وصفة أميركية جديدة للسَّلام: "النزاع" فلسطيني إسرائيلي.. وكفى!
الحديث الغربي اليوم عن إقامة دولة فلسطينية لا يزال مبهماً وغامضاً، فهل هذه الدولة ستكون وفقاً لقرارات الشرعية الدولية؟ وهل تكون القدس الشرقية عاصمتها الوحيدة؟
في مقاربتها السياسية للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تحرص الإدارة الأميركية على اختزال الصراع العربي-الإسرائيلي بـ"نزاع" فلسطيني إسرائيلي يمكن أن ينتهي بـ"حل الدولتين". لذلك، فهي لا ترى ارتباطاً عميقاً بين عملية التطبيع الجارية بين بعض الدول العربية و"إسرائيل" وما يجري في قطاع غزة والضفة الغربية، رغم هول المجازر والجرائم الإسرائيلية المرتكبة.
ومع أن تصريحات بعض الدول العربية ربطت مصير التطبيع مع "إسرائيل" بوقف إطلاق النار في قطاع غزة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، إلا أنَّ تلك الدول أخذت تتبنى تدريجياً السردية الأميركية حيال السلام مع الكيان الصهيوني، فلم تعد القرارات الشهيرة الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، وأشهرها 242 و338، ولا الانسحاب الإسرائيلي إلى حدود الرابع من حزيران لعام 1967، أساساً للسلام العادل والشامل.
على الأقل هذا ما يرد في البيانات الصحافية التالية للاجتماعات مع الوفود الأميركية والغربية، وفي اللقاءات والحوارات الإعلامية، فهل ما يجري هو محاولة غربية-عربية لترسيخ صورة ذهنية جديدة عن صورة السلام الجديد مع "إسرائيل"، والتي تبتعد فيها عن أسس ومبادئ السلام التي حفظتها الجماهير العربية عن "ظهر قلب" لأكثر من 3 عقود من الزمن أو أنها لا تعدو كونها تصريحات إعلامية يفرضها الحدث الفلسطيني الحالي؟
تحييد مقصود
بالعودة إلى معظم التصريحات الصحافية للمسؤولين الأميركيين ونظرائهم العرب خلال الأشهر الثلاثة الماضية، فإن حل الصراع العربي-الإسرائيلي وإقامة سلام عادل وشامل لم يعد رهناً بانسحاب "إسرائيل" من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، ولا بحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة كاملة، بما فيها حق العودة، كما تمسَّك العرب بذلك منذ ما بعد حرب أكتوبر عام 1973.
وحتى الحديث الغربي اليوم عن إقامة دولة فلسطينية لا يزال مبهماً وغامضاً، فهل هذه الدولة ستكون وفقاً لقرارات الشرعية الدولية؟ وهل تكون القدس الشرقية عاصمتها الوحيدة؟ وهل تقوم "تل أبيب" بتفكيك مستوطناتها العنصرية من داخل الضفة الغربية؟ وما علاقة صفقة القرن الشهيرة بالدولة الفلسطينية المروج لها غربياً؟ وغير ذلك من الأسئلة المتعلقة ببنية تلك الدولة وشكلها.
إلى الآن، ليست هناك إجابات واضحة ودقيقة عن هذه التساؤلات، لكن يبدو، وبحسب توقعات مصادر سياسية، أن الإجابة عما سبق ستكون متروكة للمفاوضات المستقبلية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهذا يعني أن سقف ما قد يحصل عليه الفلسطينيون قد لا يتعدى ما خلصت إليه مفاوضات أوسلو، ذلك أن "إسرائيل" بجميع أحزابها وتياراتها السياسية تعارض من حيث الأساس إقامة دولة فلسطينية أو الانسحاب من أراضي الضفة الغربية والقدس ووقف الاستيطان فيها. وعلى هذا، فالمفاوضات المستقبلية في ظل هذه الرؤية ستكون عبثية و"شراء للوقت"، ولن تفضي إلى ما يوازي تضحيات 8 عقود من المعاناة والتهجير والتعرض للقتل والحرمان والجوع.
