أم كلثوم.. من المدائح والموشحات إلى "كوكب الشرق"
تتربع على عرش الغناء العربي منذ قرن. لماذا أصبحت أم كلثوم "كوكب الشرق"؟
لم تخلُ الساحة العربية يوماً من أصوات رائعة لا تقل شأناً عن صوت أم كلثوم، لكن "كوكب الشرق" هي وحدها التي تفوقت واستمرت في مكانتها حتى اليوم، على الرغم من جمالها المتواضع في عالم يمتلك مفاتيحه الرجال.
لعل الباحث في صوت أم كلثوم سيجد الكثير من السمات الفنية التي تبرر ظاهرياً المكانة العالية لـــ"الست"، ولكن تلك المواصفات ليست المسؤولة وحدها عن تشكيل هذه الظاهرة، بل هناك عوامل تتعلق بشخصيتها وذكائها كان لها الأثر البالغ في ما وصلت ليه.
فنياً، تتمتّع أم كلثوم بصوت قوي جداً من فئة الكونترالتو (صوت النساء الخشن)، يصل إلى منتصف منطقة الميتزو سوبرانو (الصوت النسائي المتوسط الحدة)، ويفترش بترفٍ 16 نوتة موسيقية من تلك المنطقة الصوتية.
وتتميز أيضاً بقدرات هائلة على تغيير طبيعة الأداء الغنائي بحسب الحاجة، فهي تبَحُّ حزناً أو تهدِج فرحاً، أو تئن ألماً أو تغضب، وقد تضطر إلى أن تبتعد عن الميكروفون. يرافق ذلك انفعالات جسدية قوية ورصينة وصادقة، وهي تهزّ منديلها المقبوض عليه بأصابع لا تتوقف عن فرك بعضها البعض وسحق المنديل.
شخصية أم كلثوم ونهجها في الفن والحياة
ولدت أم كلثوم في 31 كانون الأول/ديسمبر 1898 (وهناك رواية تقول إنها ولدت عام 1902). بدأت بتقليد والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي إمام ومؤذن مسجد القرية بتجويد القرآن وبما يغنيه من موشحات وقصائد وأدعية.
لاحقاً، انتقلت لمرافقته مع شقيقها خالد إلى حفلات المدائح النبوية والتواشيح الدينية والقصائد والموشحات.
كانت آنذاك تغني بلباس الصبيان (الجبة والعقال) لحرص والدها على التخفيف من الانتقادات التي وجهت إليه بسبب غناء ابنته. ولا شكّ في أن المعاناة والتجارب المريرة المبكرة التي يفرضها هذا النوع من الأعمال شحذت حواس تلك الفتاة الصغيرة التي كانت تسافر سيراً على الأقدام مع والدها وأخيها في ريف القاهرة الشمالي.
عانت من الانتظار ساعات طويلة جداً في الحر والقر في محطات القطارات عندما صارت رحلاتهم أبعد. هذه الظروف الصعبة تضافرت مع ذكائها الحاد جداً، وصقلت شخصيتها، وأغنت المخزون المعرفي لديها، ما دفعها في ما بعد إلى زيادة معارفها الموسيقية والشعرية وخبراتها بالأشخاص وأمزجتهم وأساليب التعامل معهم، وعلّمها أن تحفظ النعمة وتقتصد في استهلاك المال. وقد اتخذت الاحتشام في السلوك والملبس مذهباً واضحاً على عكس فنانات ذلك العصر، وحرصت على اختيار أماكن الغناء الملائمة لفنها رغم صعوبة ذلك.
ساعدها ذكاؤها وحكمتها في رسم نهج مميز في الفن، قامت بتطويره ببراعة دائماً، فلا نبالغ عندما نقول إنها استفادت من كل شخص مر في حياتها لتطوير نفسها. وكموهوبة في الشعر و الموسيقى، ألفت بعض التواشيح الدينية والقصائد، وقامت بتلحين بعض الأغاني، مثل "على عيني الهجر ده مني" من كلمات أحمد رامي، وتعلمت عزف العود، ثم قرأت أمهات الكتب الأدبية، وتعلمت الإنكليزية، وأتقنت الفرنسية، وتعلمت تذوق الشعر بتأثير الشاعر أحمد رامي، وبفضل أستاذها وملحنها الأول أبو العلا محمد الذي علمها فهم الشعر قبل حفظه وغنائه.
