إيمي سيزير.. شمس الزنوجة المتوهجة
رُشِّح لجائزة نوبل 4 مرات، وكان صوت الزنوجة العميق.. تعالوا نتعرف إلى بعضٍ من سيرة إيمي سيزير.
في الـ26 من شهر تموز/يونيو عام 1913، وُلِد السياسي والشاعر المارتينيكي إيمي سيزير، الذي رُشِّح إلى جائزة "نوبل" للأدب 4 مرات، وكان صوت الزنوجة العميق. وقد ترك دواوين شعرية ومقالات وخطابات سياسية ومسرحيات، منها "مأساة الملك كريستوف"، و"شمس مقطوعة العنق"، و"العبودية والاستعمار"، و"الثقافة والاستعمار". فما هي الاتجاهات الفكرية والسياسية لهذا الشاعر؟ ومن هي أشهر الشخصيات التي مثّلت تحوّلاتٍ في مسيرة حياته المتّسمة بالالتزام والنضال؟
حياة مديدة خطّها الوعي بقضايا الشتات الأفريقي
جاء في تقديم أهم عمل أدبي كتبه إيمي سيزير، وهو ديوان "العودة إلى أرض الوطن"، أنّ هذا الشاعر "سليل عبيد سابقين، تمّ ترحيلهم عن وطنهم وحُرِموا من لغتهم وديانتهم وفولكلورهم..."، وفي هذا سبب وجيه ليتحوّل سيزير إلى صف الأصوات الرافضة للواقع، الذي فرض على سكان جُزر المارتينيك، الواقعة في البحر الكاريبي، على اعتباره حفيداً للقادمين من بلد الشمس الحارقة والأدغال، بعد أن جلبهم الرجل الأبيض للعمل في مزارع قصب السُّكّر، وسلّط عليهم قيوداً اجتماعية كبّلتهم طيلة قرون.
ينحدر سيزير من عائلة متواضعة، إذ عَمِل والده في قطاع الخدمة المدنية وامتهنت والدته الخياطة، وكان جدّه مُدرِّساً فيما أجادت جدته القراءة والكتابة، الأمر الذي مكّن أغلب أحفادها من تحصيل التعليم والالتحاق بالمدارس.
بعد حصوله على الشهادة الثانوية، التحق سيزير بمدرسة "لويس لوغران"، والتقى هناك بليوبولد سيدار سنغور، ثم ارتقى للدراسة في المدرسة العليا للمعلمين بفرنسا، حيث نال إجازة في الآداب. في شهر كانون الأول/ديسمبر سنة 1934، أسّس مع أصدقاء ربطته بهم مشاغل فكرية وعرقية صحيفة "الطالب الأسود"، التي ظهر على صفحاتها للمرة الأولى مصطلح "الزنوجة"، وكان كذلك من مؤسسي مجلة "مدارات".
قبل ذلك انضم سيزير إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، وقال عن ذلك: "كنت شاباً متعاطفاً مع اليسار، غير أنني لم أكن أعرف الشيء الكثير عن الشيوعية". غادر هذا الحزب بعد فترة، ليؤسس حزبه الخاص الذي حمل اسم "حزب التقدم المارتينيكي"، وكان من أهم مطالبه ضرورة إرساء حكم ذاتي، ومحاربة الاستعمار والعنصرية، كما عُرِف بمساندته للحركات التحررية في القارة الأفريقية.
ربطت إيمي سيزير علاقات قوية برموز أدبية وفنية وفكرية، من فرنسا والولايات المتحدة وآسيا وأفريقيا، أساسها فكرة التحرر الوطني والمضيّ قُدُماً نحو حاضر أكثر إنسانية، وفهماً للكرامة البشرية. لم يتخلَّ سيزير عن منطق الرفض طيلة حياته، فوقف في وجه ما سُمّي "قانون فبراير"، الذي أشاد بفضائل الاستعمار الفرنسي على البلدان الواقعة تحت احتلاله.
