"أرض البرتقال الحزين".. يافا من حكم أبو نبّوت حتى النكبة
ككل المدن الفلسطينية، كانت يافا تعجّ بالحياة، ولعل برتقالها الشهير لم يزل شاهداً حياً على تاريخ أهلها. تعالوا نتعرف إلى يافا قبل النكبة.
يبلغ عدد الكتب والدراسات والأعمال الأدبيّة، بمختلف أنواعها، حول مدينة يافا الفلسطينيّة، وعدد المرّات التي يُذكر فيها اسم يافا، كتابةً أو نطقاً، وفي وثائق المؤرّخين والرحّالة والمستشرقين، وكلّ أولئك الذين عرفوها، أكثر بكثير من عدد المستوطنين وقوّات الاحتلال التي سلبتها من الفلسطينيين، سنة النكبة، وظلّت تحاول على مدى عقود طمس هويتها ومعالمها وأسمائها وكلّ ما فيها.
لكنّ كتب التاريخ، بقيت دائماً، واقفة على الطرف الآخر، وعناوينها لوحدها تُعَد رداً مناسباً على ادّعاءات الاحتلال الإسرائيلي. نرصد في هذه المقالة تاريخ يافا في العصر الحديث، معتمدين ملف محمود يزبك في مجلة الدراسات الفلسطينية "يافا ما قبل النكبة، مدينة تنبض بالحياة"، لأنه يرجع فيه إلى سجل محكمة يافا الشرعية وعشرات المراجع الموثوقة حول المدينة. أما تاريخ المدينة منذ القدم فيمكن العثور عليه في الكتاب التفصيلي "مدينة يافا في ذاكرة التاريخ" لأحمد زكي الدجاني، الذي رجعنا إليه أيضاً في التأريخ ليافا في العصر الحديث.
حكم أبو نبّوت
بحسب الدراسات، يؤرّخ ليافا في العصر الحديث بجريمة جيش نابليون بونابرت حين احتلها لفترة قصيرة في 6 آذار/مارس 1799، إذ خرّبها وهجّر سكّانها ونكبها، ويقول كاتب اليوميات المصري عبد الرحمن الجبرتي في "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" إنّ المذبحة التي ارتكبها الفرنسيون أودت بحياة 4 آلاف إنسان.
بدأت يافا بالتطوّر منذ أواسط القرن الثامن عشر، وأخذت مكانتها التجارية شرقيّ البحر الأبيض المتوسط، ثم نُفي تجارٌ كثر منها إلى مصر حين غزاها نابليون ونهبت مخازنهم، إلى أن رممت السلطات العثمانية المباني التي دُمّرت، ولا سيما قلعة المدينة. حين تعافت يافا من الغزو، عانت من جديد من جرّاء صراع على السلطة بين أحمد باشا الجزار ووريثه والي عكا سليمان باشا، وبين حاكم يافا محمد أبو المرق. ويذكر المؤرّخ لوتسكي كلّ هذا في كتابه "تاريخ الأقطار العربية الحديث".
انتهى الصراع سنة 1805 بتولّي محمد أبو نبّوت حكم يافا، الذي وضعها في مسار التطوّر والتغيّر لتصبح من أهم مدن الساحل السوري عامةً والفلسطيني خاصة، وبقي في الحكم حتى سنة 1819. سعى خلال حكمه لرفع مكانته الإدارية من متسلّم المدينة ليصبح والياً ولتغيير مكانة يافا من متسلّمة تابعة لعكا إلى مركز لولاية قائمة بذاتها وتابعة لإسطنبول مباشرة. كما شهدت يافا في عهده تغيّراً واضحاً في معالمها العامة وفي مظهرها وأبنيتها وزخرفتها، ومن أشهر آثار أبو نبوت: المقبرة الإسلامية، سبيل المحمودية المعروف باسم السبيل الجواني، سبيل الشفاء المعروف بالسبيل البراني، إعادة بناء جامع يافا الكبير، إنشاء مكتبة ومدرسة جامع يافا الكبير، وغير ذلك الكثير.
الأمن والعمران اللذان شهدتهما المدينة، شجّعا السكان على العودة إليها، مع عدد من المهاجرين أيضاً. وتكوّنت داخل أسوار يافا مجموعة من الحارات أشهرها حارات: القلعة والشيخ إبراهيم والنقيب والبرج والنصارى والروم ورسلان البكري والأشرفية والحشاش والزنط والشيخ جمعة.
كما تشير المراجع إلى إحياء المرافق الاقتصادية التي كانت في المدينة قبل احتلال نابليون، وبدأت دول أجنبية تعيّن قناصل لها في يافا لرعاية مصالحها التجارية المتزايدة.
