بعنوان "تاريخ الأدب العربي". لفتت انتباهي فتاة كفيفة تمسك بيدها فتاة أخرى لترشدها إلى الطريق، ورغم أن نظري بقي معلّقاً بالفتاتين إلا أنني بدأت بتخيّل حجم معاناة تلك الفتاة الكفيفة بالقدوم إلى الجامعة ومغادرتها يومياً، وصعود الأدراج والتعرّف إلى المباني والقاعات.
سريعاً عدت إلى الواقع ودخلت قاعة المحاضرة، وما هي إلا دقائق قليلة حتى تجاوزتني الفتاة الكفيفة نفسها، والتي خيّم الهدوء على القاعة بمجرد دخولها، فاكتشفت أنها ليست طالبة بل أستاذة المادة! قلت في نفسي: "نعم، ها هي إذاً الدكتورة رابعة عبد السلام المجالي، التي دوّن اسمها في خانة "المُدرّس" إلى جانب عنوان المادة عندما قمت بتسجيلها".
مع انتهاء كل محاضرة للمجالي طوال الفصل الجامعي، كان قسم كبير من الطلبة يتجمهرون حولها، ويتبادلون معها الحديث حول تاريخ الأدب العربي وتفاصيل أكثر عن المادة الدراسية، وعيونهم مليئة بالحب تارة والإعجاب تارة أخرى بهذه المدرّسة الكفيفة.
لا أتذكّر يوماً أني تحدّثت إليها، أو وجّهت لها سؤالاً حتى داخل المحاضرات، لكنني اليوم، وبعد مضي أكثر من 10 أعوام أتحدّث معها للمرة الأولى، لأتلمّس مفاتيح نجاح أصحاب الإعاقة، الذين تركوا عبر الزمان بصمات أدبية وثقافية ما زالت حاضرة حتى اليوم، ويتم تكرارها في مختلف الأجيال كما هي حال رابعة المجالي، التي كان طريقها "مليئاً بالأشواك والتحديات".
لم تتحدّث الدكتورة الخمسينية مطوّلاً عن معاناتها ومراحل تعليمها والتحديات التي واجهتها حتى أصبحت أستاذة جامعية، بل ركّزت على توجيه اللوم للمجتمعات التي تحوّل في كثير من الأحيان ذوي الإعاقة إلى أشخاص "عاجزين، فاقدين للشغف والطموح، ومسلوبي الإرادة أيضاً"، لذلك ترى أن "المعوّق" قادر على تسخير إمكانياته مهما كانت محدودة "ويكون رقماً صعباً في هذه الحياة".
وتقول المجالي في حديث مع "الميادين الثقافية" إنها اهتمت منذ صغرها بالأدب العربي والإسلامي، ومراحل تطوّره، ولحبها لهذا التاريخ المهم، حرصت على نقله للأجيال الجديدة إن كان من خلال عملها كمعلمة في إحدى مدارس الكرك، أو في جامعة مؤتة لاحقاً، وهو ما ساعد الكثير من طلبتها على صقل مواهبهم الأدبية والشعرية.
ثقافياً، ألّفت المجالي كتاباً واحداً عام 2008 بعنوان "ملامح الحياة العباسية من خلال كتاب الحيوان للجاحظ"، وتضمّن الكتاب 3 فصول، ناقش الأول الحياة العلمية في العصر العباسي، وتناول الثاني الحياة الثقافية، بينما خصصت المجالي الفصل الثالث لتسليط الضوء على الحياة الاجتماعية في ذلك العصر.
فقدان البصر والرسم
من جنوب الأردن إلى العاصمة، تبدأ هنا القصة بطريقة تقليدية مكرّرة، طفلة تستغل أي فرصة تمكّنها من الإمساك بقلم لتسارع إلى رسم خطوط عشوائية ورسومات بلا ملامح من وحي مخيّلتها الغضة، وتزداد الفرحة البريئة عندما تكون الغنيمة أقلاماً بألوان زاهية، تترك أثراً أكثر وضوحاً على الأوراق والجدران وأي مكان داخل منزلها. هكذا ولدت موهبة الرسم لدى شبه الكفيفة أسيل رمان، منذ أن كانت بعمر الخامسة.
