آرثر رامبو.. الشاعر المتمرد ما زال هنا
عرف بتمرده منذ الصغر وطلب نسخةً من القرآن وهو على سرير الموت.. من هو رامبو؟ وهل اعتنق الإسلام؟
تخلى آرثر رامبو (1854- 1891)، الشاعر الجميل الملعون، عن مَلَكَة الشعر وهو لا يزال في مقتبل العمر، ولم تكتشف فرنسا موهبته العظيمة إلا بعد رحيله عن عالمنا، ليتحوّل إلى أسطورةٍ في عالم الأدب. عُرِف رامبو بتمرده وتحرره منذ الصغر، فثار على العادات والتقاليد البالية، وعلى رجال الدين والبورجوازية والسلطة السياسية، وعلى النفاق الاجتماعي كذلك.
رفض رامبو القِيّم الغربية، وارتبط بالشرق بعلاقة حب وهيام غريبة، حتى أنّه قضى الشطر الثاني من حياته يطوف بلدانه، قائلاً عنه في إحدى قصائده:
لقد أرسلتِ الشياطين إلى الشرق أكاليلَ الشهداء وإشعاعات الفن وكبرياء المبدعين...
سأعود إلى الشرق، إلى موطن الحكمة الأبدية الأولى
طفولة قاسية وذهن متوقّد
وُلِد آرثر رامبو في 20 تشرين الأول/أكتوبر من العام 1854، في عائلة بورجوازية محافظة في مدينة "شارلفيل"، شمالي شرقي فرنسا، وهو الولد الثاني بين 5 أبناء. كان والده عسكرياً في الجيش الفرنسي، أما أمُّه فتتحدر من عائلة من الفلاحين أصحاب الأراضي في الريف الفرنسي. هجر والده الأسرة في العام 1861، فقامت والدته، وهي سيّدة قاسية وجامدة ومتزمتة جداً من الناحية الدينية، بتربية أطفالها وفقاً لمبادىء صارمة للغاية. وقد ترك هجر الأب للعائلة تأثيراً كبيراً على رامبو، ورافقه الإحساس بالوحدة وعدم الأمان الناتج عن ذلك طوال حياته.
كان آرثر طالباً نموذجياً، ومحطَّ إعجاب الأساتذة خلال سنوات دراسته، بفضل توقّد ذهنه وتمتّعه بذكاء شديد وقدرته المُدهشة على تطويع اللغة. أبدع في اللغة اللاتينية، وحصل على جوائز عدّة لتميّزه في الأدب. في العام 1870، عُيِّنَ جورج إيزامبارد أستاذاً للبلاغة في مدرسة "شارلفيل"، وكان لهذا الأستاذ تأثيرٌ سحريٌّ على مستقبل رامبو الشعري، بفضل تشجيعه له وإيمانه بموهبته.
فتح الأستاذ مكتبته لرامبو، وأعاره العديد من الروايات والكتب، التي اكتشف رامبو من خلالها المذهب "البارناسي"، وتعرّف على أشعار لوكونت دو ليزل، ثيودور دو بانفيل، وبول فيرلين، قبل أن يبدأ بنشر قصائده الأولى في المجلات الفرنسية.
الهرب إلى باريس ثم خارج فرنسا
في شهر آب/أغسطس من العام 1870، اندلعت الحرب البروسية الفرنسية، وحاصرت القوات البروسية العاصمة باريس.
ترافق ذلك مع اندلاع ثورة شعبية سُمِّيت بـ"كومونة باريس" (La commune de Paris)، وهي تُمثّل أول ثورة اشتراكية في التاريخ.
انجذب رامبو إلى الأفكار الثورية التي ينادي بها العمال والطبقات الشعبية، وقرّر التخلّي عن دراسته والهرب من مدينته الرتيبة "شارلفيل" التي كان يضيق بها ذرعاً، ليقصد باريس ويلتحق بالثورة، وكان يبلغ حينها 16 عاماً فقط.
لكن سرعان ما ألقي القبض عليه في إحدى محطات القطار بتهمة التشرّد، بسبب عدم امتلاكه تذاكر أو أموال، وتمَّ زجّه في السجن. تدخّل أستاذه إيزامبارد لصالحه، ودفع له الكفالة فأطلق سراحه.
لكنَّ "كومونة باريس" فشلت، وأجهضت ثورة المتمردين، فشعر رامبو بخيبة أمل بسبب تغيُّر الوضع السياسي في البلاد.
بعد مدّةٍ وجيزةٍ قرَّر الهرب مجدداً إلى بلجيكا، والتسكّع في بلدان أوروبا الأخرى. في أيار/مايو 1871، أرسل رامبو إلى صديقه بول ديميني رسالةً مهمّةً، تحوّلت في ما بعد إلى بيانٍ حقيقي للشعر الحديث، لأنّه عبّر فيها عن نظريته الشعرية، التي تقول إنَّ على الشاعر أن يصل إلى مرحلة الرؤيا، وأن يغدو رائياً أو متنبئاً من خلال تحرير حواسه: "يستطيع الشاعر أن يصبح رائياً، بفعل اضطراب طويل وهائل لجميع الحواس".
