إمبراطور الجسد: رحلة في تاريخ قلب الإنسان
اختصّ عيد العشاق في الرابع عشر من شباط بالقلوب، إذ غدا القديس فالنتاين رمزًا للعشاق، وأصبح خاتم الزواج يوضع في الأصبع الرابع/البنصر للاعتقاد بأنّ هناك وريدًا ينطلق من القلب وينتهي إليه.
تمتاز ملحمة جلجامش بأنّها قدّمت لنا أولى الملاحظات على اعتقاد الشعوب القديمة بأنّ القلب هو مركز الحياة في الجسد الإنساني، وبغياب نبضه يحدث الموت. تقرّر الآلهة موت إنكيدو بعدما قام مع جلجامش بقتل الثور السماوي وتقديم قلبه قرباناً للإله شمس. يموت إنكيدو، فيتلمّس الملك جلجامش صدره ليتيقن من موته: "وحين أضع يدي على قلبه، أجده لا ينبض".
في القرن السابع عشر، أعلن الطبيب وليم هارفي بأنّ القلب مجرد مضخة للدماء، وليس مكانًا للنفس والأفكار والأحاسيس والمشاعر. يتتبع طبيب القلب فنسنت إم فيغيريدو في كتابه: "التاريخ العجيب للقلب؛ رحلة في الثقافة والعلم"، والصادر عن دار سبعة عام 2023 في القاهرة، تطور فهمنا للقلب منذ فجر الحضارة إلى الوقت الحاضر وأهميته في الفن والثقافة والدين والفلسفة والعلوم.
القلب في العصر القديم
اجتمع في القلب كلّ ما ننسبه الآن إلى الدماغ من أفكار وضمير ونفس وعواطف وأحاسيس، ففي الحضارة الفرعونية، اعتبر القلب الشاهد على أعمال الإنسان، فعندما يموت الإنسان يُوضع قلبه في كفّة ميزان، وفي الكفّة المقابلة ريشة نعامة، فإن ثقلت موازين القلب كان مصيره إلى الجحيم، وإن خفّت كان مصيره جنة الإله أوزوريس.
أمّا في الصين، فقد رأوا أنّ القلب ملك الأعضاء جميعها، ففيه يكمن الوعي والذكاء، وهو يتحكّم في كل أعضاء الجسد. وكما كان المصريون يعتقدون بأنّ القلب يتكلّم من خلال أطرافه/ الشرايين، ويعبر عن صحة أو مرض الجسد، فقد أشار الصينيون إلى أنّ الدم يتدفّق بشكل دائري في الجسد.
كان الإله ديونيسيوس ابناً للإله زيوس وبيرسفوني. وفي نوبة غيرة، أمرت هيرا زوجة زيوس المردةَ بأن يقتلوا الطفل. واستطاعت أثينا ابنة زيوس أن تنقذ قلب أخيها، فقام زيوس بطحن قلبه وسقاه مع شرابٍ لامرأة أرضية جميلة تُدعى سيميلي، فتكوّن ديونيسيوس من جديد في رحمها، لكنّها طلبت من زيوس أن تراه في جلاله الإلهي فاحترقت. وهنا، أنقذ زيوس الجنين وزرعه في فخذه حتى ولد. ومن خلال هذه الأسطورة، عبّر اليونانيون عن مركزية القلب في حياة الآلهة والبشر.
مع تقدّم الحضارة الإنسانية، بدأت أسئلةٌ تُطرح عن مكان وجود النفس والقدرات العقلية في الجسد البشري، وانقسم العلماء، فمنهم من أخذ بمركزية القلب، حيث توجد النفس والقدرات العقلية، ومنهم من اعتبر الدماغ المركز. اعتقد المصريون بأنّ الإله بتاح خلق العالم من قلبه، فيما كانت الروح في القلب لدى الصينيين.
أمّا الهنود، فقد كان الإله شيفا خالق الكون لديهم يُدعى سيد القلب، وتلقب زوجته بإلهة القلب. وبحسب ما جاء في الأسطورة الهندية، بعد انتصار الإله راما على إله الشّرّ، كافأت زوجته قائد جيشه بعقد من اللؤلؤ، فما كان من قائد الجيش هانومان إلّا أن رمى العقد. وعندما سُئل عن السبب، قال إنّه لم يجد في حبات اللؤلؤ الإله راما. وعند ذلك، فتح صدره ليجدوا صورة الإله راما مصوّرة في داخله.
كان الإله أبولو في الأسطورة الإغريقية إله العقل، فأخذ يسخر من كيوبيد صاحب القوس والسهم الذي يصيب به القلوب، فما كان من كيوبيد إلّا أن وجه سهماً ذهبياً إلى قلب أبولو فعشق حورية الماء دافني. وفي الوقت نفسه، وجه سهماً من حديد إلى قلب دافني، فكرهت الإله أبولو. شرع الإله بمطاردة محبوبته التي تكرهه من دون جدوى. هكذا، أثبت كيوبيد لإله العقل سطوة العواطف.
