أميركا .. الإمبراطورية التي تُخرج النيران من أذنيها
تسأل عالمة أنثروبولوجية أميركية عما إذا كانت هوليوود وحدها مسؤولة عن إنتاج عقدة التفوق ـ كحالة مرضية ـ لدى الأميركيين، وتتحدث عن "الأقانيم الثلاثة"، هوليوود ووول ستريت والبنتاغون. "من هنا تندلع الضوضاء (وألسنة اللهب) في العقل الأميركي".
من ألكسي دو توكفيل، المؤرخ الفرنسي صاحب "الديمقراطية في أميركا" ( (1835) الذي قال "لكأن ولادة أميركا الولادة الأخرى للعالم"، الى فرانز فانون، صاحب كتاب "معذبو الأرض" (1961) بتساؤله "ما هؤلاء البرابرة، بالعيون الزرقاء، وقد هبطوا من كوكب آخر، ليبنوا إمبراطوريتهم بعظامنا...؟".
هنا "الماكينة" الهائلة التي تصهر (أم تطحن ؟) كل أجناس الأرض، وكل ثقافات الأرض، وكل ديانات الأرض. ألهذا رأى أبراهام لنكولن "أننا مسؤولون عن الإدارة الأخلاقية للبشرية"؟ هو بالذات وصف ضباطه وجنوده الذين قادهم في الحملة ضد الولايات الانفصالية في الجنوب بأنهم "يحملون في أيديهم الإنجيل، ويفكرون بالقطن" الذي كانت قيمته، آنذاك، تكاد تعادل قيمة الذهب.
بديهي السؤال كيف لدولة فرضت أسلوب حياتها (Life Style)، وحتى فلسفة حياتها، على سائر المجتمعات الأخرى، من الكوكا كولا الى الجينز، ومن الروك اندرول الى الهوت دوغ، أن يكون لها وجهها الآخر، الوجه البشع؟
بابلو نيرودا قال: "كما لو أنك تغطي وجه الشيطان بزهرة الأقحوان".
"الشيزوفرانيا الخلاقة"
كلام عن "الشيزوفرانيا الخلاقة"، أي عن أميركا التي بوجهين، أو برأسين. الألماني غانترغراس، الحائز على جائزة نوبل في الآداب، وصفها بـ"الميدوزا"، الكائن الخرافي الذي تنبعث من رأسه الأفاعي.
ما أثار فرنسيس فورد كوبولا، مخرج "الرؤيا الآن" (Apocalypse now)، افتتان جون بولتون بآلهة الاغريق الذين كانو ينفثون النيران لإحراق البشر. سأل "أهذه رغبة ذلك الشرير تحويل البشرية الى رماد؟".
لعل دونالد ترامب كان يتصرف كآلهة الاغريق. في كتاب بوب وودورد وروبرت كوستا "Peril" يقول: "إذا كان لكائن بشري القدرة عل إخراج النيران من أذنيه فكان هو".
هذه هي أميركا - أيها السادة - الإمبراطورية التي تخرج النيران من أذنيها.
لكن البداية على الورق بدت فعلاً وكأنها الولادة الأخرى للعالم. هنا تتوقف ثقافة قابيل وهابيل، في معادلة القاتل والقتيل. ولكن ماذا كان يفعل الكاوبوي حين كان يقتحم الحانات الخشبية، ويطلق النار على كل من في داخلها، وهو في الطريق الى الذهب (الإلدورادو)؟
ألا يعامل الأميركيون شعوب ومجتمعات الدنيا كونها الحانات الخشبية على طريق الذهب، سواء كان الذهب على شكل الفحم الحجري أو كان على شكل النفط واليورانيوم؟
توماس جيفرسون، وأثناء صياغة الدستور، قال: "دعوا العالم يستشعر دبيب الملائكة بين السطور". أما الفيلسوف الفرنسي اليميني ريمون آرون فكتب في صحيفة "الأكسبرس" الفرنسية: "إن الله أرسل الى أميركا سبعة أنبياء دفعة واحدة"، هم واضعو الدستور (جون آدامز، جيمس ماديسون، الكسندر هاملتون، جون جاي، بنيامين فرنكلين، توماس جيفرسون وجورج واشنطن).