كل ذلك مكّن أم كلثوم من زراعة بستان خصب بالفرص والاحتمالات، تقطف منه ما شاءت ومتى شاءت. هذا ما مكّنها من عنصر التنويع في مصادر فنها وتطويره بطريقة تضمن استمرارية تفوقه وخلوده عبر الزمن، فهي تتلمذت على الشيخ الكبير أبو العلا محمد، فكان لها نعم الراعي والمعلم، وأول أسطوانة تسجّلها كانت لأبي العلا محمد ومن كلمات أحمد رامي "الصب تفضحه عيونه" سنة 1924.
بعد ذلك، دخل إلى الفريق طبيب الأسنان أحمد صبري النجريدي الذي ترك عيادته في طنطا ولحق بها إلى القاهرة، وقدم لها عدداً كبيراً من الألحان، من أشهرها "الفل والياسمين والورد" التي غناها أيضاً صباح فخري. في الفترة نفسها، ظهر محمد القصبجي.
بعد ذلك، بدأت روافد الملحنين ترفد نهر "ثومة" العظيم، فجاء داوود حسني سنة 1930، ثم زكريا أحمد سنة 1931، ورياض السنباطي عام 1935، ثم محمد الموجي، وكمال الطويل، وبليغ حمدي، وصولاً إلى محمد عبد الوهاب عام 1964، وأخيراً سيد مكاوي سنة 1972.
أما على صعيد الكلمات، فقد نوعت "الست" في مصادرها الشعرية القديمة والحديثة والعامية والفصيحة؛ فمن الشعر القديم، غنت لأبي فراس الحمداني، وصفي الدين الحلي، وابن النبيه المصري، وبكر بن النطاح الحنفي، والشريف الرضي.
أما في الشعر الحديث، فاختارت أحمد رامي صديق عمرها، وبيرم التونسي، وصلاح جاهين، ومأمون الشناوي، ومرسي جميل عزيز، وأحمد شفيق كامل، وإبراهيم ناجي، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ونزار قباني، وجورج جرداق، والهادي آدم، وعبد الوهاب محمد، والكثيرين غيرهم.
وبسبب قوة شخصيتها وتمكّنها من الشعر والموسيقى، كان من النادر أن ينجو لحن أو قصيدة من تعديلاتها، فيرضخ معظم الشعراء والملحنين لذلك. وفي حال الرفض، كانت تظهر مواهب أم كلثوم في قراءة الأشخاص، فتقوم بما يلزم لتخرج منتصرة، فقد تتمسك برأيها إلى درجة رفض العمل مع الشخص، كما حدث مع أحمد صدقي عندما رفض بشكل قاطع تعديل لحن بيت من قصيدة "أغار من نسمة الجنوب"، فأسندته إلى رياض السنباطي.
ولكنَّ هذا الأسلوب لم ينجح مع زكريا أحمد أو عبد الوهاب أو رياض السنباطي وأحمد رامي، لأنها كانت تراهم أكبر من أن تحتمل فقدانهم. ويمكن لنا أن نتخيل مدى التدخل من خلال تصريح شهير لمحمد الموجي، الذي قال إنّ مقطع "ما تصبرنيش" من أغنية "للصبر حدود" كان من ألحانه بالكامل من دون أي تدخل منها.
ويكفي لمعرفة مدى عنادها وقوة شكيمتها أن نعرف أن العمل مع منافسها الأقوى عبد الوهاب لم يتم إلا بتدخل مباشر من الرئيس جمال عبد الناصر.
أثر أم كلثوم في الموسيقى
لا شكّ في أن من يقوم بعمل عظيم كأم كلثوم ستكون له مواصفات نادرة قد تكون مكروهة أحياناً، لأن الأعمال العظيمة لا تهتم إلا بالتاريخ.
"الست" أثّرت في أسالييب التلحين، فالقصبجي أرسى قالب المونولج على يديها، ورياض السنباطي طور أساليب تلحين القصائد بسببها. أما عبد الوهاب، فطور استخدام الآلات معها، وبليغ حمدي قرب الأغنية أكثر من المزاج الشعبي، على الرغم من تراجع قدراتها الصوتية، وهو ما حدث مع رياض السنباطي في لحن "قصيدة الأطلال" التي راعى فيها ألا تتجاوز 9 نوتات شكلت المساحة الصوتية لأم كلثوم آنذاك.
عام 1973، توقفت أم كلثوم عن الغناء، ثم رحلت عام 1975 بعدما زرعت شجرة ما زلنا نقطف من ثمارها إلى اليوم.