"إنَّ الحياة التي تبغي لن تجد".. لماذا نفكر في الموت ونخافه؟
يقول باسكال إن"معاناة الموت من دون تفكيرٍ فيه أسهل من معاناة هذا التفكير". لماذا نفكر في الموت ونخاف منه؟ وكيف رأته البشرية وتعاملت معه؟
"معاناة الموت من دون تفكيرٍ فيه أسهل من معاناة هذا التفكير"، بليز باسكال.
يعثر قارئ "ألف ليلة وليلة" الشهيرة على جملةٍ تَرِد باستمرار لتروي نهاية تنعُم الأفراد بالرخاء والسرور، "...إلى أن أتاهم هادم اللذّات ومفرّق الجماعات"، والمقصود هنا الموت، من دون إفشاء اسمه، وكأنَّ إغفال ذِكره قد يقي منه. ونجد أنَّ الثقافة الإنسانية عامَّةً مسكونةٌ بهاجس معنى الموت، فالكائن البشري يأمل دوماً بحياةٍ أطول، حتى لا نقول بالخلود، بأية طريقةٍ ممكنةٍ. هذا النص هو مقاربة للموت، من خلال تفكُّر وتدبُّر كثيرٍ من الباحثين لمسألة الموت ومعنى الحياة.
**
رحلة البحث عن الخلود
تُعَدُّ "ملحمة جلجامش" [1] أو "أوديسة بلاد الرافدين"، كما يقول الباحث العراقي طه باقر (1912 - 1984)، أقدم نوعٍ من أدب الملاحم البطولية في تاريخ الحضارات كلها، فقد عالجت مسائل الوجود البشري جميعها، ولا سيّما الحياة والموت وما بعد الموت، وبيّنت الصراع الأزلي بين الموت والفناء المقدَّرَيّن، وبين إرادة الإنسان المغلوبة والمتشبثة بالوجود، والساعية إلى أيِّ وسيلةٍ للخلود. فالبطل جلجامش، المكوَّن ثلثاه من مادة الآلهة الخالدة، وثلثه الباقي من مادة البشر الفانية، مُعَرَّضٌ هو الآخر للموت، والبقاء للآلهة فحسب [2]. كيف يسلك البشر بإزاء هذا الأمر في هذه الحال؟
تقول الملحمة إنَّه بعد وفاة أنكيدو، رفيق وخِلِّ جلجامش، هام على وجهه في الصحارى، وصار يُناجي نفسه:
"إذا ما مت، أفلا يكون مصيري مثل أنكيدو؟
لقد حلَّ الحزن والأسى بجسمي
خفت من الموت، وها أنا أهيم في البوادي" [3].
وفي رحلته الطويلة إلى جبال لبنان، وحال وصوله، ناداه الرجل العقرب، وخاطبه:
"ما الذي حملك على هذا السفر البعيد؟
وعلامَ قطعت الطريق الطويل، وجئت عابراً البحار الشاقة العبور؟
أبِن لي القصد من المجيء..." [4].
فأجابه جلجامش:
"أتيتُ قاصداً أبي، أوتو – نبشتم، باحثاً عن الحياة
أبي الذي دخل في مجمع الآلهة
جئت لأسأله عن لغز الحياة والموت..." [5].
ويحاور جلجامش صاحبة الحانة، سدوري، الساكنة عند ساحل البحر، التي أوصدت بابها وأحكمت إغلاقه بالمزلاج. وبعد أن عرّف عن نفسه وتباهى، خاطبته قائلةً:
"إن كنتَ حقاً جلجامش الذي قتل حارس الغابة
وغلبتَ خمبابا الذي يعيش في غابة الأرز
وقتل الأسود في مجازات الجبال، وأمسك بثور السماء وقتله
فلِمَ ذَبُلَت وجنتاك ولاح الغم على وجهك؟
وعلامَ مَلَكَ الحزن قلبك وتبدّلت هيئتكَ
ولِمَ صار وجهك أشعث كوجه من سافر سفراً طويلاً
وكيف لفح وجهكَ الحر والقر؟
وعلامَ تهيمُ على وجهك في الصحارى؟
فأجاب بطل الملحمة:
كيف لا تذبل وجنتاي ويمتقع وجهي
ويملأ الأسى والحزن قلبي وتتبدل هيئتي
فيصير وجهي أشعث كمن أنهكه السفر الطويل
ويلفح وجهي الحر والقر وأهيّم على وجهي في الصحراء
وقد أدرك (مصير البشر) صاحبي وأخي الأصغر
(...) إنَّه أنكيدو صاحبي وخلي الذي أحببته حباً جماً
(...) إنَّ النازلة التي حلّت بصاحبي قضّت مضجعي
آه، لقد غدا صاحبي الذي أحببت تراباً
وأنا سأضطجع مثله فلا أقوم أبد الآبدين
فيا صاحبة الحانة، وأنا أنظر في وجهك
أيكون في وسعي ألا أرى الموت الذي أخشاه وأرهبه؟
فأجابته صاحبة الحانة:
إلى أين تسعى يا جلجامش
إنَّ الحياة التي تبغي لن تجد
حينما خلقت الآلهة العظام البشر
قدرت الموت على البشرية
واستأثرت هي بالحياة
أما أنتَ يا جلجامش فليكن كرشك مليئاً على الدوام
كُن فرحاً ومبتهجاً نهار مساء [6].
ما الموت؟
على هذا النحو، حسمت الملحمة الرافدينية أمر الإنسان المحكوم عليه بالموت والفناء، وأبقت الخلود من نصيب الآلهة. وما على الكائن الفاني إلا أن ينسى شرطه الإنساني، ويذهب الى مُتع الحياة يعبُّ منها. ولتقبُّل هذا المصير القاسي، كان العقل يبحث عن أسبابٍ تخفف عنه تلك النهاية المأسوية، فابتدع الفلسفة أولاً، ولجأ إلى الدين لاحقاً، كي يساعداه على فهم وتقبُّل فكرة الموت.
و"كتاب الموتى" المصري، "الخروج في النهار"، الذي يعود تاريخه إلى العام 3500 قبل الميلاد، يرى إلى رحلة الروح الإنسانية باعتبارها يقيناً حقيقياً وباعثاً على البهجة، ويطرح تصوراً فلسفياً عن العلاقة الجدلية بين دوائر الوجود الثلاث: الإنساني والإلهي والعالم. وتحمل نصوصه الجنائزية دعوةً إلى التوحيد بين هذه الدوائر، وحينها "إذا صنعنا وجودنا وأحببنا وجود الآخرين، فلن يهزمنا الموت، ولن ندخل هذه التجربة محمَّلين بالتصورات المرعبة عن القبر، بل ستصحبنا (في لحظة الموت) مشاعر الرضى، لكوننا تركنا خلفنا وجوداً حاولنا أن يكون جميلاً، وأفسحنا الطريق لوجودٍ آخر أحببناه. نترك نهاراً خلفنا لنخرج في نهارٍ آخر"، وفقاً لتعليق مترجم الكتاب [7].
ويبدو أنَّ النظر إلى الموت كفناءٍ شاملٍ، يشكّل مرحلةً متأخِّرةً في مواجهة الإنسان للموت، ففي الدراسات الأنثروبولوجية عن الموت، يتبيّن أنَّ الشعوب رفضت فكرة الفناء الشامل، ونظرت إليه بوصفه فناءً جزئياً. وما يخشاه الإنسان هو العدم المطلق، والحقيقة الساطعة أنَّ "الإنسان فانٍ"، والصعب هو تعلّم العيش مع هذه النهاية، أي "تعلّم الموت" من أجل أن نستطيع أن نحيا.
فالإنسان، بحسب المفكر المصري زكريا إبراهيم، "يتفلسف لأنَّه يقلق ويفشل ويمرض ويتألم، ويدرك أنَّ وجوده قد حيك من نسيج الفناء، ويعرف أنَّه لا محالة ذائقٌ الموت. أو بعبارةٍ أخرى، ألا يمكننا القول إن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يعاني القلق والجزع والهم والانشغال والسأم والخوف من الموت" [8].