أيديولوجيا العبودية
غالبية المؤرخين الأميركيين رأوا في جورج واشنطن الذي قاد حرب الاستقلال "نائب السيد المسيح" (الوصف أطلق على رونالد ريغان في ثمانينات القرن العشرين). ولكن يبدو أن "ايديولوجيا العبودية" ظهرت في الولايات المتحدة منذ بدايات تشكلها في القرن الثامن عشر .
في 26 آب / أغسطس 2019، كتبت جيليان بروكلي في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية أن جورج واشنطن الذي أعلن، عام 1778، رغبته في التخلص من ملكية العبيد، لم يطلق أياً من عبيده حين صدر، عام 1782، تشريع يتيح ذلك. وكان الرئيس الأول للولايات المتحدة ينتمي الى عائلة ثرية ما مكّنه من امتلاك 84 عبداً من زوجته مارثا الثرية أيضاً، كما اشترى 71 عبداً، تاركاً وصية، قبيل وفاته، بتحرير 123 عبداً كانوا في عهدته .
ومن "مآثر" جورج واشنطن أنه أمر بجلد رجل مستعبد لأنه داس على العشب في حديقته، وكان يلاحق، ببندقيته، الهاربين منهم. كما أنه دأب على مدى السنوات التي سبقت ولايته الرئاسية على توسيع أراضيه بالاستيلاء على أراضي السكان الأصليين بأسعار زهيدة، في حين خاض معارك طويلة مع هؤلاء السكان لاقتلاعهم من أراضيهم .
واللافت أن الرجل الذي رفض تتويجه ملكاً على الولايات المتحدة (حتى أن بعض المؤسسين فكروا باستيراد أحد من أبناء الأسر المالكة في أوروبا)، أنشأ مصنعاً للخمور بعد انتهاء ولايته ما لبث أن تحوّل الى واحدة من أكبر الشركات في البلاد .
حتى أن توماس جيفرسون، الرئيس الأميركي الثالث، وبالرغم من تركيزه على "البعد الملائكي" في الدستور، ومن كونه الأكثر ثقافة بين أقرانه باتقانه خمس لغات، هو من أعدّ خطة إزالة قبائل الشيروكي والشون من أراضي آبائهم ونقلهم الى غرب الميسيسيبي عام 1779. ورغم كونه مؤيداً لحرية العبيد، لكنه امتلك الكثير منهم. كتّاب سيرته يؤكدون أنه كان غارقاً في الديون ما حمله على رهن عبيده بأوراق عقارية.
اللوثة الرومانية
كيف وصلت "اللوثة الرومانية" الى رأس جورج واشنطن الذي افتتن بعظمة الإمبراطورية الرومانية. وحين اختار التلة التي سيقام عليها مبنى الكونغرس، طلب من المهندسين اعتماد الطراز المعماري الروماني، ما انسحب على أبنية رسمية أخرى، منها المحكمة العليا .
جيفرسون، الكاتب الرئيسي لإعلان الاستقلال، أصرّ على إبدال تسمية "مجلس الكونغرس" بتسمية "الكابيتول هيل" لربط الموقع بمعبد جوبيتير القائم في "كابيتولينا هيل" (إحدى تلال روما)
ألم يقل المؤرخ جيمس شليسنجر ان الرئيس الأميركي رئيس في الداخل إمبراطور في الخارج. ثمة رؤساء أرادوا أن يكونوا الأباطرة في الداخل وفي الخارج. وقد وصفت وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت أميركا بـ"الأمة التي لا غنى عنها (Indispensable nation) ، فيما دافع الجنرال دوغلاس ماك آرثر، بطل الباسيفيك الذي استسلم الإمبراطور الياباني هيروهيتو بين يديه، عن قرار الرئيس هاري ترومان بإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي بالقول "لو هزمت أميركا لانتهى العالم".
