ابن بطوطة.. أمير الرحالة العرب الذي أمضى 30 عاماً في الترحال
كان أبو عبد الله، محمد ابن بطوطة، رحالة ومستكشفاً عظيماً في العصور الوسطى. زار الكثير من المناطق الإسلامية ودوّن تجاربه في كتاب أصبح فيما بعد محطة تاريخية مهمة.
من هو ابن بطوطة؟
ولد أبو عبد الله محمد بن بطوطة في 25 شباط/فبراير 1304 في مدينة طنجة المغربية شمال إفريقيا. كان معظم الأولاد في هذا الزمان والمكان قد تلقوا تعليماً أساسياً في الكتابة والقواعد والرياضيات الأساسية حتى سن الثانية عشرة، لكن، ونظراً لأنّ عائلة محمد بن بطوطة كان العديد من أفرادها علماء وقضاة، فقد حصل أيضاً على دراسة متقدمة للقرآن والقانون ليصبح قاضياً.
منذ الصغر، كان ابن بطوطة يعشق السفر ويهتم بأخبار العالم التي كان يقرؤها في الكتب، ككتاب "المسالك والممالك" لابن خردذبه. غالباً ما يُقارن أبو عبد الله بماركو بولو، الذي توفي قبل عام من مغادرته المغرب. ولكن على عكس بولو، سافر أبو عبد الله في الغالب إلى المناطق الإسلامية وداخلها. وقد كانت تسمى هذه الشبكة من الممالك الإسلامية "دار الإسلام".
وفي زمانه، كانت الدولة الإسلامية قد انقسمت منذ فترة طويلة إلى أقاليم مجزأة من الإمارات والسلطنات ذات الحكم الذاتي التي يحكمها القادة العسكريون والحكام المحليون. في منتصف القرن الثالث عشر، استولى الجيش المغولي على العاصمة العباسية بغداد، ودمّر المدينة التي كانت ترمز إلى الوحدة السياسية الإسلامية والروعة الثقافية.
في رحلات ابن بطوطة، عاش على تبرعات من رعاته، ومعظمهم من أفراد النخبة في المجتمع الإسلامي الذين التقى بهم على طول الطريق. لكنه لم يكن مجرد مسافر، فقد كان مشاركاً ناشطاً وغالباً ما كان يعمل كقاضٍ، إداري أو سفير أثناء توقفه.
اتّخذ عدداً من الزوجات المتميزات، عموماً بنات وأخوات السلاطين، ولم يرد ذكر اسم أي منهن في كتابه. كان يتزوج في بلد معيّن ويبقى مع زوجته شهوراً ثمّ يتركها بعد ذلك ويسافر إلى أي منطقة أخرى. ولذلك كان لديه أولاد في مناطق متعددة.
رحلات ابن بطوطة
عندما بلغ ابن بطوطة الـ 21 عاماً، وتحديداً في 14 حزيران 1325، غادر منزله لأداء فريضة الحج إلى مدينة مكة المكرمة في الحجاز. فكتب عند سفره: "انطلقت بمفردي، ليس لديّ زميل مسافر قد أجد في رفقته البهجة، ولا قافلة قد أنضم إلى جانبها، لكنني متأثر بدافع قوي بداخلي ورغبة عزيزة في حضني لفترة طويلة لزيارة هذه الأماكن المقدسة اللامعة. لذلك استعديت لقراري للتخلي عن أعزائي، إناثاً وذكوراً، وتركت منزلي، بينما تتخلى الطيور عن أعشاشها. ولأن والديّ لا يزالان في أواصر الحياة، فقد أثقل كاهلي بشدة أن أفترق عنهما، وكلاهما أصيبا بالحزن على هذا الانفصال".
في تشرين الأول 1326 وصل أبو عبد الله إلى مكة، حيث تدفق آلاف الحجاج من العالم، واعتبر حينها أنّ في الكعبة يتقاطع العالم السماوي مع ممالك الأرض.
مع انتهاء الحج، أصبح قادراً على العودة إلى دياره، ولكنّه استمرّ في السّفر. كما يلاحظ العالم روس إي دن "لم يعد يسافر لأداء مهمة دينية أو حتى للوصول إلى وجهة معينة. كان يسافر الآن لمجرد حب السفر".