وفي تعريفٍ بسيطٍ فإنَّ الموت هو توقّف الحياة. تمَّ اقتراح معايير مختلفة لتعريف هذا التوقف، من وجهتَي نظرٍ طبيةٍ وقانونيةٍ، والذي هو في الغالب أقرب إلى كونه سيرورةً من كونه حدثاً يقع لمرةٍ واحدةٍ، أو حدثاً مفاجئاً (الموت "العنيف"): توقُّف التنفس (لفظ أنفاسه الأخيرة). توقُّف نشاط القلب. الوقف الجزئي أو الكلي للوظائف الدماغية. أما من وجهة نظرٍ فلسفيةٍ، من الصعب صياغة مفهومٍ للموت.
في كتابه "الكينونة والزمان" اقترح مارتن هايدغر (1889- 1976) تعريفاً للموت على أنَّه: "إمكانية الاستحالة (la possibilité de l’impossibilité) بالنسبة للإنسان". يشكّل الموت هذه اللحظة الأخيرة والحتمية، عندما تنتهي الخيارات التي يمكنه القيام بها خلال حياته، من بين الاحتمالات المختلفة التي تشكّل وجوده.
حسمت ملحمة "جلجامش" أمر الإنسان المحكوم عليه بالموت والفناء، وأبقت الخلود من نصيب الآلهة. وما على الكائن الفاني إلا أن ينسى شرطه الإنساني، ويذهب إلى متع الحياة يعبُّ منها. ولتقبُّل هذا المصير القاسي، كان العقل يبحث عن أسبابٍ تخفف عنه تلك النهاية المأساوية، فابتدع الفلسفة أولاً، ولجأ إلى الدين لاحقاً، كي يساعداه على فهم فكرة الموت وتقبلها.
يتوجّب على التحليل الفلسفي لمفهوم الموت أن يميّز بين ثلاثة جوانب على الأقل: الموت بشكلٍ عام (نموت)، ومنها موتي، موتك، موت الآخر، وخاصَّةً موت المحبوب. فهل الموت هو علامةٌ على اختفاء الإنسان، أم أنَّه يمثّل انتقالاً، عبوراً، نحو شكلٍ آخر من أشكال الوجود؟
يعتقد الفلاسفة الثنائيون، أي الذين يميّزون الجسد عن الروح بوضوحٍ، أن توقُّف أنشطة الجسد لا يعني بالضرورة اختفاء الروح، وبالتالي فإن شكلاً من أشكال بقاء الروح أمرٌ ممكنٌ. وغالباً ما يعتبر الفلاسفة الماديون أنَّ موت كائنٍ حيٍّ هو بمثابة فناءٍ نهائيٍّ له. وبصرف النظر عن صعوبة الحسم في هذه المناقشات الصعبة، يجب علينا أيضاً أن ننظر في آثار الموت، أو الفكرة التي لدينا عنه، في حياتنا.
في تعريف بسيط، فإنَّ الموت هو توقّف الحياة. تمّ اقتراح معايير مختلفة لتعريف هذا التوقف من وجهتَي نظرٍ طبيةٍ وقانونيةٍ، والذي هو في الغالب أقرب إلى كونه سيرورة من كونه حدثاً يقع لمرة واحدة أو حدثاً مفاجئاً (الموت "العنيف"): توقُّف التنفس (لفظ أنفاسه الأخيرة). توقُّف نشاط القلب. الوقف الجزئي أو الكلي للوظائف الدماغية. أما من وجهة نظر فلسفية، فمن الصعب صياغة مفهوم للموت.
وثمة تقليد فلسفي ثابت، مثل الأبيقورية (التي ترى أنَّ "الموتَ ليس شرّاً، وهو بالفعل لا يعنينا؛ لأنَّ الخيرَ والشَّرَّ يفترضان الإحساس، والموت هو انعدام كلِّ إحساس")، ويقول هذا التقليد لنا إنَّه من الضروري أن نعيش بسعادةٍ، ونتحرَّر من فكرة الخوف من الموت [8].
الجسد قبر للنفس
قبل محاورة "فيدون"، لم يكن لدى أفلاطون (347 ق.م- 427 ق.م) فكرة واضحة وكاملة عن خلود النفس، المعرَّفة بأنَّها "جوهر عقلي لا يقبل الانقسام أو الفناء"، وهذا ما برز في عمليه "دفاع عن سقراط" و"محاورة جورجياس"[8].
في "فيدون"، اعتبر الفيلسوف اليوناني أنَّ الموت هو انعتاق النفس من الجسم، المُدرك كقبر لها، وقدَّم الحجج والبراهين على عدم فنائها، وأبرزها إنَّ جوهرها الحياة، وبالتالي هي نقيض الموت ذاته، و"لا يمكن النظر إليها باعتبارها محتَضَرةً، أكثر من النظر إلى النار باعتبارها تتحوَّل إلى البرودة". وما يقدِّمه أفلاطون، في رأي الباحث الأميركي، جاك شورون، هو "الأمل في الخلود وليس اليقين به"، وما جعل الموت ملهماً لفلسفته، فقدانه لصديقه سقراط [9].
الموت ليس شراً
كتب الفيلسوف الروماني شيشرون (CiCÉRON) (43 ق. م – 106 ق. م) مقالةً حملت عنوان "عزاء" (Consolation)، جمع فيها عدداً من الحجج التقليدية الرّامية إلى إثبات أنَّ الموت ليس شراً. وتقوم الحجة الرئيسة على حياة الروح، روح الشخص نفسه. وليعزّي نفسه بوفاة ابنته توليا (Tullia)، أنشأ مقاماً خصَّصه لذِكراها، وكأنَّها آلهةٌ لتُعبَد. وكثير من الناس، غير شيشرون، كانوا يعتقدون أنَّ الكائن الإنساني يصبح في الموت "بطلاً" خالداً. ويؤكّد شيشرون أنَّ الموت يسمح لنا بالوصول إلى حياةٍ خاليةٍ من الحزن ومن الهموم [10]، متَّبِعاً في ذلك أفلاطون الذي عّدَّ النفس (أو الروح) خالدة.
وذهب شيشرون إلى اعتبار أنَّ الفلسفة تعيننا على "تعلم الموت". وسبق لأفلاطون أن قال عن الفلسفة إنَّها "تأمّلٌ للموت"( وفي تفسير البعض لهذا الرأي أن الفلسفة تعيننا وتهيئنا لتقبُّل الموت).
يأخذ شيشرون من سقراط، الفيلسوف اليوناني (399 ق. م – 469 ق. م) مثلاً، فخلال محاكمته رفض أن يدافع عنه أحد، ولم ينكسر أمام القضاة، وأظهر نفساً ساميةً، ورفض فرصة الهرب وتناول السم، وتصرَّف لا كرجلٍ ذاهبٍ لملاقاة الموت، بل كرجلٍ يستعدُّ للإرتقاء إلى السماء [10]. وقال للقضاة أثناء محاكمته: "إنَّني أؤكِّد لكم أنَّني أعرف أنَّ عصيانَ وليِّ الأمر، سواء كان إلهاً أم إنساناً، هو الشَّرُّ بعينه، ولن أتجنَّبَ خيراً يمكن أنْ يصيبَني، ألا وهو الموت، كما لن أرضى عن شرٍّ مؤكَّد ألا وهو العصيان... إنَّني أفضِّل أن أموت وقد قلتُ ما يبدو لي أنَّه حقٌّ، على أن أعيش لأقول مضطرّاً ما ترون أنتم أنَّه حقّ؛ كما أنَّ الصوت الإلهي الذي كثيراً ما أسمعه، والذي ينهاني دائماً عن الاقتراب من الشر، لم يحذِّرني من شيءٍ في هذه المحاكمة، فكيف يمكن تفسير هذا الصمت؟ دعوني أوضح لكم، فما هذا الصمت إلا إشارةً إليَّ بأنَّ ما أصابني هو الخير، وأنَّ أولئك الذين يحسبون الموت شرّاً لفي ضلالٍ مبين" [11].
ما يخشاه الإنسان هو العدم المطلق، والحقيقة الساطعة أنَّ "الإنسان فانٍ"، والصعب هو تعلّم العيش مع هذه النهاية، أي "تعلّم الموت" من أجل أن نستطيع أن نحيا.