ولعله لهذا السبب بعث برقية عاجلة الى البيت الأبيض بإلقاء القنبلة الثالثة على القوات الصينية، والقوات الموالية لها، إبان الحرب الكورية (مطلع خمسينات القرن المنصرم)، ما حمل ترومان على استدعائه في الحال وتعيين الجنرال ماتيو ريدغواي مكانه خشية أن يضرب الفيروس النووي أدمغة الجنرالات، بحيث تمكن رؤية الأميركيين، إذا ما حدث أي صدام، يتراشقون بالأسلحة النووية في شوارع نيويورك؟
النزعة الهيستيرية للسيطرة على العالم
المشكلة الكبرى في النزعة الهيستيرية للسيطرة على العالم. دائماً بمنطق القوة، حتى وإن قالوا "لم نكن بحاجة الى الصواريخ العابرة للقارات لتقويض الإمبراطورية السوفياتية. كانت شفتا مارلين مونرو كافيتين لفعل ذلك".
المؤرخ البريطاني – الأميركي بول كنيدي، صاحب "غروب الإمبراطوريات" حذّر من أن الغطرسة غالباً ما كانت السبب السيكولوجي لسقوط الإمبراطوريات، ليقول "عادة يعلّم التاريخ الأباطرة كيف يكونون حمقى".
كراهية التاريخ
غير أن الأميركيين يكرهون التاريخ. فرنسيس فوكوياما لم يكن الأول الذي تحدث عن "نهاية التاريخ"، وحتى عن "نهاية الأيديولوجيا"، ليتراجع لاحقاً بعدما شغل، بنظريته العقد الأخير من القرن العشرين.
جيمس مونرو الذي أطلق "مبدأ مونرو"، عام 1823، انتقد بشدة "ذلك التاريخ الأعمى في أوروبا". من هنا كان إغلاقه أبواب بلاده أمام من "احترفوا الاستهلاك الدموي للتاريخ".
ولكن ألا يصنع الأميركيون "ذلك التاريخ الأعمى"؟ عالم السياسية البروفسور الفرنسي ريجيس دوبريه، رفيق تشي غيفارا في أدغال بوليفيا، كتب "من هناك، من أميركا، بدأ خراب العالم".
روبرت كاغان، أحد منظري المحافظين الجدد، فاخر بأن أميركا "في كل مكان". ابتكر وصفاً في منتهى الفظاظة. "آلهة كل الأمكنة"، بعدما قال "نحن أبناء المريخ، والأوروبيون أبناء الزهرة" (فينوس)".
كيف تحول الحلم الأميركي إلى حطام؟
ذات حلم ... ذات أميركا. نستذكر الصرخة الشهيرة لمارتن لوثر كينغ (8 آب / أغسطس) عند نصب أبراهام لنكولن في واشنطن قائلاً: "لديّ حلم". قبل أن تكتب توني موريسون، الزنجية الحائزة على جائزة نوبل في الآداب، عن "الحلم الذي حطمته أحذية الآلهة"، حتى إذا ما وقعت حادثة بورتلاند حين ضغط شرطي أبيض بركبته على عنق رجل أسود حتى الموت، قال المفكر الأميركي ناعوم تشومسكي: "في تلك اللحظة بدت أميركا وكأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة".
تحدث تشومسكي عن "ورثة البربرية البيضاء"، الآباء الذين كانوا يزوّدون الهنود الحمر ببطانيات الصوف الملوثة بفايروسات الطاعون والجدري والحصبة والكوليرا .
لعلنا نذكر ردات فعل "النخب البيضاء" على انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة. وكان صمويل هانتنغتون، صاحب كتاب "صدام الحضارات" قد بدا وكأنه يتقمص شخصية أدولف هتلر حين دق ناقوس الخطر "لأن الملوّنين يزحفون على السلطة في أميركا"، كما لو أن البيض هم السكان الأصليون، ولم يقتلعوا أهل الأرض من جذورهم، ولم يحرقوا قراهم.