انقسم اليونانيون بين القلب والدماغ، وانحاز أبقراط أبو الطب إلى الدماغ واعتبره مركز الوعي ووافقه أفلاطون في ذلك، في حين ذهب أرسطو إلى مركزية القلب، إذ ذكر في كتابه "تاريخ الحيوانات" بعد مراقبة أجنّة الدجاج في البيض بأنّ الحياة تبدأ أولّاً في القلب. ليس غريباً أن يعتقد أرسطو بأنّ القلب هو مقرّ الوعي، فالعواطف القوية تسبِّب تسارع نبضات القلب. وقد تؤدي إلى الوفاة.
اعتبر جالينوس من أهم أطباء العالم القديم. وقد وافق أرسطو بأن القلب هو مركز الحياة، إلّا أنّه بعد دراسة أبي الطب أبقراط وأفلاطون، اعتمد جالينوس التقسيم الذي أوجده أفلاطون للقوى في الجسد الإنساني، فالنفس العقلانية موضعها في الدماغ، والنفس الروحية في القلب، والنفس الشهوانية في الكبد.
تأكّدت بعد ذلك أهمية القلب على العقل في الديانات التوحيدية، ففي اليهودية، يتكرّر ذكر القلب أكثر من 700 مرة، إذ اعتبر اليهود أنّ القلب مكان حضور الله في قلب المؤمن، فجاء في التوراة: "وأعطيهم قلباً ليعرفوني أنّني أنا الرب". وفي المسيحية، يرى القديس بولس أنّ رسالة المسيح ليست مكتوبة على ألواح حجرية- كما في التوراة عندما عاد النبي موسى بالوصايا العشر من جبل سيناء- بل على ألواح لحمية في القلب. وورد ذكر القلب في القرآن الكريم 180 مرة: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ"، فالإسلام يرى القلوب التقية السليمة عقلانية. أمّا القلوب المريضة، فجاهلة.
تشريح القلب
يقول الطبيب اليوناني أبقراط في القرن الرابع قبل الميلاد: "القلب عضلة في منتهى القوة". كان الاعتقاد قديمًا بأنّ الأمراض عقوبات توقعها الآلهة على البشر، في حين أكّد أبقراط أنّ الأمراض تسبّبها الطبيعة، فقد كان من أتباع مركزية العقل لا القلب، وكان أول من أسّس مدرسة طبية.
يعد ألكمايون الكرتوني تلميذًا لفيثاغورث، وهو أول من شرّح الأجساد البشرية حيّة وميتة. وبالاستناد إلى دراسته التجريبة، قال إنّ العقل لا القلب هو مركز الوعي والأحاسيس. ومع هؤلاء الأطباء، بدأت الأوصاف التشريحية للقلب تظهر. وقد قال أرسطو إنّ القلب هو مركز الجهاز الوعائي الدموي في جسد الإنسان.
وفي العصر الهليني بعد الإسكندر المقدوني، تطوّر تشريح الأجساد كثيرًا، وخصوصاً في مصر في عهد البطالمة، إذ سمحت السلطة آنذاك بذلك. كان الطبيب هيروفيلوس أبًا لعلم التشريح، وعدّه عماد الدراسة الطبية لفهم الجسد البشري، وهو من اكتشف الجهاز العصبي، ووصف الشرايين والأوردة، ليؤكّد مقولة مركزية الدماغ.
ورثت الإمبراطورية الرومانية المنطقة، وكانت ترى أنّ الأمراض من عمل الآلهة، ولا شأن للطب بذلك، لكن مع الوقت تبنّت الثقافة اليونانية والهلينية، فظهر الطبيب جاليونس الذي وصف القلب بأنّه عضلة تأخذ فيها الألياف العضلية مسارات مختلفة على عكس عضلات الجسم الأخرى.
ومع انهيار الإمبراطورية الرومانية، دخلت أوروبا عصر الظلام. لم تسمح الكنيسة بتغيير المعتقدات، فقد أخذت برأي أرسطو بمركزية القلب ليتناسب إيمانيًا مع عقيدتها الدينية، فالقلب هو مركز الإيمان والحياة، إلى أن جاء القديس توما الأكويني واعتبر أنّ موضع النفس لم يكن في القلب، بل في هيئة الجسد البشري.
استلمت الحضارة العربية الإسلامية شعلة الحضارة، فقد تطوّر الطب كثيرًا في زمنها، وقد كان الرازي أول من تكلّم عن السكتات القلبية، إذ يقول إن في القلب طبائع فاسدة: "انسداد في شرايينه- وانسداد في تجويفه- وانتفاخ فيه، يليه تسارع في النبض ينتهي بالإغماء"، وهذا يعني بمصطلحات الطب في زمننا: "مرض تصلب الشرايين التاجي- داء تضيق الصمام القلبي- قصور القلب".