يقول سقراط في دفاعه: "لا أحد يعرف ما هو الموت، ولا ما يخبئه للإنسان مما قد يكون أعظم الخيرات جميعها، في حين أنَّ الناس يوجلون منه كأنَّهم على ثقةٍ بأنَّه يخفي لهم أجسم الشرور كلها، أوليس من الجهل الفاضح أن يزعم الإنسان معرفة ما لا يدركه؟" [12].
ذهب شيشرون إلى اعتبار أنَّ الفلسفة تعيننا على "تعلم الموت". وسبق لأفلاطون أن قال عن الفلسفة إنَّها "تأمّلٌ للموت"، وفي تفسير البعض لهذا الرأي أن الفلسفة تعيننا وتهيئنا لتقبُّل الموت.
ولتوكيد رأيه، يزعم سقراط أن الصوت الإلهي الذي يسمعه دوماً لم يعترضه في الصباح، حين صعد الى المحاكمة وحين كان يدافع عن نفسه، في حين أنَّه كان يقاطعه في أمورٍ أخرى. لذا قدَّر أن ما حدث يُرجَّح له فيه الخير: "وإنا لنخطىء عندما نظن الموت شراً"، والمائت عنده إما "يصير إلى عدمٍ، ويفقد كل حسٍّ للأشياء، وإما أنَّه، على ما يُقال، تغيُّرٌ يطرأ على النفس، وينتقل بها من هذا العالم إلى عالمٍ آخر. فإن صحَّ أنَّه رقدة لا يرى فيها النائم حُلماً، فلا نِزاع أنَّ الموت ربحٌ عظيمٌ" [13]. وإذا كانت النفس خالدةً، فإن الموت ليس إلا معبراً (أو انتقالاً) [14]، فالموت خلاصٌ، وازدراء الموت هو حرية، كما يقول شيشرون [15].
الموت حرية وخطيئة
إشكالية الموت عند الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي (1917- 2002) ليست جزئيةً، بل هي في صُلب الوجود كله، لا بل هي مقدِّمةٌ لمذهبٍ عامٍّ في الوجود، وفي محاولة أشكلته يلاحظ أنه "فعلٌ فيه قضاءٌ على كل فعل"، وإنه "نهايةٌ للحياة بمعنى مشترك"، وهو إلى ذلك، "إمكانية معلقة"، إذ نجهل الزمان الذي يحصل فيه.
يقول بليز باسكال (Blaise Pascal) (1662 – 1623): "إنني في حالة جهلٍ تامٍّ بكل شيءٍ، فكل ما أعرفه هو أنني لا بُدَّ أن أموت يوماً، لكنني أجهل كل الجهل هذا الموت الذي لا أستطيع تجنُّبه"[16]، كما لا أستطيع مشاهدة موتي الخاص، بل موت الآخرين. إذ إن الكينونة تعي موت الآخر، لا موتها هي، فالكينونة البشرية، لأسبابٍ إدراكيةٍ، كما يُعبِّر الباحث السوري نبيل فيّاض: "لا تستطيع أن تعيش موتها هي، لأن الكينونة البشرية لا تدرك إلا ما تمرّ به من تجارب مُعاشة، والموت تجربةٌ متقطِّعةٌ، في الموت ثمة منتصرٌ أزلي هو الموت، وخاسرٌ أزلي هو الإنسان" [17].
ولا يمكن، بحسب بدوي، أن يكون الموت مشكلةً خاصةً إلا عند من يمتلك شعوراً قوياً بالشخصية، ولهذا، فإنَّ البدائي والساذج لا يمثل لهما الموت أيَّ مشكلة، نظراً لضعف شعورهما بالشخصية. وعنده أنَّ التفكير بالموت يقترن دائماً بـ"ميلاد حضارة جديدة". والفلسفة المثالية لم تجعل منه مشكلةً، لأنها لا تؤمن بوجود الفرد بل بالمطلق، وربطت بينه وبين الحرية، واعتبرت أنَّ قدرة الإنسان على اختيار موته هي أعلى درجة من درجات الحرية [18].
الكينونة تعي موت الآخر، لا موتها هي، فالكينونة البشرية، لأسباب إدراكية، لا تستطيع أن تعيش موتها هي، لأنها لا تدرك إلا ما تمرّ به من تجارب معيشة، والموت تجربة متقطعة. في الموت، ثمة منتصر أزلي هو الموت، وخاسر أزلي هو الإنسان.
وينقل بدوي عن الكاهن الكاثوليكي الألماني سيليزيوس (Angelus Silesius) (1677 – 1624) قوله: "أنا أقول إنَّ الموت أحسن شيءٍ من بين جميع الأشياء، لأنَّه وحده الذي يجعلني حراً" [19]. وتعني الحرية في وجهٍ آخر لها، القدرة على ارتكاب الخطيئة. والارتباط بين الخطيئة والموت بلغ أعلى درجات التعبير عنه لدى المسيحيين، وعبارة القديس بولس (توفي حوالى عام 64) الشهيرة: "بواسطة إنسانٍ نفذت الخطيئة إلى العالم، وعن طريق الخطيئة نفذ الموت"[20].
لذا، اعتبرته شراً بوصفه ابن الخطيئة، من جهةٍ، وخيراً من حيث أنَّه الواسطة بين المتناهي واللامتناهي، أي بين الإنسان والله، من جهةٍ أخرى.
ويرى بدوي أن المسيحية نظرت إلى الموت بوصفه مضادَّاً للحياة، وهو عنده جزءٌ منها، وهذا ما انتهجته فلسفة نيتشه (1844- 1900) وجورج زيمل (1858 - 1918)، حيث حذَّر هذا الأخير من القول "إن الموت مضاد للحياة"، وكتب: "إنَّ الحياة تقتضي بطبيعتها الموت، بحسبانه هذا الشيء الآخر الذي بالنسبة إليه تصير شيئاً، والذي بدونه لن يكون لهذا الشيء معناه وصورته". الموت، إذاً، محايث للحياة، وليس مُتعالياً عليها، وخلاصة الأمر أنَّ "الموت حالةٌ من حالات الحياة" [21]، ما يقتضي تفسير الوجود انطلاقاً من أنَّ الفناء حالةٌ وجوديةٌ.
تأنيس الموت
تناول الباحث الفرنسي فيليب آرياس (1914- 1984) موقف الإنسان أمام الموت، وكيفية تصوّره والتعامل معه، وصولاً إلى تأنيسه. واعتمد آرياس 4 مقاييس عند تناول الموت في منظور الوعي البدائيّ:
أ - ليس الموت مجرّد ظاهرة فرديّة، بل يشمل المجموعة التي ينتمي إليها الفرد. لذلك تنشأ طقوس مأتمية خاصة تمارسها المجموعة عند موت أحد أفرادها، بما يشبه الاحتفال وما يرافقه من طقوس.
ب - لا تنحصر الخشية من الموت في اعتقاد المجموعة بأنّ رحيل فردٍ يعني خسارة عضوٍ منها، بل يمتد هذا الشعور ليستحيل خوفاً من موتٍ متكررٍ عاجلٍ.
ج - الموت ضجعةٌ في انتظار البعث. إلا أنَّ هذه الضجعة تختلف من فردٍ إلى آخر في الاعتقاد السائد لدى المجتمعات القديمة، فهي الضجعة المطمئنة الهادئة لمن عمل حسناً، وهي ضجعةٌ متوترةٌ مزحومةٌ بالكوابيس والعذابات في انتظار عذاب أشدّ يوم الحساب، لمن ارتكب آثاماً في حياته.
د - يمكن تأنيس الموت، وتخليصه من عنف القوى الطبيعيّة الأعمى. إلا أنَّه يظلُّ من الشرور الكبرى في الوجود، التي هي العذاب والخطيئة والموت.
ويطرح المؤرخ الفرنسي تساؤلاً حول كيفية التعامل مع الموت. وتظهر، برأيه، إجابتان على هذا التساؤل: الأولى ساذجة والثانية أرستقراطيّة. ترفض الأولى صفة الفضيحة في الموت، وتتكتّم عليها بالصمت، ولا شيء عدا الصمت. أمّا الإجابة الثانية، فتتمثّل في استخدام وسائل علاجية جديدة لإفراغ الموت من معنى الألم والشقاء، بتأنيسه والقطع النهائي مع آثار الطور الأول.
