هل هناك مصالحة خليجيّة مع إيران؟
بعد فشل المحادثات بين إيران والسعودية برعاية ووساطة عراقيّة، والتي عقدت في أبريل/نيسان الماضي في بغداد بسبب ملف اليمن، يرى السعوديون أنَّهم معنيون أكثر بالاحتماء بالغرب.
تشي التحركات الخليجية الأخيرة بشيء من التغيّر في السياسات الخارجيّة، إذ زار مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد طهران في السادس من الشهر الجاري، والتقى نظيره الإيراني علي شمخاني، كما التقى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي.
وقد وصف طحنون إيران بالدولة القوية والكبيرة والمهمّة، في إشارةٍ إلى فتح مسار جديد مع الجارة التي اعتُبرت خليجياً بالأمس القريب محلّ خصومة تصل أحياناً إلى درجة العداوة.
فلسفة أمن المنطقة محلّ خلاف
هل زيارة طحنون لطهران مؤشر واقعي على تغير السياسات الخليجية باتجاه إيران أو أنَّها لا ترقى إلى ذلك المستوى؟
لا ينحصر التعقيد بين إيران ودول الخليج بملفات سوريا واليمن والعراق ولبنان فقط، وإن كانت هذه الملفات شائكة وكبيرة ومعقدة، إلا أنَّ ما بين دول الخليج وطهران ما هو أعمق من كلّ ذلك، وهو ما يتعلّق بفلسفة أمن الخليج، إذ يتعاضد مجلس التعاون الخليجي على أهمية محورية أميركا في معادلة الأمن الخليجي، بينما تعتقد إيران أنَّ أميركا سبب تأزيم لا منبع أمن، فضلاً عن أنها متمركزة في الخليج لحماية مصالحها ومصالح "إسرائيل"، وليس لأمن الخليج وأبنائه.
وقد دعا الإيرانيون دول الخليج مراراً، وعلى مدى سنوات، ومن خلال حكومات مختلفة ومتعاقبة، إلى إنشاء منظومتهم الأمنية الذاتية عبر تحالفاتهم مع دول الجوار، وحفظ مصالحهم بالاعتماد على قوّتهم التي تمثّل خير ضمان لأمنهم القومي، لكن لو أراد الخليجيون تغيير مسارهم فعلاً وفتح صفحة جديدة مع جيرانهم، وخصوصاً إيران، بما تمثل من عدو لدود لأميركا، فهل يستطيعون الإقدام على تلك الخطوة؟
بيع فلسطين سبب "فيتو" السعودية
المشكلة التي تواجه الخليجيين أنّ من تتزعّمهم، أي السعودية، هي أكبر عامل للتأزيم، وهي الفيتو "الإقليمي" لأيِّ تحالف استراتيجي مع إيران. وفضلاً عن الأسباب التاريخية المتعلّقة بربط تدفّق النفط مقابل الأمن، وهو الاتفاق غير المكتوب بين الأمير فيصل وهنري كيسنجر منذ أيام رئاسة نيكسون، إلا أنّ عاملاً إضافياً طرأ، وصار ثقلاً على عاتق الرياض، إذ إنّها محشورة فيه، وهو حين رهن ولي العهد محمد بن سلمان نجاح وصوله إلى المُلك وحمايته من الداخل والخارج ببيع فلسطين عبر ما عرف بـ"صفقة القرن"، التي يعد أحد تداعياتها المخزية التطبيع التدريجي مع الكيان الصهيوني والتخلّي عن القضية الفلسطينية، بل ومحاربة كلّ من يقاوم لأجل هذه القضية، وهو عامل يكون نجاحه سبباً في تحوّله إلى شرطي على مجلس التعاون والأردن والضفة، لكن في حال فشله، فإنَّ مملكته ستواجه ضعفاً استراتيجياً على مستوى السياسة والعسكر.
ومخطئ من يظن أنَّ محمد بن سلمان توقّف عن التجديف في هذا الملف، ولا يخلو هذا الملفّ الضخم من ملفات رديفة، فالملف اليمني يمثل ركناً مهماً في معادلة الصراع مع العدو الصّهيوني.
وبعد فشل المحادثات بين إيران والسعودية برعاية ووساطة عراقيّة، والتي عقدت في أبريل/نيسان الماضي في بغداد بسبب ملف اليمن، يرى السعوديون أنَّهم معنيون أكثر بالاحتماء بالغرب، بحجّة أنّ ربح اليمنيين للحرب يعني تهديد الأمن القومي الإسرائيلي، فضلاً عن الأمن القومي السعودي، وهو ما لا يتوافق ومصلحة الغربيين، وعلى رأسهم أميركا.
هكذا، تبني الرياض حجاجها السياسي للغرب، الأمر الَّذي دفع المملكة العربية السعودية إلى التصعيد الإعلامي ضد إيران وحلفائها، والتصعيد العسكري في اليمن، رغم كلّ دعوات العالم إلى إيقاف الحرب التي خلّفت أكبر كارثة إنسانية في التاريخ.
وفي الأيام الأخيرة، بدأ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بجولة في دول الخليج. وقد علَّقت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية يوم الإثنين 6 كانون الأول/ديسمبر بالقول: "إنَّ جولة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في دول الخليج هو لحشد تحالفهم وبناء إجماع للوقوف في وجه تهديدات إيران"، وفق ما جاء فيها.