الشعر مهم لكنه غير كافٍ لتغيير العالم
في حوار معه نشرته جريدة "الإكسبريس" الفرنسية بتاريخ 1 حزيران/يونيو 2004، أجرته الروائية الغوالدلوبية ماريز كوندي، تحدّث سيزير عن علاقته بالشعر وتصوّره لوظيفته الجمالية، حيث اعتبر أنّ الثقافة عموماً سلاح فعّال في وجه القوى المناهضة للحرية، موضحاً أنّها تشتمل على كل ما يتخيّله الإنسان لتشكيل العالم والتكيّف معه بطريقة تجعله يليق بحياة البشر، وتجعل من الموت أمراً مهيناً.
كما أكّد على أنّه يؤمن بالثقافة في بُعدها الكوني، مُنبِّهاً إلى ضرورة تجاوزها النظرة الأوروبية الكلاسيكية، التي ترى الرجل الأبيض متفوقاً على الأعراق الأخرى. وتحدّث سيزير أيضاً عن طبيعة الشعر التي تنغمس في الأعماق، وهو ما يتماشى مع نظرته الشخصية، فالشعر يركّز على الجوهر، وهو أعمق من القشرة الأكاديمية المرتبطة بالشهادات، وأعمق كذلك من القشرة الدنيوية السطحية.
ولعبت الأمكنة سواء في المارتينيك أو في أفريقيا المتخيلة دوراً رئيسياً في توليد نصوص إيمي سيزير، المليئة بالتفاصيل اليومية والتي ترصد عذابات وصوت الرجل الأسود، كما ترسم عالماً موازياً فيه كائنات أخرى تشاركه الوجود، وتلعب دور الرموز والتمثّلات الشعورية والعاطفية، من قلق وسخط وانتظار... وهذه الكائنات تستمدّ حضورها من التصور البدائي لدور الحيوان والجماد وعناصر الكون، في مشاركة الإنسان حمل عبء الوجود واستكمال مغامرته الحياتية في أدق تفاصيلها.
علاقته ببروتون وسارتر وفانون
إن كانت "الزنوجة" كما يتمّ تعريفها عادةً هي مشروع ثقافي يشمل أنشطة فنية ملموسة على أرض الواقع، كما أنّها تمسّ الحقل السياسي أيضاً، فإنّها تُغلّب الرؤية الإنسانية على تلك العرقية والحزبية، وهي تستهدف جميع المضطهدين في الأرض.
وعبّر إيمي سيزير عن ذلك بقوله: "أنا من كوكب المضطهدين"، ولم ينفكّ يردّد أنّ ساكن جزر الأنتيل أفريقي تمّ ترحيله عنوة، حيث "الطريق المسدود الذي لا يُستثنى من الجوع والبؤس والقمع"، وكان يقول أيضاً: "لا نولد زنوجاً بل نصبح كذلك"، وكذلك "زنجياً وُلِدت وزنجياً سأموت".
من المعروف أنّ سنة 1948 مثّلت منعرجاً في تاريخ "الزنوجة"، حيث ساعدت تراكمات الشعر الزنجي والملغاشي المتميز بصرخة الرفض، والذي مثّل أنطولوجيا لا تخضع لثيمات الشعر السائد، المتشكّلة من الترسّبات القادمة من تخوم التلاقي بين العبودية والبؤس وضرورة التحرر منهما، وهو ما عبّر عنه سيزير بقوله: "زنوجتي ليست بقعة قاتمة لميت يغلق عين الأرض النافقة، زنوجتي ليست برجاً ولا كاتدرائية، هي تثقب الأشكال بصبرها الطويل".
وقد كان لهذه الحركة أصداء إيجابية في أوساط المثقفين في باريس، فقد ربطت أندريه بروتون علاقة وطيدة بكلٍّ من سيدار سنغور وإيمي سيزير، الذي مثّل ديوانه "دفتر العودة الى أرض الوطن" صدمة جميلة بالنسبة لبروتون، حيث وصفه بقوله: "إنّه أعظم نُصُب غنائي في هذا الزمن".
أما علاقة إيمي سيزير بليوبولد سيدار سنغور فتحولت إلى رمز، فقد كان كلا الشاعرين فرانكفونياً مدافعاً عن الهوية الأفريقية باستخدام لغة المستعمر، وكان سنغور بحسب تعبير سيزير "المفتاح الذي سمح له بفهم بلده المارتينيك، وفهم جزر الهند الغربية".