الصراع مع الجرذان
كتب تشومسكي عن "المفارقات الثقافية المدمّرة"، وكيف أن البيض، أو بعضهم أو أكثرهم، يتعاملون مع السود كونهم طارئين على الواقع الأميركي، وهم الذين "آباؤهم مثل آبائنا أتوا بالسفن الى هنا"، ليسأل "أي فارق بين الذين أتوا على متن السفن وأولئك الذين أتوا في قعر السفن، يمضون تلك الليالي الطويلة، والمضنية ، وهم يصارعون الجرذان؟".
إمبراطورية سريالية! من يستطيع أن يفهم أميركا؟ إسألوا الشيطان، ولسوف ترونه وهو يقلب شفتيه. من زمان تحوّل "الحلم الأميركي" الى "اللغز الأميركي".
السفيرة نيكي هايلي، وهي من أصل هندي أميركي، والتي تجرّ وراءها سلسلة من النجاحات في الادارة، وفي الديبلوماسية، أبدت رغبتها في الترشح للرئاسة. ربما كانت عظام هانتنغتون تهتز. جنيفر لوبيز علقت ساخرة "لسوف أزرع زنبقة سوداء على قبره".
أحد تلامذته جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، وصاحب كتاب "مأساة القوى العظمى"، يكاد يرثي أميركا "التي تفلت من أيدينا". إلى يد من تذهب؟
هل هو الحلم الأميركي الذي تحطم أم هي الروح الأميركية التي تحطمت؟ بنيامين فرنكلين، إبن الحداد الذي تألق في السياسة، وفي الفلسفة، وفي العلم (مخترع مانع الصواعق)، كما في الرهافة الأخلاقية، دعا الى "بناء الروح الأميركية". لا شك أنه يخجل الآن من تعليق صورته في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض. أين هي الروح الأميركية؟ فيدل كاسترو قال: "لم يعد هناك سوى الأرواح الشريرة".
مستوطنات توراتية في اللاوعي الأميركي
لمحة عن التقاطع بين المسار اللاهوتي والمسار السياسي للولايات المتحدة. ثمة هزة أيديولوجية حدثت في النصف الثاني من القرن السابع عشر حين هاجر البيوريتانز (الطهرانيون) من إنكلترا على متن السفينة "ماي فلاور" إلى العالم الجديد. تمثلوا العهد القديم، بكل طقوسه فور أن وطأوا تلك الأرض، وتمكنوا من نشر أفكارهم الى حد الحديث عن "مستوطنات توراتية" في اللاوعي الأميركي .
نعلم كيف استطاع اليهود التسلل الى "المنطقة اللاهوتية" في الشخصية الأميركية. "البيوريتانز" انقضّوا على مجتمع في طور التشكّل السوسيولوجي، والثقافي، لتظهر، تدريجاً، "الصهيونية المسيحية"، وكانوا قد وصفوا إنكلترا، بعدما انتزع كرومويل السلطة من الملك، عام 1646، بـ"إسرائيل البريطانية"، أو بـ"صهيون الإنكليزية"، كما وصفوا أنفسهم بـ"أبناء اسرائيل".
ولتبيان مدى التأثير التوراتي في عقول الآباء المؤسسين، اقترح جيفرسون شعاراً للدولة مستوحى من العهد القديم (بنو إسرائيل وفوقهم غيمة تقيهم لهيب الصحراء، إضافة الى عمود من النور يضيء لهم الليل) بديلاً من النسر الأصلع. وفي عام 1816، بعث الرئيس الثاني جون آدامز برسالة الى صديقه اليهودي موردخاي نواه تمنى فيها أن تكون هناك دولة يهودية في منطقة "اليهودية" في فلسطين .
في مذكراته، كتب ناحوم غولدمان، وهو أحد آباء الكيان الإسرائيلي، كما هو أحد مهندسي اتفاقية كمب ديفيد، "لولا الرئيس وودرو ويلسون (صاحب مشروع "عصبة الأمم) كان من المستحيل إصدار وعد بلفور".