ما يخشاه الإنسان هو العدم المطلق، والحقيقة الساطعة أنَّ "الإنسان فانٍ"، والصعب هو تعلّم العيش مع هذه النهاية، أي "تعلّم الموت" من أجل أن نستطيع أن نحيا.
بهذه القراءة التاريخية العامة لوعي الموت تتضح، عند آرياس، أطوار ثلاثة أساسية:
أ - وعي "الموت المتوحش" أو البدائي، كما تجسّد في الأساطير القديمة وحفريات القبور. وقد استمر هذا الطور إلى القرن الـــ ـ11 للميلاد.
ب - وعي الموت المتردد بين "طور التوحّش" وبدء التأنيس، وينقضي هذا الطور بالقرن الـــ ـ18 للميلاد.
ج - وعي "الموت المؤنَّس". وبدأ في القرن الـــ ـ19، ويشمل القرن الـــ ـ20، ويمتدّ حضوره إلى اليوم [22].
تعلّم المكر والمقاومة
تجاوز مونتاني (Michel de Montaigne) (1592 - 1533) عتبة 39 عاماً عندما كتب أفكاره عن الموت (1580)، مفتتحاً أحد الفصول في "المقالات" (الكتاب الأول) بعبارة شيشرون الشهيرة "التفلسف يعني تعلم الموت". أدرك في هذا العمر أنه قد اجتاز "شروط العيش المعتادة"، فلا يسوع المسيح (توفي عن 33 سنة) ولا الإسكندر الأكبر (توفي عن 32 سنة)، قد بلغا هذا العمر [23].
ولاحظ مونتاني أنَّ هدف حياتنا هو الموت، وعلاج المرء العادي هو عدم التفكير في الأمر. لكنَّ الأفضل أن نكون ماكرين مع هذا العدو الذي يقبض على الهارب والجبان، ويقبض كذلك على الرجل الصالح. إذاً، فلنتعلم كيف نقاومه بحزمٍ ونحاربه. ويدعونا مونتاني كذلك إلى أن ننزع عن هذا الدخيل الغرابة التي تمَّ نسبها إليه، والتي تمنحه ميزةً بيِّنةً ضدنا.
يقول مونتاني: "دعونا نتدرّب ونتعوّد عليه، دعونا لا نفكر في أيِّ شيءٍ غير الموت في جميع الأوقات، دعونا نعرضه على مخيلتنا ونتعرف عليه في أيِّ وجهٍ يأخذه. بما أنه من غير المؤكد أين ينتظرنا الموت، فلننتظره في كل مكان. فتعمّد الموت هو تعمّد الحرية" [24].
ومن المفارقات أنَّ مونتاني غيّر خطابه مع اقتراب نهاية حياته. في الفصل الــ ـ12 من المقالات (الكتاب الثالث، الذي دوّنه بين عامي 1586 و1587)، الذي عنوانه "في علم الفراسة"، يعترف أنَّ "الاستعداد للموت يتسبب في عذاباتٍ أكثر من الألم. إذ تأمرنا الفلسفة بأن يكون الموت دائماً أمام أعيننا، لكي نتنبأ به ونفكر فيه قبل الوقت. ومع ذلك، إذا كان الموت هو نهاية حياتنا، فهو ليس هدفها".
لاحظ مونتاني أنَّ هدف حياتنا هو الموت، وعلاج المرء العادي هو عدم التفكير في الأمر، لكنَّ الأفضل أن نكون ماكرين مع هذا العدو الذي يقبض على الهارب والجبان، ويقبض كذلك على الرجل الصالح. إذاً، فلنتعلم كيف نقاومه بحزمٍ ونحاربه.
ويقول إنَّه لم يشاهد قطّ فلاحاً من جيرانه يفكر في كيفية قضاء الساعة الأخيرة من حياته. علّمته الطبيعة ألا يفكر في الموت إلا عندما يُحتضر [25]. ويعتبر مونتاني أنّه إذا عرفنا كيف نعيش على نحوٍ متواصلٍ وبهدوءٍ، فسنعرف كيف نموت بنفس الطريقة. ومعرفة كيفية الموت هو فنٌّ سيأتي إلينا تلقائياً عندما يحين الوقت، مثل أيِّ معرفةٍ أخرى.
في الفصل الـ13، الذي يختتم "المقالات"، يقرّ مونتاني بحب الحياة وسعادته بها كما منحها الله له. وفي الـ55 من عمره، بعد أن أوضح أفكاره، ترك الأمر للطبيعة: "أقبل بقلبٍ طيّبٍ، معترِفٍ بالفضل، لما قدّمته لي الطبيعة" [26]. وهو يعتقد أنَّ "أجمل وجوه الحياة هي تلك التي تقع في النمط العام والبشري بنظام، ولكن بدون معجزات وبدون إسراف" [27].
الكينونة من أجل الموت
يسأل الفيلسوف الألماني الوجودي هايدغر، في كتاب "الكينونة والزمان" (1927)عن ماهية الوجود، ويطرح سؤالاً آخر عن "من الذي يسائل هذا الوجود؟". ينطوي هذا السؤال عن "هوية الوجود" أو "الكينونة" على احتمال أن يسهم السائل نفسه، بطريقةٍ أو بأخرى، في هذا الوجود الذي يخضع للمساءلة. لذا يبدأ سؤال هايدغر عن "من هو هذا الكائن الذي ينطوي وجوده على السؤال عن وجوده نفسه؟".
هنا، يشير هايدغر إلى تصوّره الجديد لهذا الكائن، ويطلق عليه اسم "الدازاين" (Dasein). تدلّ الكلمة على كينونة الموجود الإنساني أو كيفيّة وجوده؛ أي الإنسان من حيث هو الكائن المنفتح على الكون في تغيّره وعدم استقراره، وهذا يعني أنّ "الدازاين" يختلف عن سائر الكائنات من حيث أنّه ينجز كونه، فماهية الإنسان إذن هي وجوده وحقيقته نزوعه إلى ما يريد أن يكون، فهو من يصنع ذاته بذاته.
و"الدازاين" أو الإنسان أو الكائن الإنساني، هو الكائن الذي يمتلك القدرة على فهم الكينونة، ومن ثم فإن مساءلته هي الطريق إلى فهم الكينونة ذاتها" [28].
الموت من منظور هايدغر ليس مجرد حدث يقع في نهاية حياة الكائن الإنساني، وليس الموت بالنسبة إليه مثل المحطة بالنسبة إلى القطار، وليس مجرد نقطة أو مكانٍ مستقبلي يصل إليه، بل هو مثل النضج بالنسبة إلى الثمرة. تنضج الثمرة طوال فترة وجودها. على النحو نفسه، الموت هو نضج الإنسان.
وفلسفة هايدغر ترى إلى وجود "الدازاين" وجوداً مشتبكاً مع العالم الذي يوجد بداخله، ويتشابك كذلك مع الأشخاص الآخرين. وبالنسبة له، نحن لا نوجد كأفرادٍ مستقلّين، بل نحن ملزمون بالوجود مع الآخرين، بالطريقة نفسها التي أُلزمنا بها بالوجود في العالم.
لكنَّ هناك جانباً من كينونة "الدازاين" يبقى ذاتياً (ملكاً للدازاين) بشكلٍ كاملٍ، رافضاً الإذعان للآخر، وهو موت "الدازاين". يمثّل الموت حجر الأساس للذاتية، باعتباره الجانب اللا علائقي من "الدازاين"، الذي يبقى بعيداً من متناول "الآخر".
الموت هو ما يسميه هايدجر "الإمكان اللا علائقي الأكثر خصوصية". الموت من منظور هايدغر ليس مجرد حدثٍ يقع في نهاية حياة "الدازاين"، ليس الموت بالنسبة له مثل المحطة بالنسبة للقطار، ليس مجرد نقطةٍ أو مكانٍ مستقبلي يصل إليه، بل هو مثل النضج بالنسبة للثمرة. تنضج الثمرة طوال فترة وجودها – النضوج هو ما تفعله الثمرة في وجودها. على نفس النحو، الموت هو نضج الدازاين، بهذه الطريقة يتحرر الموت من اعتباره نقطة واحدة أو حدثاً نهائياً، وبدلاً من ذلك يكون الموت حاضراً دائماً بالنسبة لـ "الدازاين".