رامبو وبول فيرلين.. علاقة مثيرة للجدل
تعتبر العلاقة بين آرثر رامبو وبول فيرلين أشهر علاقة عاطفية في عالم الأدب، وقد أثارت فضيحة مُدوّية في ذاك العصر.
بدأت هذه العلاقة حين أرسل رامبو، بناءً على نصيحةٍ من أحد معارفه، مجموعةً من قصائده للشاعر الرمزي الشاب بول فيرلين. عندما قرأ فيرلين قصائد رامبو تأثّر بها، وكتب له رسالةً يدعوه فيها إلى زيارته، قائلاً له: "تعالَ أيتها الروح العظيمة، نحن ندعوك، نحن بانتظارك".
ذهب رامبو للقاء فيرلين، مصطحباً معه قصيدته الشهيرة "الزورق المخمور". أعجب فيرلين كثيراً بالشاعر الشاب الوسيم وبموهبته، وقرَّر استضافته ومنحه مكاناً للإقامة لدى أهل زوجته ماتيلد. إذ إنّ فيرلين كان متزوجاً حينها ولديه طفل صغير.
لكنَّ وجود رامبو أزعج كثيراً زوجة فيرلين، بسبب سلوكه السيئ وطبعه النَّزق العنيف. في المقابل، تعلّق فيرلين بالشاعر الشاب، ووقع في غرامه، وبدأت بينهما علاقة أثارت حنق العائلة والمقربين. بالغ فيرلين في إهمال حياته الأسرية، وتردَّد مع رامبو على بارات الحي اللاتنيني في باريس، حيث قضيا معظم الوقت يكتبان الشعر ويشربان الكحول.
هرب رامبو وفيرلين إلى بروكسل في العام 1872، ثم إلى لندن، وعاشا حياةً بوهيميةً، واضطرا لإعطاء دروسٍ في اللغة الفرنسية ليكسبا معيشتهما. لكنَّ هذه العلاقة تدهورت مع الوقت بسبب سلوك رامبو المشين والعنيف، وتعمُّده توجيه الإهانات اللفظية إلى فيرلين، بالإضافة إلى الغيرة القاتلة عند هذا الأخير.
في 8 أيار/يوليو 1873، تواجد الثنائي في بروكسل مجدداً، وتشاجرا لأنَّ فيرلين كتب رسالةً إلى زوجته يطلب فيها أن تسامحه، فقرر رامبو أن يهجره ويسافر. غضب فيرلين بشدّة وأطلق عليه النار من مسدس حربي (أصبح أشهر مسدس في تاريخ الأدب على الإطلاق)، لكن لحسن الحظ كانت إصابة رامبو طفيفة.
دفع الخوف رامبو إلى إبلاغ الشرطة بما حدث، فتمَّ اعتقال فيرلين. وعلى الرغم من تنازل رامبو عن القضية في ما بعد، فقد حكم القضاء البلجيكي على فيرلين بالسجن مدة عامين، وكان اكتشاف العلاقة بينهما سبباً أساسياً في تشديد الحكم. استغلّ بول فيرلين فترة السجن ليكتب أروع قصائده، كما كتب رامبو في فترة الفراق ديوانه الشهير "فصل في الجحيم"، الذي عبّر فيه عن معاناته من علاقته بفيرلين.
بقي الشاعران على تواصل على الرغم من هذه الحادثة، وأرسل رامبو لفيرلين نسخةً من ديوانه "فصل في الجحيم" إلى السجن، وكتب على الغلاف جملة "من دون ضغينة". أكمل رامبو لاحقاً رحلته الشعرية بمفرده، ثم ألّف ديوانه الأخير "إشراقات"، الذي جعل منه رائد الحداثة الشعرية في العالم.
التقى فيرلين رامبو بعد خروجه من السجن لقاءً عاصفاً، وذلك في بروكسل في العام 1875، انتهى بالشجار مجدداً، ولكن هذه المرة يحدث الانفصال النهائي بينهما. مع ذلك، سوف تبقى ذكرى الصديق النزق والمتمرّد حاضرةً في وجدان فيرلين، وسوف يكتب عنه ويطبع دواوينه، ويُعرّف الجمهور بشعره البديع.
رحلته إلى الشرق
بعدما يئس رامبو من تحقيق حلمه المتمثّل في تغيير العالم بواسطة الشعر، شعر بأنه أُستنفد شعرياً، ودخل في حالة ركود، ولم يعد لديه شيءٌ أصيلٌ ليقدمه، إلى درجة أنّه يقول في إحدى قصائده:
"لقد صنعتُ كل الاحتفالات
كل الانتصارات
كل الأعمال الدرامية [...]
