"يوم التّأسيس".. رحلة ابن سلمان بحثاً عن تاريخ
بالعودة إلى تاريخ 1727، والذي تم اعتماده عاماً لتأسيس السعودية، يمكن الاستنتاج أنَّ في الأمر تزويراً متعمداً ومغالطة تاريخية كبيرة.
تحتفل السعودية بعد أيام قليلة، وللمرة الأولى في تاريخها، بيوم التأسيس، وذلك بعد أن أصدر الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز أمراً ملكياً باعتبار يوم 22 شباط/فبراير من كل عام ذكرى تأسيس الدولة السعودية، واعتماده إجازة رسمية.
تبع ذلك إعلان السعودية أيضاً عن الهوية البصرية ليوم التأسيس، والتي جمعت بين الخيول والنخل والمجلس والفرسان. وإلى يسار الشعار بخطّ عريض يوحي بأهمية المضمون، يأتي تاريخ 1727، وهو عام التأسيس الَّذي تم اعتماده.
يمكن القول إنّ كلّ هذه الاحتفالية تتمحور حول التاريخ المذكور. وقبل الخوض في ذلك، ينبغي التوضيح أنّ يوم التأسيس لم يلغِ اليوم الوطني في السعودية، الذي يصادف 23 أيلول/سبتمبر، تأسيساً على أن اليوم الوطني مرتبط بإعلان عبد العزيز بن سعود تغيير اسم البلاد من مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها إلى المملكة العربية السعودية.
بالعودة إلى تاريخ 1727، والذي تم اعتماده عاماً لتأسيس الدولة في عهد حاكمها آنذاك محمد بن سعود، هناك عدد من الملاحظات التي يمكن تسجيلها. وبعدها، يمكن الاستنتاج أنَّ في الأمر تزويراً متعمداً ومغالطة تاريخية كبيرة.
لا يمثّل هذا السرد دعوة إلى البحث التاريخي، ولا يأتي أيضاً لمراجعة تاريخ الجزيرة العربية، فذلك مبحث آخر، لكن بعض السياق التاريخي يعطي إجابة شافية عما وراء القرار السعودي، ويمثل في الوقت ذاته فكرة عن توجهات من يحكم السعودية اليوم.
يمثل اعتماد العام 1727 تاريخاً لتأسيس الدولة السعودية تحريفاً للتاريخ الحقيقي لفكرة الدولة السعودية، أي 1744، وهو العام الذي هرب فيه محمد بن عبد الوهاب إلى الدرعية، وتحالف مع الزعيم القبلي محمد بن سعود في إطار "ميثاق الدرعية". حينها، اتفق الرجلان على الحرب في الجزيرة العربية تحت راية ابن سعود، بذريعة "تصحيح عقيدة الناس مما علق بها من الشرك والبدع والخرافات"، وبدأت إمارة الدرعية بالحرب على جيرانها بناءً على ذلك.
قد يجادل قائل إنَّ عام التأسيس الجديد يعود إلى تاريخ وصول أو تولي محمد بن سعود زعامة القبيلة، لكن ذلك لا يعبر عن تاريخٍ لتأسيس الدولة، إذ قضى ابن سعود، كما أسلفنا، 17 عاماً في الزعامة، من دون أن يفكر في التوسع أو تأسيس دولة. وبحسب ما تشير إليه المراجع، فإن ابن عبد الوهاب هو المسؤول عن فكرة الغزو والحرب. وبحسب المراجع أيضاً، تولى ابن عبد الوهاب نفسه الإشراف على العمليات العسكرية والإعداد والتجهيز.
مع تثبيت هذه النقطة، يمكن القول بشكل مباشر إنَّ الخطوة الحالية، أي العودة إلى العام 1727، لا تعدو كونها امتداداً للمحاولات السعودية لفك الارتباط شكلياً عن الوهابية، والتنصّل من كلّ ما ترتّب على هذا الارتباط تاريخياً منذ حروب محمد بن سعود وتكفير محمد بن عبد الوهاب لسكّان الجزيرة العربية وحتى اليوم. هي محاولة للقول إنَّ الوهابية كانت فكرة طارئة على السعودية، وليست أماً لها.
