هل تغيَّر موقف نخبة السودان الرسمية من التطبيع؟
هل تَغيّر موقف الوزير السوداني يعكس تغيراً في مواقف النخبة السودانية الرسمية من التطبيع، ليتقاطع موقفها مع موقف الشارع السوداني وإرادته؟
أجمعت كل الأدبيات التي تناولت التطبيع بين الدول العربية وكيان الاحتلال على أن تداعيات الانزلاق الحاصل ستكون كبيرة ووخيمة سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وحذرت من تبعات الاستمرار في ركوب قطار التطبيع. وعندما بدأت معركة طوفان الأقصى، اتفقت تلك الأدبيات على أن المعركة الحاصلة أوقفت في أحد نتائجها استمرار التطبيع. لم يكن السودان بمعزل عن ذلك كله؛ وإن انفرد بحرب الأشقاء الدائرة. وقد تناولت بعض الأدبيات مستقبل التطبيع بين السودان وكيان الاحتلال، وأثر الصراع الدائر بين الجنرالات في التطبيع.
التطبيع قرار سياسي رسمي منفصل عن الإرادة السياسية للشعوب وخياراتها، وهناك جملة شواهد تؤكد صحة هذا التقدير، لكن المفارقة تكمن في تناقضات تقدير النخبة السياسية الرسمية العربية عموماً للتطبيع وتداعياته ومحدداته ومبرراته، وفي الخصوص نخبة السودان، وأخص السودان لما له من خصوصية جغرافية وتاريخية وعربية وقومية، ولأن تطبيعه مع كيان الاحتلال كان عملية قفز غير محسوبة العواقب، وإن شهدت بعض الجمود مؤخراً، لكن الأهم حدوث تحول في مواقف النخبة الرسمية فيه من التطبيع، فهل هو تحول طارئ أم تغير يصدق فيه القول: "رمتني بدائها وانسلت"؟ بالمناسبة، اختلف جنرالات السودان في ما بينهم حد الصدام العسكري المباشر والدائر الآن، لكنهما أجمعا واجتمعا واتفقا على التطبيع، وذاك أمر يحار المرء فيه.
من مؤشرات التغير الطارئ في موقف النخبة السودانية الرسمية من التطبيع ما ذهب إليه وزير المالية والتخطيط الاقتصادي السوداني جبريل إبراهيم في 7 حزيران/يونيو الجاري، وكشفه في لقاء صحافي عن مخطط صهيوني أميركي كبير لعزل مصر وتجريدها من العمق الأمني والاستراتيجي في المنطقة.
وقال: "عندما ننظر إلى ضرب سوريا والعراق واليمن والسودان وليبيا، الصورة تتضح"، وأضاف أن "الهدف هو عزل مصر لأنها العدو الاستراتيجي الأول لإسرائيل، وتجريدها من العمقين الأمني والاستراتيجي".
ولفت الوزير السوداني إلى أن "الهدف من تفتيت السودان هو سرقة موارده الاستراتيجية، والاستيلاء على البحر الأحمر والثروات الأخرى في السودان مع وجود دول عربية تدعم ذلك".
الشاهد هنا ليس في تحذير وزير المالية السودانية من مخطط صهيوني يستهدف مصر وعمقها، وصمته عن تحذير بلاده من تداعيات التطبيع، وقد كان جزءاً منه، ولكن في موقف سابق للوزير نفسه يمرر فيه ويبرر التطبيع مع كيان الاحتلال؛ ففي 9 نيسان/ أبريل 2021، قال الوزير إبراهيم: "التطبيع مع إسرائيل هو قرار الشعب السوداني، وليس قراراً حكوميًّا"، معتبرًا أن خطوة اللقاء مع إسرائيل نجم عنها رفع السودان من قائمة الإرهاب واستفادته من البرامج التمويلية للمؤسسات المالية الدولية المانحة.
لا يقتصر تيه النخبة الرسمية السودانية في حديثها وتقديراتها عن التطبيع على وزير المالية والتخطيط فقط، فهذا وزير العدل السوداني نصر الدين عبد الباري يدافع عن التطبيع في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2020، ويبرر ذهاب السودان إلى التطبيع بالقول: "السياسة الخارجية لا ينبغي أن تحددها اتجاهات وقناعات أيديولوجية فردية أو حزبية، إنما المصالح، والمصالح فقط. السؤال الصحيح الذي ينبغي أن يطرح في ما يتعلق بالتطبيع مع إسرائيل هو: هل هنالك مصلحة محققة من قرار التطبيع الذي تم اتخاذه بواسطة الحكومة أم لا؟".
وأبان وزير العدل آنذاك أن انحياز الحكومة السودانية إلى مصالح السودانيين وانفتاحها على "إسرائيل أو أي دولة أخرى لا يعني بالضرورة التسبب بضرر أو أذى لأي دولة"، ملوحاً بأن "قرار التطبيع سوف يعود على السودانيين بمنافع كثيرة في المديين القريب والبعيد".
لا تتوقف حدود فهم منطق النخبة هنا عند الفوائد الكثيرة التي يمكن أن يجنيها السودان من وراء الذهاب إلى التطبيع في المديين القريب والبعيد، كما يقول وزير العدل السوداني، ولكن لماذا غير وتغير موقف وتقدير وزير المالية السوداني من التطبيع حتى وصل تقديره إلى تحذير مصر من مخطط صهيوني!