يسمي هايدغر حالة الوجود هذه التي يتسم بها الدازاين "الكينونة نحو الموت". تعني الأصالة بالنسبة للفيلسوف الألماني انتظار الموت بحزمٍ، استدعاءه واستخدامه كموردٍ ضد التأثير الساحق لـ"الآخر". وفقاً لذلك، يمنح "الكينونة نحو الموت" الإمكانية لـ"الدازاين" ليعلن "ذاتيته" في شكل أصيل [29].
يقول فيلسوف الغابة السوداء: "ليس الموت شيئاً غير قائمٍ بعد، وليس هو بالمؤجل الذي رد إلى الحد الأدنى، بل بالأحرى ما لا يوشك أن يكون"، فموت "الدازاين" "هو إمكانية كونه يمكن ألا يكون هناك مرة أخرى" [30]. استدعاء الكينونة نحو الموت ليست مهمة سهلة: "الكينونة نحو الموت في جوهرها هي القلق"، القلق أمام الموت "هو الكينونة في العالم ذاتها [31].
إذ يعرض "الموت" بوصفه "حدثاً معروفاً يطرأ داخل العالم، لكنه يبقى كذلك في نطاق ما لا يلفت النظر، الذي يميّز ما يعرض لنا في كل يوم" [32].
أطروحة هايدغر حول الموت، برأي الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925 - 1995)، هي شهادةٌ قصوى لإعادة التفكّر، ومعاودة تأويل ظاهرة الموت في حدود الوجود البشري، فالموت "مهد الإشكالات"، حيرة اللا كينونة التي تجثم على ثقافة ما لتسأل الأسئلة الكبرى [33].
النضال في سبيل البقاء
تقوم فلسفة أونامونو (Miguel de Unamuno) (1936-1864) الوجودية على الإنسان المفرد، الذي يولد ويموت، وهو غاية وليس وسيلة، وتنحصر المسألة الكبرى عند الإنسان في "الطموح إلى الخلود"، وهذا الهمّ يفرض نفسه عليه، وتدور كل همومه "حول بقائه في الوجود، فهو يخلق العالم المادي المحيط به، من أدوات ومنشآت، من أجل المحافظة على جوهر حياة الموجود الحي، ويخلق العالم المعقول، العلمي والعقلي، من أجل البقاء، والغريزة الجنسية إنما قصد بها إلى الغاية نفسها، أي الاستمرار في البقاء" [33].
بيد أن الموت يقف عائقاً أمام هذا الأمر، وهو خصمٌ لا يمكن قهره. ولتحقيق الخلود ثمة ثلاثة حلول، في ظن الفيلسوف الإسباني:
أولاً: إما أن أعلم أنّي سأموت كلياً، فلا يبقى أمامي سوى اليأس.
ثانياً: قد أوقن أنّي لن أموت بكلّي، بل سيبقى جزءٌ منّي خالداً، وبهذا تطمئنّ نفسي.
ثالثاً: لا أعلم على وجه الدقة ما هو الحق في هذا الأمر، ولا يبقى لديَّ من أملٍ سوى النضال.
يحيل أونامونو إلى الحل الثالث، أي النضال. وهو يأخذ شخصية دون كيشوت، بطل الروائي الإسباني سرفانتس (1547- 1616) رمزاً للنضال، إذ إنّه لم يُذعن للعالم ولا لحقيقته، بل ثار وانتهى إلى اليأس بعد أن رأى عبث النضال، ومن اليأس "يولد الأمل البطولي، الأمل اللامعقول، الأمل الجنوني" [34].
ويرى بدوي أنَّ الفلسفة عند أونامونو "علمٌ بمأساة الحياة، وتفكيرٌ في المعنى الأسيّان للحياة"، سبيلها الفعل المستمر في سبيل البقاء، وهو فعل "جوهره النضال، ولا نتيجة له غير هزيمة الإنسان، لكنَّ هذه الهزيمة نفسها هي أروع انتصار" [35].
تمردٌ ضد الحياة وضد الموت
بخلاف أكثر الفلاسفة الساعين إلى إيجاد معنى للحياة، قَلَب ألبير كامو (1913- 1960) المعادلة، وأصبحت "كلما خلت الحياة من المعنى، كانت أخلق بأن يحياها الإنسان". إذاً، يتوجّب عليه الإقرار بأنَّ الحياة خاليةٌ من المعنى، ثم يُكيّف موقفه منها تبعاً لذلك، وموقف المرء أمام هذا الوضع هو "الثورة"، وهذه "توكيدٌ لمصيرٍ قاسٍ مدمر، من دون أن يصحب ذلك تسليمٌ به"، والثورة هي التي تعطي الحياة قيمتها [36].
وأمام تحدي الوجود والعدم، كانت الثورة على الحياة والموت في آنٍ واحدٍ. ويبقى العمل قائماً ضمن ممكِّنات الوجود [37]. ومثال الفيلسوف الفرنسي الوجودي هو شخصية دون جوان (Don Juan)، الذي "عاش حياته متنقِّلاً من امرأةٍ إلى أخرى، راغباً في أخذ كلِّ شيءٍ يأتيه كما هو وكما يجيء [38].
يتحدث صاحب رواية "الغريب" في كتابه "الإنسان المتمرد" (1950) عن "الثائر الميتافيزيقي"، الذي يثور ضد وضعه وضد الجميع، فهو يحتجّ ضد الوضع المخصص له كإنسان، وهو يجابه مبدأ الظلم بمبدأ العدالة الكامن في ذاته، كما أنّه يرفض وضعه الفاني.
الموت محايث للحياة، وليس مُتعالياً عليها. إنه حالة من حالات الحياة، ما يقتضي تفسير الوجود انطلاقاً من أنَّ الفناء حالة وجودية.
و"الثائر الميتافيزيقي" هو التائق إلى الوحدة السعيدة ضد آلام الحياة والموت. إنه يُنكر الموت، ويرفض في الوقت نفسه القوة التي تُلزمه بالحياة، في مثل هذه الحالة التي تنتهي، بالضرورة، بالموت [39]. وهذا الثائر ليس ملحداً بل مجدِّفٌ، "يجدِّف باسم النظام ضد عالم الفوضى، وباسم العدالة ضد عالمٍ يشيع فيه الظلم، وباسم الحياة ضد دنيا تنتهي دائماً بالموت"، بعبارات بدوي [40].
ويرى كامو أنَّه لا يمكن لتاريخ التمرد الميتافيزيقي أن يختلط مع تاريخ الإلحاد، بل "يختلط مع تاريخ الشعور الديني المعاصر، فالتمرد يتحدى أكثر مما يُنكر (...) فالعبد يبدأ المطالبة بالعدالة، ثم ينتهي به الأمر إلى المطالبة بالسلطة" [41]. وشعار كامو الشهير كان: "أنا أتمرد، إذاً نحن موجودون".
الموت يحدث فحسب
يعتبر فلاديمير فلاديمير يانكلفيتش (Jankélévitch) (1985- 1903) أنّ الموت ظاهرةٌ بيولوجية، كالولادة والشباب والشيخوخة، وهو أيضاً ظاهرةٌ اجتماعيّةٌ، مثل الولادة والجريمة على سبيل المثال لا الحصر، كما يصل الموت بين الطبيعة والإلغاز، العادة وتجاوز العادة، الإجراء أو التأجيل والحدوث المفاجئ، الغياب ثم الظهور إلى حدِّ الفضيحة. ويتركب وعي الموت المعاصر، في تقدير يانكلفيتش، من ثلاثة ضمائر في سياقٍ واحدٍ مشترك: "الأنا" و"الأنت" و"الهو".
في هذه الحالة، كيف يمكن التفكير في الموت، بحسب منظور يانكلفيتش؟
أوضح كاتب "دراسة في الفضائل" (1939)، بالاستناد إلى أفلاطون، أنّ الموت يحدث فحسب ولا يؤدّي دلالةً بعينها، ونتيجةً لذلك لا يُمثّل موضوعاً محدَّداً. وإذا جاز اعتماد "التفكير في الموت"، فهو تفكيرٌ غامضٌ ملتبسٌ تستحيل إبانته [42].