سافر عبر شمال إفريقيا إلى تونس حيث سجل عند دخوله المدينة مشاعر الوحدة والحنين إلى الوطن، قائلا:"قدم سكان المدينة من جميع الجهات مع تحياتهم وأسئلتهم لبعضهم البعض. لكن لم تقل لي أي روح كلمة تحية، لأنه لم يكن هناك أي منهم أعرفه. شعرت بحزن شديد بسبب وحدتي لدرجة أنني لم أستطع كبح الدموع التي بدأت في عيني وبكيت بمرارة."
كان يواسيه في سفره زميله الحاج الذي قدّمه لرجال مثقفين آخرين ووجد له مسكناً في كلية بائعي الكتب. غادر تونس إلى الإسكندرية، في صحبة قافلة للحماية على الطريق، والتي كانت استراتيجية يتبعها في رحلاته. في الإسكندرية، التقى بصوفي متدين يُدعى برهام الدين الذي تنبأ بأنّه سيزور السند أي باكستان، الهند والصين ويستمتع بضيافة إخوة الدين الثلاثة الذين عاشوا في تلك المناطق.
كتب ابن بطوطة كيف كان للميناء الكبير في الإسكندرية بمصر ميناءان، أحدهما للسفن التجارية المسيحية والآخر للسفن الإسلامية. وقد التقى بالعديد من الأشخاص على طول الطريق ودرس مع علماء مشهورين من جميع أنحاء العالم الإسلامي، حيث أصبح رجلاً محبوباً.
من الإسكندرية ذهب إلى القاهرة ومن هناك تقدم عبر فلسطين وسوريا وعاد باتجاه مكة. كانت دمشق بمثابة العاصمة الثانية للمماليك، وقد التحق أبو عبد الله بقافلة من الحجاج خرجت من القاهرة باتجاه دمشق تحت حماية السلطان المملوكي، وقد مرّت بعدد من الأماكن أثناء سيرها؛ كالخليل، والقدس، وبيت لحم، وغيرها، حتّى وصلت دمشق.
يكتب عن أسفاره في فلسطين "لقد زرت بيت لحم، مسقط رأس يسوع. الموقع مغطى بمبنى كبير. والمسيحيون ينظرون إليه بتبجيل شديد ويستمتعون بضيافة كل من ينزل فيه". وعند وصولهم إلى القدس، أذهلوا بالمسجد الأقصى، فكتبوا:" المسجد الحرام من أجمل المباني ويقال إنه أكبر مسجد في العالم".
خلال مغامراته، أمضى ابن بطوطة أشهراً من الدراسة في دمشق، حيث كتب في وصف دمشق أنّها "المدينة التي تتفوق على سائر المدن في الجمال". كما كتب عن السياسة المالية فيها، قائلاً: "يسجّل كرم الحكومة والطبقة العليا في تقديم الأوقاف لمن هم أقل حظاً ولتطوير مختلف جوانب المدينة".
أكمل مناسك الحج عام 1326، ودرس في مكة عدة أشهر. في أواخر عام 1326، انضم إلى قافلة مسافرين متجهين إلى بلاد ما بين النهرين وبلاد فارس وتبريز في أذربيجان. أكمل رحلته بالقارب فوق نهر دجلة إلى الموصل بالعراق، ثم عاد إلى مكة عام 1327. قطعت رحلته بأكملها أكثر من 4000 ميل. على طول الطريق يذكر التجار الذين التقى بهم، حدائق العراق والثروات التي قدمت له مثل الذهب والفضة.
اقرأ أيضاً: حكايات ألف ليلةٍ وليلة في ساحات بغداد
في عام 1328، قام برحلة بحرية أسفل الساحل الشرقي لأفريقيا إلى تنزانيا. ثم زار عمان والخليج العربي قبل أن يعود مرة أخرى إلى مكة في عام 1330. ثمّ غادر أبو عبد الله مكة متوجهاً إلى اليمن وبعدها سافر عبر البحر الأسود إلى غرب آسيا الوسطى، ثم إلى القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية. واستمر شرقاً حتى وصل إلى الهند في 8 أيلول/سبتمبر 1333، حيث سعى للحصول على عمل ومكافآت سخية في المكاتب الحكومية في سلطنة دلهي في الهند في ظل مملكة إسلامية من أصل تركي. أمضى عشر سنوات قاضياً لحاكم الهند وكتب عن الفترة التي قضاها هناك. لقد ذكر أنّ الهنود في الغالب يأكلون الأرز والخضروات الخضراء، وأنّهم كانوا أشخاصاً متدينين، وحتى كيف سيتم إعدام لص لسرقة جوزة واحدة.
