أين هم الذين أباحوا دم ناجي العلي؟
ناجي العلي لم يكن مجرّد فنان يرسم كاريكاتورات تُضحك وتُسلّي وتمتع. لا. كان ناجي قائداً ثقافياً ينشر الوعي، وكان (ابنه) حنظلة يُحرّض على الثورة.
أجلس وسطهم غريباً، في حالة ذهول، متسائلاً: أيمكن أن يكون هؤلاء كتاباً وصحافيين يحرّكهم وعي وانتماء وضمائر نقية مبرّأة من الحقد والكراهية والتزوير؟
كان ذلك بعد وصول نبأ اغتيال الفنان الثوري الكبير ناجي العلي، حامل همّ فلسطين وشعبها، وهموم كل مظلومي الوطن العربي الكبير.
لم يقلقهم وضع ناجي الصحي الخطر، وتمدّده في مستشفى لندني غائباً عن الوعي بسبب رصاصة سدّدها مستأجر إلى وجه ورأس ناجي.
دُفع ناجي لمغادرة الكويت حيث كان يعمل ويعيش مع أسرته، بعد ضغوط ابتزازية على الحكومة الكويتية، وتوجّه إلى لندن للعمل هناك في مكتب جريدة "القبس".
لقد تابعنا عملية استدراج ناجي العلي البوليسية والتي يمكن أن يوضع لها عنوان (حادثة اغتيال معلن) أسوة برواية ماركيز التي حملت العنوان (حادثة موت معلن)، والتي قرأناها بعد نقلها إلى العربية بإبداع الصديق المترجم الكبير صالح علماني، وقد أعلن ماركيز في حوار أجري معه حول روايته: كان في ذهني حال الفلسطيني! وهذا كان حال ناجي ووقائع مطاردته، وإطلاق الرصاص على رأسه في عاصمة بريطانيا العظمى لندن!
صحافي فلسطيني مشهور كان يصدر مجلة أسبوعية في باريس مموّلة فلسطينياً كتب افتتاحية هجومية على ناجي، وبهذا برهن على أنه (وفيّ) لمن يموّلون مجلته، وأنه جدير بالتمويل.
أعضاء (الأمانة العامة) كانوا غالباً موظفين كباراً على رأس مؤسسات، ولذا كان واجبهم مهاجمة أي فلسطيني ينتقد لقاءات قيادات فلسطينيّة بحكام كامب ديفيد، والتصريحات التي تنطق بما لا ينسجم مع الميثاق الوطني الفلسطيني، وحق الشعب العربي الفلسطيني بوطنه كاملاً غير منقوص. تلك التصريحات التي كانت تمهّد لنيل الرضى الأميركي والعربي الرسمي الجاهز للتنازل عن (عروبة) فلسطين وتحويلها إلى صراع فلسطيني (إسرائيلي)، وغسل اليدين من فلسطين كقضية صراع عربي (إسرائيلي)، وتحميل الفلسطينيين أعباء القضية، والاكتفاء بدور الداعم كلاماً وببعض المال.. وكفا الله (العربان) تكاليف القتال والصراع!
كنت آنذاك قد انتقلت من دمشق إلى تونس في العام 1987، وتركت أسرتي في مخيم اليرموك، وصدمتني جريمة إطلاق الرصاص على رأس ناجي واحترت أمام السؤال: إلى أين أتوجّه في بلاد العرب، ولم يكن هناك مكان يستقبلني؟
كتبت بياناً باسمي عنونته:
كي لا يموت ناجي العلي
كي لا يموت ضميرنا الثقافي
كي لا تضيع ثورتنا وقضيتنا الوطنية والتقدمية
وأشرت في البيان بالأسماء إلى كتّاب وصحافيين وظّفوا أنفسهم كمنافقين لمهاجمة ناجي، بل وإباحة دمه، وتنافسوا بأقصى وأوقح درجات الهجوم عليه، وأبشعها، وأكثرها انحطاطاً ولؤماً وافتقاداً للأخلاق التي يجدر أن يتحلّى بها المثقّف، والكاتب، والشاعر.