اختبار فقد الأحبة
ظلَّ سيغموند فرويد (S.Freud) (1939-1856) حتى عام 1920 يعتقد أنَّ الغرائز الجنسية وغرائز الأنا تتحكم في الجهاز النفسي، الذي لا يحكمه إلا مبدأ اللذة ومبدأ الواقع، الذي يُعتبر تجسيداً له. وفي كتابه "ما وراء مبدأ اللذة" (1920)، اقتنع بفكرة أنَّ بعض الغرائز، على الأقل، لا تسعى نحو اللذة بل نحو الموت.
وكان تقديم غريزة الموت (Thanatos) في تضادٍّ مع غريزة الحياة(l'Éros) ، مدعوماً بعددٍ من الاعتبارات. وأوضح مكتشف قارة اللاوعي أنَّ بعضها لا يُشير إلى غريزة الموت بقدر ما يشير إلى غريزةٍ عدوانيةٍ، وأنَّ اعتباراتٍ أخرى محدَّدة بينها منفصلةٌ تماماً عن الخبرة التحليلية.
في عمله "أفكار لأزمنة الحرب والموت"، الذي ضمَّ أبحاثاً كتبها على مدى السنوات من عام 1915 إلى 1938، طرح فرويد موقفه من الحرب ومن الموت.
فنحن سلّمنا بأنَّ الموت هو النتيجة الضرورية للحياة، وأنَّ كلَّ فردٍ يدين للطبيعة بدَين، أي باختصار "الموت طبيعي، لا يمكن إنكاره ولا يمكن تفاديه، ومع ذلك فقد كنّا معتادين على الحياة كما لو أنَّ الأمر ليس كذلك، فقد كنّا نُبدي ميلاً لا يمكن أن نخطئ في إدراكه لرَكن الموت على الرف، وأن نزيله من الحياة. حاولنا إخراسه، والمقصود هنا موتنا نحن، حيث أنَّ موتنا أمرٌ لا يمكن تخيّله، وكلما حاولنا ذلك ندرك أننا نعيش كمشاهدين، ومن هنا استطاعت مدرسة التحليل النفسي المجازفة بالتأكيد بألّا أحد يعتقد في أعماقه بموته الشخصي. أو يمكن أن نقول الأمر نفسه بطريقةٍ أخرى: كلُّ واحدٍ منّا -في اللاشعور- مقتنعٌ بخلوده الشخصي" [43]. واختبارنا للموت هو في فقدان الأحبة، وحينها "ترقد آمالنا وفخرنا وسعادتنا معه في القبر، ولن يعزّينا شيء، ولن نشغل مكانة المحبوب" [44]. وفي الحرب، نحن "لا ننكر الموت أو نتجاهله، فنحن مضطرون لأن نؤمن به. فالناس يموتون حقاً، ولم يعودوا يموتون واحداً بعد آخر، بل يموت الكثيرون منهم في وقتٍ واحدٍ. وفي الحرب لا يعود الموت عَرَضياً وتصبح الحياة مثيرةً للاهتمام من جديد، وتستعيد الحياة أهميتها كاملة" [45].
يقول مونتاني: "دعونا نتدرّب ونتعوّد عليه. دعونا لا نفكر في أيِّ شيءٍ غير الموت في جميع الأوقات. دعونا نعرضه على مخيلتنا ونتعرف إليه في أيِّ وجه يأخذه. بما أنه من غير المؤكد أين ينتظرنا الموت، فلننتظره في كل مكان. تعمّد الموت هو تعمّد الحرية".
ويأخذ أبو التحليل النفسي على الفلاسفة إغراقهم في التفلسف حول الموت، أي "تأمّل الموت"، من دون أن يولوا اهتماماً كافياً للدوافع الأولية المؤثرة، فالإنسان البدائي لم يُجهد عقله في لغز الحياة والموت، فما دفعه للبحث هو "تصارع المشاعر إزاء موت الأحباء"، ولم يعد يستطيع الإنسان "أن يبقي الموت على مسافةٍ منه، لأنّه ذاق منه في حزنه على الموتى"، ورغم هذا لم يُسلِّم به تماماً "لأنه لا يستطيع تصوّر نفسه ميتاً"، وكحلٍّ وسطٍ سلّم بحقيقة الموت، ولكنّه جرّده من معنى الفناء [46].
والحال هذه، كيف يكون السلوك إزاء مصيرٍ معلومٍ؟ فالولادة نفسها تحمل بذور الموت، ويغذ الإنسان السيّر نحو نهايةٍ محتومةٍ. يعدنا الدين بالانتقال إلى عالمٍ آخر، جديد، لا معاناة فيه للصالحين والمؤمنين. بدوره، اجتهد العقل البشري في إضفاء معنى على الحياة في العالم الأرضي، وبحث عن مرامي يكرس لها الإنسان نفسه، ومن اجتهاداته ابتدع "مبدأ الأمل".
مبدأ الأمل
كتب الفيلسوف الألماني المنتمي الى مدرسة فرانكفورت النقدية، أرنست بلوخ، (1885- 1977)، عن "مبدأ الأمل" في ثلاثة أجزاء (بين الأعوام 1938 – 1947، ونُشر في عام 1959، ورغبته كانت " الأحلام بحياة أفضل")، واعتبره بمثابة أفقٍ للوجود الإنساني المحكوم بالفناء، ومبدأ يحمله الكائن لتحقيق أحلامه ومشاريعه. وبيّن بلوخ في مؤلَّفه، بطرائق عدّة، الكيفية التي يتبدّى فيها "مبدأ الأمل" في حياتنا اليومية، والرغبة الإنسانية في التحرر، وبعبارة المفكر اللبناني فواز طرابلسي، "أمل لا شفاء منه".
يعتقد الفلاسفة الثنائيون الذين يميّزون الجسد عن الروح أن توقُّف أنشطة الجسد لا يعني بالضرورة اختفاء الروح، وبالتالي فإن شكلاً من أشكال بقاء الروح أمر ممكن. وغالباً ما يعتبر الفلاسفة الماديون أنَّ موت كائن حيّ هو بمثابة فناء نهائيّ له. وثمة تقليد فلسفي ثابت، مثل الأبيقورية (التي ترى أنَّ الموت ليس شرّاً، وهو بالفعل لا يعنينا، لأنّ الخير والشّر يفترضان الإحساس، والموت هو انعدام كلِّ إحساس)، ويقول هذا التقليد لنا إنّ من الضروري أن نعيش بسعادة، ونتحرَّر من فكرة الخوف من الموت.
في الفصل الرابع من كتابه المعنون "جدل الزمان والتاريخ"، يتحدّث عن الآمال التي رسمتها الأديان للحياة بعد الموت. إذ نظرت الديانة المصرية القديمة للموت على أنه بداية الحياة الحقيقية، واعتبرت أنَّ الخلود هو لحظة الوجود الأسمى. أما عن الموت في الكتب المقدسة، فلم تظهر فكرة الخلود في الديانة اليهودية إلا في مرحلةٍ متأخرةٍ، ولم يكن الموت هو اللحظة الأسمى في الديانة المسيحية بل البعث، أو القيامة من الموت، لأن المجيء الثاني للمسيح هو لحظة الوجود الأسمى. ومع النزعة الرومانسية اختفى الخوف المعتاد من الموت، وأصبح نوعاً من التغيير والراحة الأبدية.
يرفض بلوخ فكرة الموت كما جاءت في الديانات والحضارات السابقة، كما يرفض فكرة الخلود من هذا المنظور الديني الساكن، ويرى أنَّ لحظة الوجود الأسمى، أو لحظة الخلود الأعظم، ما هي إلا لحظة الفعل أو العمل والإبداع. فإذا كان الموت هو سلب الوجود، فإن مجيء الموت هو الذي يضفي على اللحظة قيمتها [47].
وجد الباحث إبراهيم نجار في قراءته لكتاب ناصيف نصّار، "النور والمعنى"، فلسفة للأمل [48]. وفي تحليل الفيلسوف اللبناني لعبارة "أنا أحيا" من ضمن تأملاته الفلسفية، رأى أنَّ ثمة إدراكان لها: الأنا البيولوجية (صنيعة الحياة)، والأنا الاجتماعية (صانعة الحياة). ومن "أنا أحيا" إلى "لماذا أحيا"، مسارٌ ينقلنا إلى "الغائية" من الوجود، وإلى إيجاد معنى له.