حسناً، لا بُدّ لي من دفن مخيلتي وذكرياتي".
اتّخذ رامبو قراراً غريباً، ما زال يثير تساؤلَ وحيرةَ النُقاد حتى يومنا هذا. إذ إنّه صمت عن الشعر إلى الأبد، وهو ما يزال فقط في الـ20 من عمره، ودفن موهبته العظيمة من دون ندم.
منذ تلك اللحظة، تحوّل رامبو إلى شخصٍ آخر، حيث رفض أن يُذكّره أحدٌ بماضيه الأدبي. بعد فترة، سافر إلى الشرق بحثاً عن المجهول وسعياً وراء الثراء، فزار قبرص والإسكندرية والقاهرة وعدن والحبشة، وتاجر بالسلاح حيناً، وبالبخور والعطور والقهوة حيناً آخر.
في العام 1880 قرَّر الاستقرار والعمل في الحبشة، لكنّه خسر في إحدى صفقات السلاح بسبب خداع ملك الحبشة، الذي أخذ الأسلحة منه ورفض تسديد ثمنها. كما أصيبت ساقه بورمٍ جعله غير قادرٍ على المشي، فاضطر للعودة إلى فرنسا من أجل العلاج، وتحديداً إلى مدينة مرسيليا، حيث قام الأطباء ببتر ساقه.
توفّي آرثر رامبو في الـ10 من تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1891 بسبب مضاعفات مرض السرطان، عن عمر 37 عاماً، ووري الثرى في مدينته "شارلفيل".
وقد حاول بعض عشاق شعره نقل رفاته إلى مقبرة العظماء في باريس، وطالبوا بدفنه إلى جانب بول فيرلين، لكنَّ عائلته رفضت ذلك بشدّة، معتبرةً أنَّ دفنهما سوياً يعني أنَّ ارتباطهما كان أبدياً، بينما استمرّت علاقتهما في الحقيقة سنتين أو 3 سنواتٍ فقط.
"الله كريم، الله كريم".. هل اعتنق رامبو الإسلام؟
ارتدى رامبو الأزياء العربية، وحمل مسبحةً، وتكلّم اللغة العربية بطلاقةٍ محاولاً الاندماج مع الشعوب الشرقية، وممارسة أعماله التجارية بينها.
دارت شكوكٌ عديدةٌ حول اعتناقه الدين الإسلامي. بعض المؤرخين يتوقّعون أنَّ رامبو دخل في الإسلام، معتمدين على عدّة أدّلة، منها أنّ رامبو، وفقاً لجيرانه في مدينة عدن، اتّخذ اسماً عربياً هو "عبد ربه"، كما أنّه كان يقرأ القرآن الكريم باهتمامٍ شديدٍ.
أما البعض الآخر من المؤرخين فينفون مسألة إسلامه، ويذكرون أنّه تعرّض للضرب والتهديد مراتٍ عديدةً، بسبب التفسير الخاص الذي كان يقدّمه لبعض الآيات القرآنية. ولكن هناك روايةٌ نُقِلت عن شقيقته، تقول إنَّ الشاعر وهو على سرير الموت طلب نسخةً من القرآن، وأخذ يردّد "الله كريم، الله كريم..."، كما يفعل المسلمون.
بعد رحيله، بدأ يلمع اسم آرثر رامبو في باريس، واعتبره النُقّاد مؤسس تيار "الحداثة" في الشعر الفرنسي، والمُمهد الأول للشعراء السورياليين من خلال ابتكاره صياغات جريئة، وتقنيات أسلوبية جديدة، بالإضافة إلى كثافة معانيه الشعرية.
تأثّر رامبو بفيكتور هوغو، وشارل بودلير صاحب "أزهار الشر"، الذي اعتبره "الرّائي الأول" و"الشاعر الملك" بلا منازع.
تميّز شعر رامبو برمزيته، وغالباً ما نجد في قصائده انسجاماً جميلاً بين الأصوات والروائح والصور والألوان. ما زالت العديد من قصائده الجميلة تنتقل من جيلٍ إلى آخر، ومن أهمها "الزورق المخمور"، "إحساس"، "بوهيميتي"، "الزوج الجهنمي"، "الفقراء في الكنيسة"، و"صلاة في المساء".
هكذا كان آرثر رامبو نجمةً عبقريةً، لمعت في عالم الشعر وانطفأت بسرعةٍ، ثم مضت بعيداً، تماماً كما قال في إحدى القصائد عن نفسه:
"لن أتكلّم لن أفكّر في شيءٍ
لكنَّ الحبّ اللامتناهي سيصعد إلى نفسي
وسأمضي بعيداً بعيداً جدّاً
مثل بوهيمي عبر الطبيعة
وسعيداً كأنني مع امرأة".