ولتأكيد هذا التحريف، يمكن العودة إلى ما يورده الملك سلمان نفسه في محاضرة ألقاها في جامعة أم القرى في العام 2011، تحت عنوان "الأسس التاريخية والفكرية للدولة السعودية"، والتي ضُمّنت لاحقاً في كتاب يحمل العنوان ذاته، ويقول فيها الملك سلمان نصاً: "أصبحت هذه البيعة (بيعة ابن عبد الوهاب لابن سعود) ركناً أساسياً من أركان الدولة السعودية إلى اليوم"، ثم يضيف في موضع آخر: "وبهذه المبايعة التاريخية، بدأت أسس الدولة السعودية الأولى على الدين... الأمر الذي لم يحدث للحركات الإصلاحية الدينية الأخرى، وهو أن يكون تاريخ الدعوة مرتبطاً بتاريخ الدولة".
وتكمن الغاية الثانية من محاولة فكّ الارتباط مع الوهابية في سعي ولي العهد محمد بن سلمان لخلق نزعة أو هوية قومية في السعودية، قوامها الابتعاد عن النزعة الإسلامية، عبر الإفراط في الترفيه وكلّ ما من شأنه أن يلغي الصبغة الدينية للبلاد. الأمر يشبه إلى حد كبير ما جرى تاريخياً من طمس للهوية الحجازية في مقابل الهوية الوهابية، إذ تقف النزعة الدينية في المجتمع السّعودي حائلاً أمام طموحات ابن سلمان، وتحديداً محاولاته استنساخ النموذج الإماراتي في السعودية.
ثمة ملاحظة أخرى يمكن إدراجها هنا، تتعلَّق بالتأصيل التاريخي، والتي نصل إليها كنتيجة لكلِّ النقاط الواردة أعلاه، ففي غمرة هذه القرارات، ثمة تزوير للتاريخ بحثاً عن تاريخ، ومحاولة لتشكيل امتداد تاريخي مصطنع للسعودية يعود إلى 3 قرون، عبر الإيحاء بأنَّ السعودية حافظت على استمرارية سياسية منذ العام 1727 حتى يومنا هذا، وكذلك محاولة للقول إنّ حكم آل سعود لهذه المنطقة مستمرّ منذ التاريخ المعتمد، وهو تزوير في هذا الإطار.
انتهت إمارة الدرعية (الدولة السعودية الأولى) على يد إبراهيم بن محمد علي باشا، وأُعدم آخر حكامها عبد الله بن سعود في الأستانة. ومن دون الخوض في الكثير من التفاصيل التاريخية، يكفي القول إنّ الفترة الفاصلة بين سقوط إمارة الدرعية في العام 1818 والإعلان عن المملكة العربية السعودية في العام 1902، لم تشهد استمرارية لحكم آل سعود في الجزيرة العربية إلا في محطات متباعدة زمنياً وجغرافياً.
في كلِّ الأحوال، تبدو الغايات واضحة وراء الخطوة السعودية. وبالتزامن مع الاحتفالات المرتقبة في 22 شباط/فبراير الحالي، يجري الحديث عن إجراءات أخرى من المتوقّع أن تصبّ في خانة إحياء نزعة "السَّعوَدة" وربطها بولي العهد.
لا ترشح الكثير من التفاصيل حول هذه الإجراءات، لكنَّ المؤكد أنّ السعودية في إطار تكريس ابن سلمان ملكاً تسير نحو التخلي حتى عن التقاليد الثقافية الدينية للمجتمع. وفي هذا الإطار، تجري محاولات تعديل التاريخ أو تزويره، إن جاز القول.