يستعرض نصّار نظرية من يعتبرون "الحياة لعبة" (واللعب يحمل معنى النشاط)، مُحلِّلاً ومُفنِّداً عناصرها، قابضاً على مرامي هذه الفلسفة التي تبغي "تحرير معنى الحياة من المعتقدات الماورائية، وبخاصة الدينية منها، ونزع الطابع التراجيدي عنه" [49].
وفي نمو الكائن البشري وتطوّره من الجدية بما لا يقاس، لذا، فإن "الكفاح" بمثابة "وضع وجودي" يساهم في اختبار المعنى ويحدد بنيته. ويورد مبدع "مقالة في الوجود" (2001)، ثلاثة مبادىء تحكم اختبار المعنى في حياة "الأنا": مبدأ الجهاد، ومبدأ الانتظام الوظيفي، ومبدأ الانبساط.
يميل نصّار أكثر إلى استعمال لفظ "الكفاح"، وهو جدل بين الكائن البشري وما يحوطه، ينجم عنه "جهاد" (وذلك حين تتقدّم إرادة الأنا على مقتضى الواقع)، أو "انتظام وظيفي" (حين يتقدّم مقتضى الواقع على إرادة الأنا).
وقد يفاجئنا استخدام الفليسوف العلماني للفظ "الجهاد" بحمولته، وهو مثيرٌ للجدل ومستخدَم على نحوٍ واسعٍ عند الإسلاميين الحركيين (إلى حدٍّ يُطلَق عليهم أحياناً تعبير "جهاديين")، لكنَّ نصّار يريد تحرير اللفظ من إسار التفكير الديني والتفكير الأيديولوجي معاً، إذ يراه مركوزاً "في طبيعة الحياة كأنا متعالية" [50]، وهذه تضع لنفسها أهدافاً برسم التحقيق، تكون منسجمةً مع قيم ومواقف أخلاقية تتبناها، مثل الهوية والكرامة والعدل.
وللجهاد مراتبه وأنواعه، وفقاً للقضية ولسلم القيّم التي تؤمن بها "الأنا" (جهاد الحد الأدنى، جهاد للنجاح وجهاد للتفوق). ويخص نصّار "جهاد النجاح" بالشرح والتفصيل، مصداقاً لما يعنيه بفكرة الجهاد، منتقداً النظام الرأسمالي في دورانه داخل حلقةٍ مفرَغةٍ من الإنتاج والربح والاستهلاك، كفواعل للحياة الناجحة، طامساً ما تتوق إليه "الأنا" من "قيمٍ أخرى، كالحقيقة والعدل والجمال والحب" [51]. وفي النتيجة، يمثّل "الجهاد للنجاح" أحد اختبارات معنى الحياة في الوجود الإنساني.
يصوغ نصّار مبدأ "الانتظام الوظيفي" استناداً إلى أولية مفهوم الوظيفة على الأصل في علم البيولوجيا، ويرى فيه عنصراً ثانياً في مسيرة "الكفاح من أجل البقاء والنمو والتقدم" [52]، وهذه وظائف يتعيّن على "الأنا" القيام بها، وشاهده في ذلك التناسل والمهنة ووظيفة السياسة في المجتمع ، وهي مجالاتٌ مهمةٌ في تحديد معنى الحياة واختباراتها. وفيلسوفنا مشغولٌ بتقديم مقاربة فلسفية للموضوعات آنفة الذكر.
يطرح مبدأ "الانبساط الكيّاني" لإدراكه أنَّ كفاح "الأنا" لا يذهب عبثاً (في جهادها وانتظامها)، بل هي تنتظر مكافأتها، وتجدها في "الانبساط"، بمثابة مبدأ أعمٍّ يميّزه عن اللذة (le plaisir) المرتبطة بالحواس، وذلك في معارضةٍ تامَّةٍ لنظرية فرويد (المرتبطة بأولية الدافع الجنسي)، ففي اعتباره أنَّ "الانبساط شعورٌ مصاحبٌ لتحقيق قدرات الأنا ومشاريعها وواجباتها في الحياة" [53]، وهو مقرونٌ باختبار المعنى باشتغال مبدأ الجهاد ومبدأ الانتظام الوظيفي.
يُشدِد نصّار على الطابع الفردي أو الشخصي لاختبار المعنى، الناتج من العوامل الثلاثة المذكورة، والتي تقود، بحسبه، إلى "سياسة المعنى"، وهي استعادة للمفهوم السقراطي للاهتمام بالذات. ويرى إلى تلازم مبادىء الجهاد والانتظام والانبساط وتناسقها، وإن شابها شيءٌ من الاختلال والتأزّم، يصيب بدوره بُنية المعنى، ما يدعو إلى مزيدٍ من التفكّر والتأمّل، وهذا ميدانه الحياة اليومية، بحلوها ومرها، بنجاحاتها وإخفاقاتها، فالمعنى تنتجه "الأنا" في صلتها بالحياة، ومنه أنَّ "قلق المعنى ملازم لعلاقة الأنا بالحياة" [54].
يقول سقراط: "لا أحد يعرف ما الموت، ولا ما يخبئه للإنسان مما قد يكون أعظم الخيرات جميعها، في حين أنَّ الناس يوجلون منه كأنَّهم على ثقة بأنَّه يخفي لهم أجسم الشرور، أوليس من الجهل الفاضح أن يزعم الإنسان معرفة ما لا يدركه؟".
ويذهب فيلسوفنا بعيداً في تأملاته، داعياً إلى مقاربة "ميتافيزيقا الحياة انطلاقاً من الاختبار الشخصي لمعناها"، وهذا في عرفه "تحوّلٌ عظيمٌ في تاريخ ممارسات المعنى في التاريخ البشري". وقضية الأنا الأساسية، لا بل واجبها، البحث عن المعنى، وأحد المداخل إلى هذه الغاية "الاهتمام بالذات"، ذلك المفهوم المعروف في الفلسفة قديماً، ولا سيّما عند أفلاطون، على لسان بطله سقراط، في محاورة "ألقيبياديس" (Alcipiade)، حيث يستخدمها نصّار دليلاً على ربط المعنى بالاهتمام بالذات، وبدايتها الاهتمام "بالأشياء التي نملكها" معرفةً وتحسيناً، والنتيجة أنَّ "الإهتمام بالذات يتطلّب معرفة النفس التي تبسط سلطتها على الجسم"، ويتابع فيلسوفنا بالقول إنَّ "معرفة النفس هي معرفة الوظيفة التي تشبه ما هو إلهي فينا، وهي بالتالي الحكمة الخلقيّة التي تمكّننا من معرفة أمورنا والأشياء المتعلّقة بها، وأمور الآخرين وما يتعلّق بها، وفي أساسها العدل والاعتدال والفضيلة" [55].
ويوافق الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (1926- 1984) القول إنَّ مفهوم الاهتمام بالذات شكّل "الإطار والخلفيّة والأساس لمفهوم معرفة النفس" [56].
وعودة نصّار إلى سقراط تحديداً، ترمي إلى توكيد "وسم الروحانية التي تطبع الاهتمام بالمعنى"، ولإظهار محورية هذا الأخير "في عمليات الاهتمام بالذات" [57]. وإذ يعاود شرح مقولة سقراط من وجهة نظرٍ مختلفةٍ، فذلك لإدراكه ضرورة التوازن بين الاهتمام بالذات والاهتمام بالطبيعة، بما يُفضي إلى الاهتمام بمعنى الحياة، وعدم اختزال الذات في بعض وظائفها فحسب، أي الذات المفكرة والعارفة، فهي تراود أبداً آفاقاً جديدةً، و"الجانب الغائي فيها أساسي، بحيث أن الاهتمام بالذات بوصفه معرفة مفتوحة على اللامتناهي، وعملاً مفتوحاً على مُغامرة الخلق، يتحوّل كلياً إلى اهتمام بالمعنى، وينضبط به"[58]. وما يرومه مبدع "فلسفة الأمر"، هو لفت الانتباه إلى حاجتنا لـ"روحانية المعنى" [59] في عالم الرأسمالية البارد والجشع.
