أيّام القمل*
القمل يمصّ دماءنا، أي لا يهمه أن نموت، وهو يفعل ما فعله بنا اليهود الذين طردونا من قرانا وبيوتنا ورمونا تحت الخيام للبرد والجوع والقمل.
شمّر أستاذنا أحمد العجوري قمبازه فظهر سرواله الأبيض الواسع حول خصره وفخذيه، والذي يضيق حول ساقيه، وينتفخ حول بطنه، ورفع ماكنة الحلاقة بيده، وخاطبنا: "هذه ماكنة حلاقة، كنت أستعملها مع المقص قبل أن يحتل اليهود قريتنا عجّور، فأحلق الرؤوس وأشذّب الشوارب: "عارفين شو يعني أُشذّب؟ يعني أقصقصها بحيث يكون شعر الشوارب غير متنافر، وكان عندنا صابون نابلسي مصنوع من زيت الزيتون نغسل به رؤوسنا وأجسادنا، وبخاصة يوم الجمعة لأن الرجال يتوجهون لصلاة الجماعة، والنساء يعتنين بأطفالهن فيدعكن رؤوسهم ورؤوس البنات دعكاً يكاد يقشّر الجلد، وهكذا لا يقترب القمل من الرؤوس والأبدان. حالياً يا شاطرين نحن في مخيّم الدهيشة ولا نملك صابوناً نابلسياً نفرك به أبداننا ورؤوسنا، وتغسل به الأمهات والأخوات ملابسنا".
نفض رأسه: "أساساً نحن بالكاد نملك ملابس تستر أجسادنا، فقد شرد الناس بأطفالهم حتى لا تقتلهم الطيارات والرشاشات وهي أسلحة لا نملك ما نواجهها به".
ضغط على ذراعي ماكنة الحلاقة: "بهذه سنواجه القمل..كيف؟ نحلق شعرنا على الصفر، وهيك يا شاطرين نحرم القمل من الاختباء بين الشعر لأننا حلقناه".
رفع ولد يجلس على حجر إلى جانبي إصبعه وسأل: "والبراغيث يا أستاذ؟"
- "القمل والبراغيث تتغذى من دمنا، ونحن دمنا ضعيف لأننا نأكل طعاماً لا يشبعنا. يعني القمل يمصّ دمنا، يعني لا يهمه أن نموت، وهكذا يفعل هو ما فعله بنا اليهود الذين طردونا من قرانا وبيوتنا ورمونا تحت الخيام للبرد والجوع والقمل".
إلى جواره وضع حجراً كبيراً مرتفعاً، وأشار لنا أن نتقدّم واحداً واحداً لمواجهة القمل والبراغيث،فرفعنا أجسادنا عن الحجارة التي نجلس عليها رغم أنها غير مريحة وتزاحمنا أمامه، فانهمك في حلق رؤوسنا، وقرب أقدامنا تراكم شعر رؤوسنا الغزير بما فيه من قمل. أمّا البراغيث فكانت تتقافز وتتطاير بأجسادها الصغيرة التي تكاد لا تُرى، والأستاذ أحمد يردد بحماسة:
- "لعنة الله على القمل وزمنه، أتعرفون ماذا سنفعل بهذا الشعر الذي يخفي داخله القمل والبراغيث؟"
رفعنا نظرنا لنتلقف الكلمات من فمه:
- "اجمعوا أعواداً جافة واشعلوا فيها النار ثم لنرمي الشعر حتى تحرق النار القمل فلا يتكاثر من جديد، ولكن لا بد من أن نغتسل بالماء الساخن، وبالصابون النابلسي".
أخذنا نتحسس رؤوسنا بأصابعنا، وعندما انتهى الأستاذ أحمد من حلق رؤوسنا جميعاً، أخذ في ترديد:
راس روس
دار دور
وهو يمرّر راحة يده على رؤوسنا:
- "حتى نعود لدورنا، ولأيام الصابون النابلسي..حتى لا يمصّ القمل دمنا، لازم نحلق شعرنا و يلا فرصة: إلعبوا شوية وارجعوا إلى خيمة الدراسة".
وكأنما يُحدّث نفسه:
- "هذه الأيّام، أيّام الجوع والقمل والعيش تحت الخيام ستمرّ، وستكبرون وتقاتلون وتحرّرون قرانا ومدننا. سننتصر على القمل وعلى من يحتلون قرانا ومدننا".
* أنا رشاد أبو شاور ولدت في قرية ذكرين القريبة من قرية عجور، هاجم قرانا اليهود واحتلوها في شهر تشرين الأوّل/أكتوبر عام 1948، وكان أول مخيّم نقيم تحت خيامه هو مخيّم الدهيشة جار مدينة بيت لحم، ولأنني عشت بداية أيّام النكبة، ولأن ذاكرتي تختزن شقاء تلك الأيّام والسنوات فأنا أكتب حكاياتها، وهذه واحدة منها. أنا ولدت بتاريخ 15 حزيران/يونيو عام 1942، واليوم 15 حزيران/يونيو 2023، أُرسل هذه الحكاية إلى "الميادين نت" لتتعرف الأجيال إلى بعض معاناتنا، وعلى أننا كبرنا برؤوس ممتلئة باليقين بحتمية تحرير كل قرى ومدن فلسطين، كما حرّر الأستاذ أحمد العجوري رؤوسنا من القمل.. لروحه الرحمة.