لكن ومن دون سابق إنذار، بدأت الإنارة في عيني أسيل تخفت تدريجياً، وبريق الألوان يبهت، وتتداخل خطوط رسوماتها المبتدئة ببعضها، فهذه العشرينية على موعد مع خلل صحي يسمّى (ارتفاع ضغط العين الشديد) قضى على أكثر من 90% من بصرها، وبدلاً من أن تواصل صقل موهبتها بالرسم، دخلت في سلسلة من عشرات العمليات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بصرها المهدّد بــالزوال في أي لحظة، بحسب وصفها.
حلم أسيل في أن تصبح رسّامة محترفة لم يفارق مخيلتها الصغيرة، لأنها ومع كل مرحلة من حياتها كانت تتأكد بأن "خربشتها" لم تكن شقاوة طفولة فقط، بل هو حبّ تعلّقت به حتى بعد خسارة معظم بصرها، ووحده إيمانها بتحقّق الأقدار المكتوبة، والصدفة "المقدّرة"، جعلها تعيد إحياء حبها للرسم مجدداً.
تقول أسيل إنها تعرفت إلى الفنان التشكيلي سهيل بقاعين أثناء إقامته معرضاً في مدرستها، ضمن مبادرة تحمل اسم "عبق اللون" تختص بتعليم ذوي الإعاقات المختلفة، أساسيات الرسم العلمية والعملية، وهو ما ساعدها على اتقان الرسم رغم صعوبات الرؤية خلال سنوات قليلة، رسمت خلالها عشرات اللوحات، شاركت بها في العديد من المعارض المشتركة، وأقامت معرضاً خاصاً بها حمل اسم "جلنار".
تحدّي الإعاقة لم يتوقّف عند هذا الحد، بل قرّرت أسيل أن تدرس الفنون الجميلة في الجامعة الأردنية، بعد نجاحها في الثانوية العامة، "ما تعلّمته في مبادرة عبق اللون جعلني من المتفوّقات منذ الأشهر الأولى لي في الجامعة"، معتبرة أن دراستها ستمكّنها من تحقيق غايتها في احتراف الرسم مستقبلاً.
"عبق الألوان".. متلازمة الإبداع والإعاقة
خلال الحديث مع أسيل ذكرت اسم الفنان التشكيلي الأردني سهيل بقاعين ومبادرته الفريدة من نوعها في الأردن. لذلك لم نتردّد في التحدّث معه، والتعرّف أكثر إلى مبادرته الخاصة بتعليم الرسم لذوي الإعاقة، حيث وجدنا لديه قناعة عميقة بارتباط الإعاقة مع الإبداع. لكن هذه العلاقة، كما يرى بقاعين، تحتاج إلى أناس مؤمنين بعدم عجز المعوّق، وقادرين على "نفض" الغبار عن عقولهم وأرواحهم على حد سواء.
بقاعين الذي رافق ذوي الإعاقة منذ ما يزيد على 10 سنوات، قال إنه خلال تلك الفترة اكتشف كلمة السر للدخول إلى أعماق هذه الفئة من المجتمع، وتنشيط حواسهم السليمة، وإيقاظ مواهبهم الدفينة، مختصراً كلمة السر تلك بـ"تحرير العقل"، إذ من دون ذلك سيستسلم صاحب الإعاقة لفكرة العجز، ويبقى داخل الإطار المعتم الذي صنعته بيئته ومجتمعه.
بقاعين أخبر "الميادين الثقافية" عن إيمانه بإبداع أصحاب الإعاقة وخاصة في المجالات الفنية والأدبية، ما جعله يأخذ قراراً بألا يترك ظهور مواهبهم للصدفة، بل الاشتباك معهم بشكل مباشر عبر مبادرته "عبق اللون" التي أعادت الأمل للكثير من أصحاب الإعاقة، وأثبتت لمن حولهم أنهم "لا يحتاجون سوى لفرصة واحدة حتى يثبتوا قدراتهم، التي يعجز الأصحاء عنها أحياناً".
اقتناع التشكيلي الأردني بـ"متلازمة الإعاقة والإبداع"، أثبتتها الرسومات الآتية من مخيلات أطفال وفتيان لم يروا الأشياء والألوان منذ ولادتهم، "كنت أرى رسوماتهم وأقف مستغرباً كيف تخيّل شخص شيئاً لم يره في حياته ورسمه بتفاصيل لم يكن يدركها المبصرون من أقرانه".