وفي شريط المخرجة المارتينيكية، أوزان بالسي، المعنون "إيمي سيزير.. كلمة للقرن الـ21"، قال سيزير: "من خلال سنغور واجهت قارة بأكملها، أرضاً لم يكن لديّ فكرة عنها، صورة غامضة ومربكة للغاية. كان هو من أحضر إليّ أفريقيا... هذا كل شيء". وقد امتدت صداقة هذين الكاتبين منذ العام 1932 حتى وفاة الشاعر والرئيس السنغالي وعضو الأكاديمية الفرنسية، ليبولد. س. سنغور.
في كتابه "إيمي سيزير وفرانز فانون.. بورتريهات المستقلين"، يتحدّث الأكاديمي الفرنسي بيير بوفييه عن سيزير وفرانز فانون، واصفاً إياهما بأنّهما حاربا الاستعمار وإرث تجارة الرقيق، بدءاً من بلدهما جزر المارتينيك، وكانا شاهدي عيان على عملية التحرر منه.
إيمي سيزير شاعر الزنوجة الذي ناضل من أجل الحكم الذاتي التفاوضي في بلده، وفرانز فانون الطبيب الذي واجه الهوية المزيفة للمستعمرين في أقاليم "ما وراء البحار" وشمال أفريقيا، وكشفت استشارته النفسية عن وصمة العار التي تُلحقها أفعال المستعمرين بالسكّان الأصليين والمهاجرين من عدة بلدان وتحديداً من المغرب العربي، واستذكر ممارسات الاستعباد، وأصبح بذلك نصير الأجيال المحتجّة. وقد وصلت هاتان الشخصيتان إلى بُعد عالمي في الحياة الفكرية للقرن الـ20، يمنحنا اليوم مقياساً وفهماً لتوقعات وتحديات حقبة ما بعد الاستعمار.
في مقالٍ له بعنوان "ثورة فرانز فانون"، صدر في 13 أيلول/سبتمبر سنة 1961، وصف سيزير فرانز فانون بـ"الملتزم"، وبأنّه "استخدم عنف اللاعنف، وهو عنف العدل والنقاء والثبات"، ووصف منهجه في مواجهة الاستعمار بأنّه كان "أخلاقياً ونبيلاً"، ووصفه بـ"رجل العاطفة المطلقة".
أما جان بول سارتر فقد وصف إيمي سيزير بـ"أورفيوس الأسود"، ووصف شعره بأنّه "الانحدار الدؤوب للزنجي نحو أعماقه". وقد استفاد سارتر من رحلته إلى الولايات المتحدة عام 1945، حيث اكتشف عالم السود والمهمشين الذين يمثلون "أميركا الأخرى"، واكتشف ثراء إنتاجاتهم الأدبية والفنية، ونضالهم لنيل حريتهم، كما فهم باكراً أنّ إيمي سيزير هو "أورفيوس" الذي يطالب بعودة "يورديس" من ظلمة "بلوتو"، إله العالم السفلي، وقد كان سيزير في زنوجته "انتصار النرجس"، بحسب سارتر.
علاقته بألفريدو لاما وبيكاسو
انبهر الرسام الكوبي ألفريدو لاما بجزر المارتينيك، التي مرّ بها في طريق رحلته إلى الولايات المتحدة برفقة أندريه بروتون، واستوحى منها عملاً فنياً هو "الدغل". كما توطدت علاقته بسيزير منذ العام 1949، وطلب منه بعد أن أصبح عاجزاً عن الرسم أن يتولّى إكمال مشروع "البشارة"، المتكوّن من عشرات النقوش الكبيرة الحجم، بأن يختار قصائد تناسبها، وقد صدرت مجموعة منها في فرنسا عام 1982، مترافقة مع نصوص شعرية لسيزير.
من جهته، التقى الرسام الإسباني بابلو بيكاسو بسيزير عام 1948، وذلك خلال مؤتمر السلام في بولندا. وفي العام 1950، صدرت مجموعة "جسد ضائع" لسيزير المكوّنة من 10 قصائد، وقد زينها 31 نقشاً لبيكاسو مع بورتريه رسمه كتتويج رمزي لهذا الشاعر، وقد استُخدم هذا البورتريه في أول مؤتمر للكُتّاب والفنانين السود، الذي انعقد في باريس سنة 1956.