نشير الى كلام هاري ترومان الذي اعترف بـ"إسرائيل" بعد ربع ساعة من إعلان قيامها قائلاً: "أنا قورش ... أنا قورش"، في استعادة لإنقاذ اليهود من السبي البابلي"، ليضيف "المسيح حين كان على الأرض لم يستطع إرضاءهم، فكيف يمكن لأحد أن تكون لديه مثلي هذه الفرصة؟".
مناحيم بيغن كتب في مذكراته أن ترومان قال له: "لو كنت في أرض فلسطين لألتحقت بالمنظمات الصهيونية" (الهاغانا، الإرغون، شتيرن ...) .
وقائع مثيرة في هذا السياق. أول أطروحة دكتوراه في جامعة هارفارد كانت بعنوان "اللغة العبرية هي اللغة الأم"، وأول كتاب صدر في أميركا كان "سفر المزامير"، وأول مجلة كانت "اليهودي".
هل تقفل الصين المحيط الهادئ في وجه أميركا؟
نشرت أبحاث كثيرة على ضفتي الأطلسي حول "الزلازل التي تنتظر أميركا". العالم الذي كرّسه مؤتمر يالطا (1945)، وصولاً الى مؤتمر هلسنكي (1975)، يتغير. ثمة إمبراطوريات أخرى، وأسواق أخرى، تمكنت من اختراق التابو الأميركي. لاحظنا كيف اهتز البيت البيض من المنطاد الصيني .
صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تتحدث عن "التنين المجنح". الجنرال السابق في سلاح الجو مايكل مينيهان الذي توقع اندلاع الحرب مع الصين عام 2025، تساءل عن "تلك الجهنم التي على المفترق". إذ اعتبر أن الصين الآن غير اليابان في الأربعينات من القرن المنصرم، هاله أن "نفاجأ، ذات يوم، بالصينيين يقفلون المحيط الهادئ في وجهنا ".
هذه هي الزلازل التي تنتظر الولايات المتحدة
المثير هنا أن أكثر من باحث استراتيجي ألمح الى هذا الاحتمال الخطير. جورج فريدمان، صاحب "المائة عام المقبلة"، ينقل عن ديبلوماسي صيني اعتقاد القيادة في بلاده أن أميركا، بحربها في أوكرانيا، إنما تغزو روسيا، حتى إذا ما تسنى لها تفكيك الاتحاد هناك، انبرت لمحاولات احتواء الصين .
فريدمان، كخبير استخباراتي، لا يستبعد أن "نكون ذهبنا بعيداً في الخطأ"، متسائلاً ما إذا كان الصينيون يراهنون على "استنزافنا في الشرق الأوروبي في حين أن الصراع الحقيقي هو في الشرق الآسيوي"، و"لكن أي طريق آخر غير تدمير روسيا نووياً يمكن أن ينقذنا من الحرب الدائرة حالياً ؟".
ليس هذا فقط ما يحمل المؤرخ إريك فونر على الكتابة، بسوداوية، عن "الضياع الأميركي". لاحظ ألاّ أحد داخل الاستبلشمانت يتوقف عند"التفاعلات الجيوجولوجية داخل مجتمعنا"، معتبراً أن اقتحام الكونغرس، في 6 كانون الثاني / يناير 2021، "يفترض بالسلطات العليا أن تفكر بوجودنا في أميركا قبل أن تفكر بوجودنا في العالم".
هوليوود - وول ستريت - البنتاغون
هنا التوترات السوسيولوجية والتوترات السوسيوسياسية التي تعكس، بنيوياً، حدود الأزمة. يكاد لا يمر شهر واحد من دون أن نشهد تلك المظاهر الهيستيرية للقتل بالدم البارد، سواء حدث ذلك في مدارس الأطفال، أم في المجمعات التجارية، أم في الشوارع. القتلة كما لو أنهم خرجوا، للتو، من أحد الأفلام الهوليوودية، وحيث التكريس، بل التقديس، لثقافة القوة.