بدأت بتوزيع البيان على الفاكس، وكان أن قطعت الكهرباء والهاتف عن المكان المؤقت الذي (استضفت) فيه، وكان بعيداً من العاصمة قرب البحر، ففهمت (الرسالة)، وتواصلت مع كتّاب وشعراء ليبيين فرحّبوا بي ضيفاً عليهم، فحملت حقيبتي واتجهت إلى موقف السيارات المسافرة إلى طرابلس، وهناك شعرت بأنني بتُّ طريداً، وعزز هذا الشعور غياب سفير فلسطين المحترم، وتسلّم أحد الأشخاص موقعه مؤقتاً فأدى دوراً في التآمر ضدي، والتحريض المستمر، ووجدها فرصة ليبرهن على ولائه وجدارته بثقة تُثبّته في موقع سفير فلسطين!
وبعد فترة نكّل فيه الطلاّب الفلسطينيون عقاباً على أُسلوب تعامله معهم، وألقوا به من شرفة الدور الثاني لمبنى السفارة وانتهى أمره بالتخلّي عنه!
لقد جاء في بياني، وهو ما زال متوفراً، ورغم تأكّل بعض الحروف: "ومع ذلك يُلاحق ناجي العلي لأنه يعبّر عن عذاب شعبنا، عن إرادة ثوّارنا، عن شرف التزامنا. لقد صمتت الأمانة العامة لاتحادنا عندما تكلّم كاتم الصوت واخترق برصاصته المجرمة الخائنة وجه ورأس ناجي العلي.
لقد شمتوا بناجي العلي، وأشاعوا جوّ الشماتة، هذا بالقول إنه تجاوز المحرمات. فهل هناك محرمات أخطر من اللقاءات مع الصهاينة؟
أنا أتجاوز عن بعض ما أوردته في البيان، الذي أؤكّد بأنني كتبته وعمّمته على الفاكس آنذاك، لأننا لم نكن قد دخلنا زمن الإنترنت والكمبيوتر. أسهمت في فيلم وثائقي عن صديقي ورفيقي ناجي العلي، فسألتني معدّة الفيلم في آخره: من قتل ناجي العلي؟
أجبتها: تأملي أنت والمشاهدون كاريكاتوراته وستعرفين..ويعرفون!
وأضفت: كل من أسهموا بقتل ناجي العلي سيموتون ويتحللون في التراب والنسيان، وناجي العلي سيزداد حياة، وهذا هو عقاب ناجي وثأره ممن اغتالوا جسده، وما زالوا يحاولون اغتيال فلسطين وشعبها وثقافتها الممتدّة في الوطن العربي.
وختمت البيان بما يلي:
كي لا يموت ناجي العلي،
كي لا نموت واحداً واحداً بكواتم الصوت،
كي لا يسقط دور المثقّف الفلسطيني،
وكي لا يصبح اتحادنا شاهد زور، لنبدأ في رفع أصواتنا، والتواصل وإعادة النظر في كل الذي جرى ويجري، لأن القضية الوطنية في خطر، ومُثُل وقيم ثورتنا في خطر. ولأنه عندما يُقتل المبدعون الشرفاء، وينفلت اللصوص الجبناء والقتلة ويعيثون فساداً بثورتنا ومصير شعبنا فإن الصمت يقترب من الخيانة.
ناجي العلي لم يكن مجرّد فنان يرسم كاريكاتورات تُضحك وتُسلّي وتمتع. لا. كان ناجي قائداً ثقافياً ينشر الوعي، وكان (ابنه) حنظلة يُحرّض على الثورة، وبات حنظلة ممثّلاً لوالده ناجي وحاملاً للغضب، ورافضاً للمساومة، لا يعرف الخوف، وهو يزداد حضوراً وناشر وعي بعد رحيل مبدعه برصاصة الجريمة والانحراف وفارق الحياة يوم 29 آب/أغسطس عام 1987 وكان في الخمسين من عمره. سيعيش ناجي العلي عمراً مديداً بفنه الشجاع الرائي وبحنظلة طفله الغاضب الرافض.
وهكذا، فهو كما جاء في قصيدة للشاعر الجواهري الكبير:
باقٍ وأعمار الطغاة قصار
يا ناجي: من لا يواصل السير على درب فلسطين، ويحاول اختصارها إرضاء للأعداء كائناً من كان فإنه يسقط، فعدوّنا لا يريد للفلسطيني ولكلّ عربي مقاوم إلّا الموت، وأنت بفنّك ووعيك واستشهادك تملأ حياتنا وعياً وحياةً وإلهاماً...
أنت باقٍ يا ناجي ومن ظنّوا أنهم يلغون حضورك باغتيالك ماتوا ويموتون وهم على قيد حياتهم المُخزية.