ويضيف بقاعين حول مبادرته، أنها ذللت الصعاب أمام أصحاب الإعاقة عامة، والمكفوفين بشكل خاص، بعد أن ابتكر طريقة ترشد المكفوفين إلى معرفة الألون وتمييزها من خلال دمج الروائح بالألوان، فمزج مثلاً اللون الأخضر برائحة النعناع، والأسود برائحة القهوة، والأحمر برائحة الكرز، والأصفر برائحة الليمون، وجعل لكل لون رائحة يمكن معرفتها من دون رؤيتها، مشيراً إلى أن طلبته أقاموا عشرات المعارض الفنية المشتركة، ورسموا أكبر جدارية في الأردن بعنوان "قارئ اللون" بعرض 12 متراً وطول 50 متراً.
ويختم بقاعين حديثه قائلاً: "كنت أعتقد أني سأكون معلمهم، لكن الحقيقة كانت أنني وبعد سنوات من الاحتكاك بذوي الإعاقة، اكتشفت أن مفاهيمي وأفكاري الحياتية تغيّرت تماماً، وبدأت أنظر لنفسي ولحياتي بمنظور مختلف، جعل روحي تسمو عن الصغائر، ولم أعد أرى مشاكلي تحديات حقيقية، فهم من علّموني ولست أنا من علّمتهم".
تاريخ طويل من إبداع ذوي الإعاقة الثقافي
المواهب الفنية والثقافية والفكرية لأصحاب الإعاقة ليست وليدة هذا الزمان، ومن سردنا قصصهم اليوم هم امتداد لسلسلة طويلة من ذوي الإعاقة الذين تركوا بصمة في التاريخ، بدءاً من الشاعر العباسي الكفيف أبو العلاء المعري، والشاعر بشار بن برد، مروراً بالأديب المصري الأصم مصطفى الرافعي، وليس انتهاء بالأديب طه حسين، وسيد مكاوي، وغيرهم الكثير من المبدعين في عالمنا شرقاً وغرباً، كما هي الحال مع أشهر موسيقار في العالم، الألماني الأصم بيتهوفن.
وبناء عليه يرى دكتور علم النفس السلوكي، رامي المومني، أن الأشخاص ذوي الإعاقة "مظلومون" من قبل مجتمعاتهم التي كانت على مر الأزمان تنظر إلى الإعاقة على أنها "شذوذ أو انحراف أو نقص في الطبيعة، ومن ثم لعنة ربانية"، ولم ينظر إليهم على أنهم أشخاص يملكون طاقة ومشاعر وأحاسيس كأي شخص آخر.
إلا أن هذه الصورة "السوداوية" من وجهة نظر المومني، تغيّرت بعد أن أطلق ذوو الإعاقة العنان لأفكارهم، وفجّروا طاقاتهم الكامنة في نفوسهم بوجه من قلّل من أهميتهم وإمكانياتهم، عندما تهيأت لهم الظروف المحيطة، ووجدوا أناساً يرشدونهم إلى مكامن قوتهم وقدرتهم.
لذلك يرى المومني أن سرد قصص عن أناس تمكّنوا من النجاح بعد الفشل، والنهوض من وحل السقوط والتعثّر، ربما تكون كافية لإخراج أحدهم من حالة اليأس أو الإحباط التي يمرّ بها بسبب عدم تمكّنه من النجاح في الدراسة، أو خسارة عمله مثلاً، أو فقدان شخص عزيز عليه. لكن من المؤكد أنك تحتاج لمهارات غير عادية للتعامل مع الأشخاص ذوي الإعاقة، حتى تتمكّن من فكّ عقدهم المتراكمة نتيجة النظرة المجتمعية، واستنهاض طاقاتهم وتفعيلها في الوقت ذاته.
وبيّن المومني، أن الأشخاص ذوي الإعاقة قادرون على توظيف أعضائهم وحواسهم السليمة للقيام بمهامهم الحركية اليومية، مما يقوّي تلك الأعضاء والحواس، لتكون حواساً بديلة، مستشهداً بالعديد من أصحاب الإعاقة القادرين على تناول الطعام بأقدامهم بدلاً من أيديهم المبتورة، أو أولئك الذين يفعّلون عقولهم في وقت تعجز أطرافهم وأجسادهم عن الحركة، مؤكداً أن: "الناس يصنعون تاريخهم في ظل ظروف ليست من اختيارهم، إنهم يفعلون ذلك تحت ضغط العلاقات والقوى التي توجّه إراداتهم ورغباتهم".