الأناركية الإماراتية تجاه السعودية
إذا كانت السعودية تمتلك الفيتو - ولو نسبياً - على أي تقارب استراتيجي بين دول الخليج وإيران، وبوابة الرياض مغلقة في وجه التصالح مع طهران للأسباب الآنفة الذكر. إذاً، ما الذي يفعله مستشار الأمن القومي الإماراتي في طهران؟
الإمارات بشكل عام، وطحنون بشكل خاص، بما يمتلك من عقلية أمنية، يريد أن يجترح مساراً تبدو عليه مسوح الأناركية المتحررة من التسلط السعودي، مع الحفاظ على التحالف الوثيق معها. وبذلك، يظنّ طحنون أنه يربح الظهر السعودي، وإذا ما غرقت المملكة، لا تغرق الإمارات معها، فأبو ظبي تريد أن تقلّل خسائرها في اليمن، وتتجنّب ضربات الجيش واللجان الشعبية عليها، وهذا بالتأكيد بوابته إيران.
هكذا يقارب حكام الخليج والغرب التأثير في اليمنيين. كذلك، تسعى أبو ظبي لإغلاق ملف سوريا، وهذا ما ترجمته الإمارات بإرسال وفد برئاسة وزير خارجيتها عبد الله بن زايد إليها في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الجاري. وقد بحث الوفد مع الرئيس السوري بشار الأسد تعزيز العلاقات وفتح قنوات تواصل دولية لإعادة سوريا إلى الجامعة العربية.
إنَّ البارز من المشهد الخليجي، بما يحمل من إرث سلوكي في السياسة الخارجية، لا يعطي إشارات جادة على تحول دراماتيكي صوب إيران، لكنْ ثمة تبريد لبعض الساحات تحتّمها المتغيرات الدولية الصعبة، كتركيز الأميركي على ملفي الصين وروسيا، وحشد استراتيجيته الجديدة لاحتواء خطرهما، فواشنطن متواجدة قرب بحر الصين الجنوبي والبحر الأصفر، وهي ترى الحشود الصينية تتهيأ لقضم تايوان، كما أنَّ أميركا متواجدة في البحر الأسود مخافة اجتياح روسيا لأوكرانيا، فضلاً عن أن هناك ملفات كبرى تتداخل فيها الاقتصاد بالسياسة بالأمن بالعسكر، كطريق الحرير الصيني وأنشطة منظمة شنغهاي والاستراتيجيا الجديدة لمحور المقاومة في إيجاد صيغ اقتصادية ومالية لإسقاط العقوبات، برافعة سياسية وعسكرية تحمي تلك الاستراتيجيا، التي من ضمن ركائزها إخراج الأميركي من المنطقة.
هل الخليجيون على شكل واحد من التبعية؟
لم يعد مجلس التعاون الذي تأسَّس في 25 مايو/أيار 1981 كما كان أيام تأسيسه. كانت المخاوف من الثورة الإسلامية الإيرانية، وهي للتو وليدة، متضخّمة بفعل الآلة الإعلامية الأميركية والتدافع السياسي الناشئ عبر سفرائها في الخليج، إذ كانت الدول الست أكثر تماسكاً، والخضوع للسعودية وقتها كان كبيراً جداً، إذ كانت في أوج قوتها الاقتصادية ونفوذها السياسي في العالم الإسلامي، لكن تضاءلت تلك التبعية، حتى اصطدمت بواقع يقول إنَّ محمد بن سلمان بكل سياساته المنفلتة هو الرجل الأول في المملكة.
وما زاد الطين بلة هو إضرار المملكة بجارتها قطر، حتى كادت الحرب تنشب بينهما لولا تدخل أمير الكويت السابق صباح الأحمد الصباح، حين سافر إلى واشنطن في أيلول/سبتمبر 2017، وأعلن بعد مباحثات مع دونالد ترامب وقف عمل عسكري وشيك على الدوحة. هذا إسفين من محمد بن سلمان لدول الخليج. أما إسفينه للداخل السعودي، فهو اعتقال أمراء من آل سعود بحجة الفساد، الأمر الذي أدخله في طريق لا يمكن العودة عنه.
إجمالاً، إنَّ تصرفات ولي العهد السعودي أجْلت السعودية عن مكانتها المعنوية والسياسية والاقتصادية، وأضرَّت بسمعتها العسكرية.
تشكّل وجه الخليج
بفعل العواصف السياسية المفتعلة من دول الخليج، فإنَّ شكل الخليج يتلقّى عوامل تعرية تتغير معه ملامح قوى النفوذ، ويتشكل من مجموع متغيراته الوجه الراسخ للخليج، والذي يعكس مراكز القوة ومراكز الضعف، ولا يمكن الجزم بأنَّ هناك شكلاً نهائياً وشيكاً، لأنَّ الصراع والتخبط الخليجي لا يزال قائماً، وإن بدا فاقعاً في السعودية والإمارات حالياً.
أما قطر، فتتمتّع بعلاقات وثيقة مع كلٍّ من إيران وتركيا، وتمتلك آلة إعلاميّة ضخمة واقتصاداً مستقراً، وتؤدي عُمان دور الوسيط المعتدل في الأزمات السياسية، بينما لا تزال البحرين تابعة للرياض وأبو ظبي، وتتذبذب الكويت بين ابتعاد عن السعودية والتصاق بها. هذه الحالة لا تخدم الحالة الخليجية، في الوقت الذي تمضي إيران في بناء المقاومة الإقليمية، وتتغيّر حاجة واشنطن إلى حلفاء شبه الجزيرة العربية.
قبل 3 عقود، كانت هناك قناعة خليجية بأنَّ السعودية ندّ لإيران. اليوم، باتت القناعة بأنّ كلّ دول الخليج ليست نداً للجمهورية الإسلامية، وأنّ "إسرائيل" لا تستطيع أن تقف في وجه حزب الله أو إيران. وبالتالي، إنّ التعايش مع الأمر الواقع الإيراني يتطلّب من الخليجيين المساكنة، ما داموا ممنوعين من التّحالف الاستراتيجّي مع طهران.