في عام 1345، أرسله الملك في الهند إلى الصين كسفيراً، حيث عيّن كقاضٍ هناك. أبحر على طول ساحل بورما إلى جزيرة سومطرة، ثم إلى قوانغتشو والصين. ثم عاد إلى مكة مرة أخرى عام 1346 م.
في عام 1349، توجّه الرحالة ابن بطوطة إلى وطنه ووصل إلى العاصمة المغربية فاس. في العام التالي قام برحلة قصيرة عبر مضيق جبل طارق إلى غرناطة. جاءت رحلته الأخيرة في عام 1353 عندما سافر براً عبر الصحراء الكبرى إلى مملكة مالي في غرب السودان وعاد إلى المغرب عام 1355 حيث بقي هناك.
خلال ثلاثين عاماً من السفر استكشف الرحالة أبو عبد الله الكثير من نصف الكرة الشرقي وكل العالم الإسلامي تقريباً. من كل مكان زاره، يروي تجاربه. كتب عن الناس، الأماكن، الحيوانات والكنوز التي رآها أو أعطيت له. بشكل عام، سافر حوالى 73 ألف ميل، وزار حوالى 40 دولة وعبَر ثلاث قارات بين عام 1325 و1352.
كتاب ابن بطوطة
كتاب "رحلة ابن بطوطة" يعتبر من أكثر كتب العالم شمولية وله أهمية تاريخية، فتمت ترجمته إلی 40 لغة حية في العالم. في عام 1356، طلب الحاكم المريني للمغرب (نسبة إلى الدولة المرينية)، السلطان أبو عنان، من عالم أديب شاب يُدعى ابن الجازي تسجيل تجارب وملاحظات أبو عبد الله ليكتب استكشافاته خلال رحلاته، حيث عمل ابن الجازي مع ابن بطوطة لمدة عامين على تدوين كتاب "الرحلة". وبعد انتهاء تعاونهما، تقاعد ابن بطوطة في منصب قضائي في بلدة إقليمية مغربية صغيرة، حيث توفي عام 1368.
اقرأ أيضاً: القضاء في الإسلام
علّق العالم روس دان على كتاب "الرحلة"، قائلاً: "تشمل موضوعات تعليقه الحي والناقد أحياناً، الدين والتعليم وسياسة الدولة والمراسم الملكية والقانون والحرب والعلاقات بين الجنسين والعبودية والتجارة والزراعة والمطبخ والتصنيع، الجغرافيا والنقل وإنجازات وإخفاقات العديد من الفقهاء وعلماء الدين والملوك والحكام. الرحلة هي رواية شاهد العيان الوحيدة الباقية من جزر المالديف، وغرب إفريقيا السودانية والعديد من المناطق الأخرى كما كانت في القرن الرابع عشر".
تم تداول المخطوطة في مختلف البلدان الإسلامية، ولكن لم يتم الاستشهاد بها كثيراً من قبل علماء المسلمين. في النهاية لفت انتباه الغرب عن طريق مغامرين من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أولريش جاسبر سيتزن (1767-1811) ويوهان لودفيج بوركهارت (1784-1817). لقد قاما بشراء نسخ مختصرة بشكل منفصل أثناء رحلاتهما في جميع أنحاء الشرق الأوسط. نُشر أول ترجمة باللغة الإنكليزية لتلك النسخ في عام 1829 من قبل صموئيل لي.
تم العثور على خمسٍ من مخطوطات ابن بطوطة أيضاً من قبل الفرنسيين، عندما احتلوا الجزائر في عام 1830. كانت النسخة الأكثر اكتمالاً التي تمّ العثور عليها في الجزائر عام 1776، ولكن أقدم جزء كان مؤرخاً عام 1356.
في السياق نفسه، ظهر النص الكامل للأسفار لأول مرة، مع ترجمة عربية وفرنسية في 4 مجلدات بين 1853-1858 لدوفريميري وسانغينيتي. تمت ترجمة النص الكامل أولاً إلى الإنكليزية بواسطة Hamilton A.R.
في عام 1929، ترجم المستشرق الألماني وأستاذ جامعة هالي الألمانية، رالف الجير، مختارات من الكتاب إلی اللغة الألمانية. وصدرت هذه الترجمة في 256 صفحة في ألمانيا.