النقطة الأخرى التي تلفت الانتباه في أحاديث السلام حالياً هي تغيب باقي الدول العربية عن عملية السلام أو الصراع، فإذا كان الموقف الغربي، وتحديداً الأميركي، من دمشق يدفع تلك الدول حالياً إلى تجاهل قضية الجولان السوري المحتل، فمن المستغرب أن تفعل ذلك أيضاً دول عربية محورية في المنطقة، بصرف النظر عن مستوى علاقاتها الحالية مع الحكومة السورية، إذ إن جميع المواقف العربية والغربية المعلنة على خلفية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والتي لا تزال تتردد منذ السابع من أكتوبر الماضي، لم تتضمن أي إشارة إلى ضرورة استعادة سوريا لهضبة الجولان المحتلة منذ العام 1967، واستعادة لبنان كذلك لما تبقى من أراضيه المحتلة، وإلا ما هو مفهوم السلام الذي يحقق الاستقرار للمنطقة؟
غالباً، هناك تفسير واحد من اثنين لهذا التجاهل العربي:
التفسير الأول يتمثل في أن جل اهتمام الدول العربية ينصب على وقف العدوان الإسرائيلي على غزة. وعلى ذلك، فإن تشديدها على حتمية خيار إقامة الدولة الفلسطينية ينطلق من كونه محاولة لتحميل "إسرائيل" مسؤولية عدم استقرار الأوضاع في المنطقة بفعل رفضها للسلام وتنفيذ القرارات الدولية، فلو قبلت إقامة دولة فلسطينية في السنوات السابقة، لما وصلت الأمور إلى هذه المرحلة الخطرة والمهددة للأمن الإقليمي والدولي.
التفسير الثاني يبدو أنه الأقرب إلى التحقق في موقف بعض الدول العربية، فهو يتعلق بالانسياق العربي خلف السردية الأميركية الخاصة باختزال 7 عقود ونصف عقد من الصراع العربي الإسرائيلي بحل الدولتين، وإبعاد ما تبقى من ملفات أخرى ليكون مصيرها النسيان بفعل الأمر الواقع، وهذا تماماً ما سعت إليه إدارة ترامب التي اعترفت بضم الجولان السوري المحتل إلى الكيان الصهيوني، ونقلت سفارة بلادها إلى القدس المحتلة، ومن ثم عملت على إطلاق مشروع يتجاهل الحقوق العربية، ويطمس حقائق التاريخ والجغرافيا تحت مسمى "صفقة القرن"، والمؤيد للأسف من بعض الدول العربية.
الحقّ لا يموت
ليست هذه هي المرة الأولى التي يحاول فيها الغرب تحييد سوريا ولبنان، وحتى جزء كبير من الشعب الفلسطيني، عن ملف الصراع العربي-الإسرائيلي، والمثال الأوضح على ذلك يتمثل في التوقيع المنفرد لدول عربية على اتفاقيات سلام وتطبيع مع الكيان الصهيوني، لكن دوماً كانت الأوضاع في المنطقة تزداد سوءاً، ليس نتيجة تجاهل محورية الدول والفصائل المستبعدة في جهود بناء السلام فحسب، إنما لأن "إسرائيل" حافظت أيضاً على سياسات عدائية حتى مع الدول التي أبرمت معها اتفاقيات سلام أو أقامت معها علاقات تطبيع مباشرة أو غير مباشرة، فضلاً عن استمرار رفضها الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني وتنفيذ القرارات الدولية الخاصة بالصراع العربي الإسرائيلي، متكئة في ذلك على الدعم الأميركي المطلق، وعلى نجاحها خلال السنوات السابقة في فتح مسارات بديلة للتطبيع مع دول عربية وانهيار جدار المقاطعة العربية والإسلامية والعالمية، لكن أياً كانت المواقف الإقليمية والعالمية في هذا الملف، فإنَّ هناك جملة حقائق لا يمكن تجاهلها في أي جهود دولية لبناء سلام عادل ومستقر في المنطقة.
ومن هذه الحقائق نذكر ما يلي:
- وجود أراضٍ عربية محتلة من قبل "إسرائيل"، وتالياً، لا يمكن لأي حكومة أو فصيل أو منظمة أن يتخلى عنها أو يساوم عليها. وما لم ينسحب منها الكيان الصهيوني، فإن جميع أشكال المقاومة ستبقى مشروعة حتى استعادتها وفق ما تقره الشرائع والقوانين الدولية. والمثال الأبرز ما تبع اتفاقية أوسلو من تجدد للانتفاضة الفلسطينية والكفاح المسلح في الأراضي المحتلة.
- بحسب بيانات وكالة "الأونروا"، فقد بلغت نسبة اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لدى الوكالة في الأردن نحو 39% من إجمالي عدد اللاجئين الفلسطينين، في حين بلغت هذه النسبة في لبنان وسوريا نحو 9% و11% على التوالي. لذلك، إن أي اتفاق للسلام لا يأخذ بعين الاعتبار حق العودة لهؤلاء يبقى اتفاقاً هشاً وغير مستدام.
- تجذر ثقافة المقاومة ورفض التطبيع شعبياً في جميع الدول العربية. وإذا كانت بعض الدول العربية المطبعة لم تتبلور فيها سابقاً علانية ملامح هذا الرفض الشعبي لأسباب معروفة، فإن التجربة المصرية والأردنية وما أعقب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة من ردود فعل شعبية عبرت عن نفسها بأشكال متعددة خير شاهد على الرفض الشعبي للتطبيع، فكيف الحال مع مواطني دول لا تزال أراضيها محتلة من الكيان الصهيوني، ولا تزال تتعرض لاعتداءات مستمرة من قبله؟