أمّا ابن سينا الذي كان كتابه "القانون في الطب" مرجعاً لأطباء أوروبا لستة قرون، فقد وضع أيضًا رسالة في الأدوية القلبية، ووصف الحمية والرياضة لتقوية القلب، وأثبت أنّ منشأ الشرايين من الجهة اليسرى للقلب. كان الطبيب ابن النفيس يشرّح الحيوانات. وقد طرح فكرة وجود دورة دموية في الجسد البشري منطلقها القلب.
وبينما كانت أوروبا في ظلمتها، كان الهنود الحمر يضحّون بالقلوب لآلهتم، لكنّ أوروبا استفاقت أخيراً على يد مجموعة من العلماء الذين شكّكوا بالمعارف القديمة، فمن دافشني الذي رسم الكثير من الرسوم للقلب وتشريحه وإثباته أنّ الصمامات في الشرايين تسمح للدم بالعبور باتجاه واحد، إلى أندرياس فيزاليوس رائد التشريح في أوروبا في القرن السادس عشر، وصولًا إلى وليم هارفي في القرن السابع عشر، كانت الرؤية القديمة للقلب قد انهارت تمامًا، إذ أعلن الطبيب وليم هارفي أنّ القلب مجرد مضخة للدماء، لكن ظلّ القلب محورًا للإيمان والفنّ والأدب.
القلب والفنون
تتالت اللوحات والأدبيات والمقطوعات الموسيقية التي تستخدم القلب كثيمة معبرة عن العاطفة والبراءة والحبّ النقي، إذ صوّر كيوبيد/ إله الحب يمطر العشاق بسهامه. وشاعت فيما بعد الكتب التي صممت على شكل قلب، والتي رأت فيه ممثلًا للذاكرة. وقد اختار مارتن لوثر مؤسس البروتستانتية شعارًا له زهرة على شكل قلب يتوسّطها الصليب.
ترافق استخدام ثيمة القلب في الرسم مع اعتباره موضوعًا مهمًا في الآداب، فبدءًا من دانتي وجيوفاني بوكاتشو صاحب "الديكاميرون/ مئة قصة"، بدأ ذكر القلب بقوة في القصص والروايات والأشعار؛ ففي الحكاية التاسعة من الديكاميرون يقتل الزوج عشيق زوجته، ويقطع قلبه ويطعمها إياه. وعندما يخبرها بذلك تقول له: "لقد تناولت أطيب شيء في حياتي، ولن أتذوق بعده طعامًا"، ثم ترمي بنفسها من النافذة وتموت.
ولم يفوت شكسبير رمزية القلب، ففي مسرحية الملك لير، لم تجد الصغيرة كورديليا طريقة للتعبير عن حبها لأبيها إلّا أن تقول له: "ما أضعفني من حمل قلبي إلى شفتي!". لم يفهم الملك ما قصدته ابنته من قولها، فحرمها من الميراث. كذلك، عبرت الألحان الموسيقية عن ثيمة القلب، فقال أحد الموسيقيين: "للموسيقى فعل مفتاح سحري تنفتح به أشد القلوب انغلاقًا".
اختصّ عيد العشاق في الرابع عشر من شباط بالقلوب، إذ غدا القديس فالنتاين رمزًا للعشاق، وأصبح خاتم الزواج يوضع في الأصبع الرابع/ البنصر للاعتقاد بأنّ هناك وريدًا ينطلق من القلب وينتهي إليه. وربما ربط القدماء هذا الإصبع في اليد اليسرى بالقلب لمراقبتهم الآلام التي تصيب المريض بالخناق الصدري، إذ تمتد من الصدر إلى اليد وتنتهي بالإصبع الصغير.
بعد هذا العرض لتاريخ القلب من منظور أسطوري وديني وأدبي وفنّي، ينتقل طبيب القلب فنسنت إم فيغيريدو إلى الحديث عن القلب من منظور طبي وعلمي، فيناقش وظائفه وكيفية القيام بها وأهم التطورات الطبية التي تخصّ القلب.
اعتبر القلب أهم عضو في الجسم على مدى جزء كبير من التاريخ المسجّل، إذ كان يُعتقد بأنّ في القلب، وليس الدماغ، الذكاء والذاكرة والعاطفة والنفس. ومع تقدّم الحضارة الإنسانية، تغيّرت وجهات النظر حول القلب. لقد رفض الطب والعلم الحديث ما كان ذات يوم ملك الأعضاء، فاعتبر القلب مجرد مضخة دم تابعة للدماغ. ومع ذلك ظلّ القلب رمزًا قويًا للحبّ والصّحة وجزءًا مهمًا من أيقونات الإنسان الثقافية.