أزمة النخبة العربية عموماً، والسودانية على وجه التحديد، من التطبيع لا تقتصر على تيار بعينه، والتغير الطارئ في المواقف يبدو حيرة أكثر منه صحوة أو مراجعة، فهذا الأمين السياسي لحركة المستقبل في السودان هشام الشواني يصف الانزلاق السوداني صوب التطبيع في 30 تموز/يوليو 2023، قائلاً: "مشروع التطبيع في السودان تم على عدة مستويات"، أوله ظهر في التنافس بين ثلاثة فاعلين: الحكومة المدنية الليبرالية المتحالفة مع الغرب، وقوات الدعم السريع بقائدها حميدتي، والجيش بقائده الأعلى البرهان، موضحاً أن التطبيع الحقيقي تم مع الطرفين الأول والثاني، اللذين كانا يجذران التطبيع في المجتمع، وهما اللذان ألغيا قانون "مقاطعة إسرائيل" المجاز في البرلمان السوداني عام 1958.
وبرر تدحرج السودان إلى التطبيع بقوله: "لم يكن بمقدور الجيش مواجهة التطبيع، لأن موجة التطبيع العربية حصلت في ظل ضعف الحكومة الوطنية. هذه الموجة تزامنت مع تراجع عربي عام، وجاءت كأنها ضربة في مقتل. وبناء عليه، لم يكن بمقدور السودانيين والقوى الوطنية أن تواجه هذه الموجة".
افتراق النخبة السودانية الرسمية لا يبدو فقط في الموقف من التطبيع، وفي تبعاته وتداعياته، ولكن في افتراقها أيضاً عن نبض الشارع وإرادته، ويبدو أن هذه معضلة عربية بامتياز، ولا تقتصر ملامحها على السودان، وان بدا الشارع السوداني أكثر حساسية لجهة قبول أو تمرير أي مظهر من مظاهر التطبيع، فعندما ظهرت إحدى المذيعات السودانيات، وتحديداً في 14 آذار/مارس 2024، على شاشة قناة "I24" الإسرائيلية من مدينة بورتسودان، قوبل ظهورها برفض شعبي سوداني كبير، وأعلن تجمع "سودانيون ضدّ التطبيع" رفضه بشدّة بث القناة الإسرائيلية من مدينة بورتسودان شرقي البلاد، ودعا في بيان الحكومة السودانية إلى طرد القناة واعتقال مراسليها.
وأشار البيان إلى ضرورة "أن تعي الحكومة السودانية أنّ العدوّ الصهيوني عدو استراتيجي، وأن مواقفنا ضدّه تأتي من طبيعته باعتباره كياناً احتلالياً استيطانياً، ومن خوفنا على بلادنا ومسؤوليتنا تجاهها".
وأضاف البيان: "في تماهٍ سافر، تواصل الحكومة السودانية مسارها التطبيعي من دون أدنى اعتبار لرأي الشعب، وبسوء تقدير لما يجب أن تكون عليه المصلحة الوطنية". هنا، يتحقق افتراق آخر بين الحكومة والشعب، وليس بين النخبة وإرادة الشارع فقط.
ما بين تيه النخبة الرسمية السودانية في تبرير التطبيع وتمريره والرفض الشعبي السوداني لمجرد ظهور إعلامية سودانية على قناة إسرائيلية، تتحقق جملة دلالات تدفع كلها إلى استقراء واستشراف مستقبل التطبيع بين كيان الاحتلال والسودان، حتى وإن دافعت عنه النخبة الرسمية السودانية ومررته مقارنة بدول عربية أخرى، ذلك أن بعض الدول العربية أتاحت وفتحت شاشاتها ليطل عليها إعلاميو ومحللو وقادة كيان الاحتلال، ليدلوا بدلوهم ويمرروا روايتهم، وذلك على وقع معركة طوفان الأقصى وجرائم الإبادة الحاصلة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 حتى اللحظة.
رغم ذلك، لم نرَ رفضاً شعبياً أو شجباً وتنديداً، وهذا له مدلوله في أن الشارع في السودان لم يروّض بعد، وأنه يرفض التطبيع مهما بدا صغيراً، وإن تعلق بظهور صحافية سودانية على قناة إسرائيلية، وأن تمرير التطبيع لن يحدث، وإن دافعت عنه النخبة الرسمية السودانية وبررته.
إن تغير موقف النخبة الرسمية السودانية من التطبيع وحيرتها في تسويقه لم يكن على أرضية موضوعية بمحددات واضحة، إنما كان عبارة عن مغامرة وقفز غير محسوب العواقب في أجواء السياسات العربية، وانزلاق النخبة السودانية الرسمية إلى التطبيع كان مجرد مهرجان سياسي محكوم بتقليد بعض العواصم العربية في ركوب قطار التطبيع، بمعنى أن تطبيع السودان كان مجرد ظاهرة سياسية عابرة، وأن مشكلة نخبة السودان الرسمية أنها لم تبنِ مواقفها على تقدير ثابت موضوعي حقيقي منحاز إلى الشعب السوداني ويتقاطع مع مواقفه وإرادته.
إن تحذير وزير المالية السوداني مصرَ من مخطط صهيوني أميركي، وإن كان يعبر عن تغير وتبدل في موقف الوزير من التطبيع، لكنه جاء متأخراً جداً، والأصل فيه أن يقوله لبلاده وحكومته، فهل تَغيّر موقف الوزير السوداني يعكس تغيراً في مواقف النخبة السودانية الرسمية من التطبيع، ليتقاطع موقفها مع موقف الشارع السوداني وإرادته؟