يافاوي يا بردقان
منذ مطلع القرن التاسع عشر تبلورت معالم يافا الرئيسية في فرعين هما الميناء بصفته معبراً للداخل الفلسطيني، وزراعة البيارات وتجارة الحمضيات، والبرتقال بصورة خاصة.
شكّلت البيارات أهم استثمارات تجار يافا، وامتدت فروع الشبكات التجارية ما بين موانئ دمياط ويافا وإسطنبول، ووجدت حمضيات يافا طريقها إلى الأسواق المصرية.
تركّزت أغلبية بيارات تجار يافا في بدايات القرن التاسع عشر على مقربة من نهر العوجا، إلى جوار المناطق الواقعة تحت سيطرة قبيلة أوكشك، أقوى قبائل المنطقة في تلك الفترة.
مع بدء سيطرة إبراهيم باشا على فلسطين سنة 1830، وصل حكم الأسر المملوكية إلى نهايته. خلال فترة الحكم المصري (1830-1840) ازدادت أعداد المهاجرين إلى يافا وانضم عدد كبير من الفلاحين المصريين، وظهرت قرى جديدة خارج أسوار البلدة القديمة، أُطلق عليها اسم السكنات، أشهرها: العبيد، إرشيد، العجمي، المسلخ، الجبلية، أبو كبير، درويش (أبو طه)، الحلوى، العراينة، الدنايطة، تركي، السبيل، الهريش، المطرية، أبو رفاعي، المنشية، حمّاد، صميل، تل الرشيد، كرم التوت، الغزازوة. ومع مرور الزمن أصبح بعضها من أحياء يافا وقد دمّرتها "إسرائيل" بعد النكبة. (وُلد والد كاتب هذه المقالة سنة 1947 في واحد من أحياء يافا، أي قبل قيام إسرائيل بسنة).
بعد رحيل الحكم المصري سنة 1840 عن فلسطين أصبح برتقال يافا منتوجاً تسويقياً أساسياً جرى تصديره إلى السوق المصرية وأسواق الأناضول. عند النظر إلى المادة الإحصائية المتوفّرة بشأن تصدير البرتقال منذ أواسط القرن التاسع عشر نجد أنه سنة 1856 جرى تصدير نحو 20 مليون حبة، وسنة 1873 بلغ عدد البيّارات التابعة ليافا 420 بيّارة أنتجت نحو 33,3 مليون حبة برتقال. ومنذ سنة 1875 صدّرت يافا كميات كبيرة إلى أوروبا (فرنسا، ألمانيا، النمسا، روسيا)، ازدادت حين بُدئ بتغليف البرتقال وتعبئته في صناديق خشبية للحفاظ عليه، وقُدّر إنتاج يافا سنة 1880 بـ 36 مليون حبة برتقال.
منذ خمسينيات القرن التاسع عشر توالت طلبات تجار يافا والقدس لإنشاء طريق عامة بين المدينتين، وبدأ ذلك سنة 1867، كما بُدئ العمل على خط سكة حديد بين المدينتين سنة 1890.
هذا النمو المستمر للتجارة، ولا سيما البرتقال، أنعش يافا، الأمر الذي أدى سنة 1874 إلى إزالة جميع الأسوار والدفاعات التي أحاطت بها وبيع حجارتها لإنشاء الأبنية التي أقيمت على امتداد شارع الحلوة الناشئ سنة 1875، وأصبح هذا الشارع المركز التجاري الجديد ليافا.
تشير التقارير إلى أن منطقة البيارات المحيطة بيافا اتسعت من 7500 دونم سنة 1890 إلى 12 ألف دونم سنة 1904، وإلى أكثر من 30 ألف دونم سنة 1914. بموازاة ذلك كان ارتفاع عدد صناديق البرتقال المصدّرة من يافا مثيراً، من 260 ألف صندوق سنة 1895، إلى 500 ألف سنة 1905، إلى 1,5 مليون في موسم 1913-1914.
احتفالات النبي روبين
انعكس موقع يافا الاقتصادي في مجمل مجالات الحياة، ولا سيما في النواحي الاجتماعية والثقافية. وشكّلت زيارة وموسم النبي روبين مظهراً وموروثاً اجتماعياً وثقافياً عكس مدى الانفتاح ليافا قبل النكبة، وأصبحت أكثر المقولات شهرة فيها "يا بتروبني يا بتطلقني". كان الموسم يمتد على مدار شهر كامل، يتوافق موعده مع نهاية قطف البرتقال، ويشارك فيه الآلاف. كما كانت الفرق المسرحية تقدّم عروضها، وقد جاءت فرق من بيروت ودمشق والقاهرة لهذا الغرض.