سابين هايلاند، العالمة الأنثروبولوجية الأميركية، تسأل ما إذا كانت هوليوود وحدها مسؤولة عن إنتاج عقدة التفوق ـ كحالة مرضية ـ لدى الأميركيين. لا شك أن المختبرات ومراكز الأبحاث قد حققت إنجازات أسطورية في العالم التكنولوجي، والى حد قول المؤرخ العسكري شالمرز جونسون "قريباً، مصعد إشعاعي إلى العالم الآخر".
هايلاند تحدثت عن "الأقانيم الثلاثة"، هوليوود ووول ستريت والبنتاغون. "من هنا تندلع الضوضاء (وألسنة اللهب) في العقل الأميركي".
عودة الى فونر الذي يحذر من أن ثمة أدمغة هائلة داخل الاستبلشمانت مستعدة لتحويل الكرة الأرضية الى "أرض يباب" (عنوان القصيدة الشهيرة لـ إس. إليوت). تماماً "كما ألقوا بالحلم الأميركي، وبالروح الأميركية، في صندوق القمامة للبقاء في مقصورة القيادة".
هؤلاء يعتبرون أن الإمبراطورية تتحلل ذاتياً إن هي انتقلت الى الدرجة الثانية. رفض مطلق لعالم متعدد الأقطاب، وإصرار على عالم القطب الواحد الذي أعلنه الرئيس جورج بوش الأب كنظام عالمي جديد، غداة زوال الإمبراطورية السوفياتية، ليعقّب زبيغنيو بريجنسكي بالقول: "بل الفوضى العالمية الجديدة".
لا أحد من نجوم الإدارات المتعاقبة التفت الى قول روبرت أوبنهايمر الذي اقتبسه من الكتاب الهندوسي المقدس (البهاغافاد غيتا)، وهو يذرف دموعه حين أصبحت القنبلة النووية بين يديه "الآن، أصبحت أنا الموت، مدمر العالم (I become the death ، the destroyer of the worlds ).
في نظر الكثيرين على امتداد البشرية أن أميركا تطرح نفسها هكذا: "أنا أصبحت الموت، مدمر العالم".
عبقرية الغباء
لافت كلام جوزف ستيغليتز (الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد) والذي تنبأ بالأزمة المالية عام 2008، عن "عبقرية الغباء"، معتبراً أن الأغبياء يقودون العملية الاقتصادية في الولايات المتحدة، إذ لا بد من التفاعل مع اقتصادات وأسواق الأمم الأخرى، ما يدعوه "الموازاة في الإيقاع". قال: "مهما بلغنا من التفوق التكنولوجي، نبقى جزءاً من هذا العالم، ولا أعتقد أننا نخطط لنبيع منتجاتنا لسكان المريخ".
مثلما أن الولايات المتحدة هي القطب الوحيد على المستوى الاستراتيجي، نجد لديها إصراراً على الاستقطاب الاقتصادي (وسحق اقتصادات الآخرين كما يحدث في صفقات الأسلحة الهائلة مع جميع الحلفاء). ستانلي فيشر، النائب السابق لرئيس مجلس الاحتياط الفديرالي وحاكم البنك المركزي الإسرائيلي لاحقاً، رأى "أن دور الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي ومؤسساته، دور المرساة للسفن في المرافئ".
ولكن ألم تتحدث صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية عن العاصفة التي تهب من وادي السيليكون، حيث تضطر المؤسسات المتخصصة في تقنية البرمجيات والبحث والتواصل (مثل غوغل، وآمازون، وميكروسوفت...) إلى تسريح عشرات آلاف العاملين لديها، مع توقع حصول "تصدعات دراماتيكية" في المسارات السوبرتكنولوجية التي يفترض أن تستكمل ما قامت به الشبكة العنكبوتية (الانترنت) من تغيير الكثير من المفاهيم الكلاسيكية للحياة في أصقاع الدنيا .
"إلهة كل الأمكنة". الميتولوجيا الأميركية تموت، كما سائر الميتولوجيات الأخرى، في الزمن. ألهذا يسعى الأميركيون الى حقبة ما بعد الزمن؟!