اقرأ أيضاً: أوروبا والعالم الإسلامي.. تاريخ بلا أساطير
ميزات ابن بطوطة
اشتهر ابن بطوطة بأنّه أحد أشهر المستكشفين المسلمين في التاريخ، وأحد الرحالة العظماء في كل العصور. تطلق عليه جامعة "كامبريدج" لقب "أمير الرحالة العرب المسلمين". كل ما نعرفه عن أسفاره معروف تقريباً لأنه روى قصته وكتبها لاحقاً في حياته، فهو يمتاز بأنّه راوٍ من الدرجة الأولى.
تتوالى أحداث رحلته في الكتاب برشاقة عجيبة، حيث يخترقها أسلوب القصص المسلي الممزوج بقوة الخيال ودقة الواقع، وهو يرسم التقاليد والعادات والديانات، ويصف الألبسة بألوانها وأشكالها وحيويتها ودلالتها، ولا ينسى الأطعمة وأنواعها وطريقة صناعتها.
كذلك وصف المدن في أواخر القرون الوسطى بعين مصور بارع. ولم ينس بأن يذكر معلومات عن السياسة والاقتصاد. فضلاً، عن وصف الغرائب التي كانت تتكلّم الشعوب عنها.
كان ابن بطوطة مهتماً بالناس في الغالب. التقى وتحدث مع غواصي اللؤلؤ وسائقي الجمال واللصوص. وكان رفاقه في السفر من الحجاج والتجار والسفراء. كذلك زار عدداً لا يحصى من المحاكم، وبفضل قدرته على القراءة والتحدث باللغة العربية أصبح زائراً شهيراً بين القادة.
التقى بعدد لا يحصى من أفراد العوائل الملكية والنخب. كان في القاهرة في عهد السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون. زار شيراز عندما كانت ملاذاً فكرياً للإيرانيين الفارين من الغزو المغولي. مكث في العاصمة الأرمينية ستاريج كريم مع مضيفه الحاكم تولوكتومور. انصرف إلى القسطنطينية لزيارة أندرونيكوس الثالث بصحبة ابنة الإمبراطور البيزنطي أوزبك خان. زار إمبراطور الصين من سلالة اليوان، وزار مانسا موسى في غرب إفريقيا (حكم من 1307 إلى 1337).
كان صريحاً بشأن من يعطيه فلوساً او يسكنه لديه. كما كان له شخصية قوية وصبر على التحديات والصعاب التي كان يواجهها أثناء سفره في البرّ والبحر. تعرّض للكثير من النكسات الصحية، وللهجوم أكثر من مرة. تارة كان يغرق وأخرى كان على شفا إعدام على أيدي الطغاة.
بالإضافة إلى بحثه في خلفيات الشريعة الإسلامية وزيارة جميع المناطق الإسلامية.
نقد ابن بطوطة
يدعي النقاد أنّ ابن الجازي، ككاتب محكمة، أدخل مقاطع من كتّاب سابقين أو روايات أخرى لتكملة ذاكرة الرحالة ابن بطوطة، لأنه لم يحتفظ بمشاهداته مكتوبة، بل اعتمد بالكامل على ذاكرته في سرد حكاياته. أثار هذا الاعتماد قلق الباحثين اللاحقين في عمله، والذين جادلوا بأنه لا يمكن أن يتذكر بهذا الوضوح ما قيمته 30 عاماً من المعلومات. تتضمن تلك الأجزاء المستعارة أوصافاً للإسكندرية والقاهرة والمدينة ومكة.
لاحظ النقاد المعاصرون العديد من التناقضات النصية التي تشير إلى الاقتراض الكبير من الحكايات القديمة. توجّهت الانتقادات إلى التسلسل الزمني المربك في بعض الأحيان والمعقولية لأجزاء معينة من خط سير الرحلة. ويقترح بعض النّقاد أنّه ربما لم يصل أبداً إلى البر الرئيسي للصين، لكنه وصل إلى حد فيتنام وكمبوديا. صحة هذه الادعاءات محل خلاف على نطاق واسع.
لكن أبا عبد الله اعترف بأنّه فقد بعض التفاصيل أثناء الرحلة. كما اعتمد على مصادر أصلية تتعلق بالأحداث التاريخية التي قيلت له في محاكم العالم، مثل القبض على دلهي ودمار جنكيز خان.
رحلات ابن بطوطة رسمت خريطة العالم الإسلامي في العصور والوسطى. كانت كتاباته عنها مصدراً لعدد لا يُحصى من المشاريع البحثية والتحقيقات التاريخية متعدّدة الجوانب. قدّم في عمله لمحات لا تقدر بثمن عن الناس والمعالم الدينية والمحاكم في جميع أنحاء العالم الإسلامي.