يضعنا الموت في مواجهة هشاشة الكائن البشري وضعفه، الذي يتعالى على المصير المحتوم بالأفكار والتصوّرات التي تسوّغ فناء الجسد، ويحلم بروحٍ تسكن في العلياء.
وفي المقام الأخير، كما يرى سايمون كريتشلي أنَّ "توكيد ضعفنا وهشاشتنا وافتقارنا هو تضادٌّ لكلِّ تشاؤمٍ أو عدمية. إنَّ المفتاح لعظمتنا كجنسٍ بشري هو في ضعفنا. فلنتذكّر، قوتنا تكمن في ضعفنا" [60].
المصادر والمراجع
[1] جلجامش (Gilgamesh) هو ملك تاريخي لدولة الوركاء السومرية، وبطل مهم في ميثيولوجيا بلاد الرافدين القديمة والشَخصية الرئيسية في الملحمة التي تحمل الإسم نفسه (أول قصيدة ملحمية في التاريخ، كُتبت بالأكدية خلال أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد). يُحتمل أنه حكم لفترة من الزمن بين 2800 و2500 قبل الميلاد. والملحمة سومرية مكتوبة بخط مسماري على 11 لوحاً طينياً اكتشفت لأول مرة عام 1853 م في موقع أثري اكتشف بالصدفة، وعرف في ما بعد أنه كان المكتبة الشخصية للملك الآشوري آشور بانيبال في نينوى في العراق ويحتفظ بالالواح الطينية التي كتبت عليها الملحمة في المتحف البريطاني. الألواح مكتوبة باللغة الأكادية وتحمل في نهايتها توقيعاً لشخص اسمه شين ئيقي ئونيني الذي يتصور البعض أنه كاتب الملحمة المعتبر أنها أقدم قصة كتبها الإنسان.
[2] طه باقر، ملحمة كلكامش وقصص أخرى عن كلكامش والطوفان (بغداد، وزارة الثقافة، دار الشؤون الثقافية العامة، الطبعة السادسة، 2002). ص 42.
[3] المصدر نفسه، ص 131.
[4] المصدر نفسه، ص 133.
[5] المصدر نفسه، ص 134.
[6] المصدر نفسه، ص 137 و138.
[7] الخروج في النهار، كتاب الموتى، ترجمه من المصرية القديمة وعلق عليه شريف الصيفي (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2013). ص 13 .
[8] د. محمد علي أبو ريان، مذكرات في الفلسفة اليونانية (الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1979). ص 155.
[9] جاك شورون، الموت في الفكر الغربي (1963). (الكويت، سلسلة عالم المعرفة، 1984)، العدد 76. ترجمة كامل يوسف حسين، ومراجعة د. إمام عبد الفتاح إمام. ص 54.
[10] Ibid. P. 72.
[11] نقلاً عن د. نادين عباس، "لماذا نموت؟"، مجلة المشرق الرقمية (لبنان)، العدد الثامن، حزيران 2016.
[12] أفلاطون، إدعاء مليتس ودفاع سقراط، عرّبه عن اليونانية الأب ايزيدور أبو حنا (دمشق، دار الفرقد، 2010). ص 52.
[13] المصدر نفسه، ص 90.
[14] CiCÉRON, Devant La Mort (Paris,Ed. Arléa, 1996), traduit du latin par Danièle Robert. Présenté par Pierre Grimal. P. 90.
[15] Ibid. P.101.
[16] عبد الرحمن بدوي، الموتُ والعبقريّة (الكويت - وكالة المطبوعات، بيروت – دار القلم، 1945). ص.5.
[17] من مقدمة د. نبيل فياض مترجم كتاب لودفيغ فيورباخ ومساعدة أ. جورج برشين، أفكار حول الموت والأزلية (بيروت، دار الرافدين، 2017). ص 8.
[18] عبد الرحمن بدوي، الموتُ والعبقريّة، مصدر مذكور، ص 8.
[19] المصدر نفسه، ص 12.
[20] المصدر نفسه، ص 13.
[21] المصدر نفسه، ص 18.
[22] Philippe Ariès, L’ homme devant la mort,( Paris. Ed. Seuil, 1977). P. 313- 315.
نقلاً عن مصطفى الكيلاني، "كتابة الموت"، مصدر مذكور.
[23] Montaigne, Essais, Livre 1,(Paris, Ed. Carnier – Flammarion,1969). P.130.
[24] Ibid. P. 132.
[25] Montaigne, Essais, Livre 3,(Paris, Ed. Carnier – Flammarion,1969). P.294.
[26] Ibid. P. 362.
[27] Ibid. P. 366.
[28] مصطلحات هايدغرية، اعداد د. محمد سبيلا، مجلة الإستغراب (لبنان)، العدد رقم 5، خريف 2016. عدد خاص عن الفيلسوف الألماني. ص 474.
[29] أندرو رويل (Andrew Royle)، "مارتن هايدغر: الموت كطريقة لفهم وجودنا في العالم"، 2018. نص مترجم عن مجلة "الفلسفة الآن" (Philosophie Now) الإنجليزية. متوافر على الشبكة العنكبوتية.
[30] مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ترجمة وتعليق فتحي المسكيني، (بيروت، دار الكتاب الجديد، 2012). ص 451.
[31] المصدر نفسه، ص 452.
[32] المصدر نفسه، ص 455.
[33] عبد الرحمن بدوي، دراسات في الفلسفة الوجودية (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1980). ص 177.
[34] المصدر نفسه، ص 178.
[35] أونامونو، كتاب حياة دون كيخوته وسانتشو، مذكور عند بدوي، دراسات، مصدر مذكور، ص 179.
[36] بدوي، دراسات، مصدر مذكور، ص 213.
[37] المصدر السابق نفسه، ص 214.
[38] المصدر السابق نفسه، ص 216.
[39] المصدر السابق نفسه، ص 222.
[40] المصدر السابق نفسه، ص 223.
[41] ألبير كامو، الإنسان المتمرد، ترجمة نهاد رضا (بيروت – باريس، منشورات عويدات، ط 3، 1983). ص 34.
[42] ـ Vladimir Jankélévitch, Penser la mort, Paris:Liano-Levi, 1994.مذكور عند د. مصطفى الكيلاني، "كتابة الموت فـي الفكر الغربيّ المعاصر"، مجلة نزوى العمانية، العام 2008، نقلاً عن الشبكة، لا وجود لأرقام الصفحات وقد أصدر د. الكيلاني كتاباً عنّونه "الموت والزمن"(تونس، شركة لوغوس للنشر والتوزيع، 2021)، خصص منه فصلاً ليانكلفيتش وموقفه من مسألة الموت.
[43] سيغموند فرويد، أفكار لأزمنة الحرب والموت، ترجمة: سمير كرم ( بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1977، الطبعة الثانية 1981). ص27.
[44] المصدر نفسه، ص 28.
[45] المصدر نفسه، ص 30.
[46] المصدر نفسه، ص 33 و34.
[47] Ernst Bloch, THE PRINCIPLE OF HOPE. نقلاً عن : عطيات أبو السعود، الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ (القاهرة، مؤسسة هنداوي للثقافة، الطبعة الأولى 1997، طبعة جديدة 2021). من المقدمة، ص 13.
[48] للتوسع، أنظر: د. ابراهيم النجار، "الإبداع الريادي في فلسفة الأمل عند ناصيف نصّار: قراءة في كتاب النور والمعنى"، مجلة المستقبل العربي (بيروت)، العدد 472، حزيران/ يونيو، 2018.
[49] ناصيف نصّار النور والمعنى ؛ تأملات على ضفاف الأمل (بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، 2017). ص 37.
[50] المصدر نفسه، ص 40.
[51] المصدر نفسه، ص 43.
[52] المصدر نفسه، ص 45.
[53] المصدر نفسه، ص 54.
[54] المصدر نفسه، ص 65.
[55] المصدر نفسه، ص 69.
[56] المصدر نفسه، ص 70.
[57] المصدر نفسه، ص 71.
[58] المصدر نفسه، ص 73.
[59] المصدر نفسه، ص 75.
[60] سايمون كريتشلي، " أن نتفلسف هو أن نتعلَّم كيف نموت."، ترجمة عبد العزيز البلبيسي. نص متوافر على الشبكة العنكبوتية.