ومنذ ثلاثينيات القرن العشرين بدأ عرض أفلام سينمائية في الهواء الطلق، كما شارك في الموسم مشاهير المطربين من مصر ولبنان وأنحاء فلسطين، وقد كتبت سلوى أبو الجبين عن الموسم في مذكّراتها "شهادة طالبة من يافا".
انقطع الموسم بعد نكبة فلسطين، وبعد تعرّض يافا واللد والرملة وألويتها لتطهير عرقي، وجرى طرد أكثر من 97% من سكانها إلى خارج حدود فلسطين، واستولت مجموعة يهودية على مقام روبين وهوّدته، أما المسجد المجاور فتهدّم ولا تزال بعض آثاره قائمة.
يافا، عاصمة الثقافة
ربط كلّ من الميناء والقطار يافا بالعالم الخارجي والداخلي، علاوة على تنوّع الثقافات واللغات بين سكانها. ومنذ أواخر العهد العثماني أُنشئت في يافا مجموعة كبيرة من المؤسسات والجمعيات الثقافية والأدبية.
من هذه النوادي نذكر "النادي الرياضي الإسلامي" الذي أقيم سنة 1926 وكانت فاعليته في أغلبها أدبية، وزاره العديد من شعراء الوطن العربي من العراق ومصر وسوريا ولبنان، إلى جانب "نادي الشبيبة الأرثوذكسية" وهو نادٍ رياضي ثقافي تأسس سنة 1924، فاز فريقه لكرة القدم بلقب بطل أندية فلسطين.
كما كانت هناك جمعيات مشهورة مثل "جمعية الشبان المسلمين" و"النادي العربي" و"نادي الطلبة" و"النادي الأولمبي" و"نادي الشباب" و"المنتدى الأدبي" والعشرات غيرها. إضافة إلى عشرات الجمعيات النسائية مثل "جمعية النساء الأرثوذكسية" و"جمعية التضامن النسائي" و"جمعية السيدات العربيات" و"جمعية النساء الوطنية" و"جمعية الرابطة العربية النسائية" وغيرها.
في السياق نفسه، ظهر أول المسارح في يافا في أواخر القرن التاسع عشر مثل "مسرح الزرافية" و"مسرح قهوة البنور" و"مسرح الباريزيانا" و"مسرح مقهى الحلواني"، ومنذ عشرينيات القرن العشرين ظهرت مسارح جديدة شكّلت أيضاً دور عرض لأفلام السينما، منها "دار سينما الطوبجي" و"سينما الحمراء" و"سينما نبيل" و"سينما أبولو" و"سينما الشرق" و"سينما الرشيد" و"فاروق والصلاحي" وغيرها.
أدت يافا أيضاً دوراً مهماً في مجال الصحافة الفلسطينية، وكانت جريدة "الترقي" أولى الصحف التي صدرت فيها سنة 1907، تبعتها مجلة الأصمعي 1908، وجريدتا الاعتدال والحرية 1910، كما صدرت جريدة "الأخبار" الأسبوعية سنة 1911، إلى جانب أهم الصحف الفلسطينية وهي صحيفة "فلسطين" التي أسسها عيسى ويوسف العيسى، واستمرت في الصدور حتى سنة النكبة، ثم عادت سنة 1950 في مدينة القدس ولاحقاً في عمان.
ما بين 1910 وسنة النكبة، إجمالاً، صدر في يافا نحو 50 صحيفة ومجلة، رافقها ظهور مجموعة كبيرة من دور النشر والمطابع الحديثة وصل عددها ما بين 1918 و1948 إلى 38 مطبعة ودار نشر. ترافق هذا مع انتشار أوسع للمكتبات مثل "المكتبة العصرية" و"مكتبة السفري" و"الطاهر" و"فلسطين العلمية".
اكتملت حياة يافا الثقافية بعشرات المقاهي التي غنّى في قاعاتها محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ومعظم رموز الغناء والطرب في تلك الفترة. (جمع علي البواب في موسوعته أسماء 75 مقهى عملت في يافا قبل سنة النكبة).
توقّف نبض الحياة في يافا عندما احتلتها القوات الإسرائيلية سنة 1948، ونُكبت المدينة كباقي فلسطين، وعملت المؤسسة الصهيونية على تهويدها ومحو ماضيها، كأنّ يافا لم تكن يوماً هناك.