هل تطرد تشاد القوات الأميركية؟
يستمد أغلب الساسة التشاديين "مشروعيتهم" وسندهم من باريس، ثم واشنطن، وبالتالي لا مجال لتخيل أن تلك النظم يمكن أن تدير ظهرها للتوجهات الغربية بصورة عامة، ولفرنسا بشكل خاص.
شغلت الرسالة المؤرّخة في 4 نيسان/أبريل التي وجهها قائد القوات الجوية التشادية إلى الملحق العسكري الأميركي في انجمينا، والتي يطالبه فيها بوقف فوري للأنشطة الأميركية في قاعدة كوسي الجوية التي تضم نحو 100 ضابط وجندي، شغلت هذه الرسالة كثيراً من الكتاب المعنيين بالشأن الأفريقي والدولي، ودلقوا في تحليلها مداداً كثيراً.
رأى هؤلاء الكتاب في الطلب التشادي مؤشراً لاستدارة تشادية عن الغرب الذي يعتبر وجهتها التاريخية، وأنّها تيمم وجهها صوب روسيا تأثراً بجارتها النيجر. وقد استخدمت تحليلات هؤلاء الكتاب زيارة رئيس المجلس العسكري الانتقالي محمد دبي "كاكا" إلى روسيا في الأسبوع الأخير من شهر كانون ثاني/يناير الماضي كمدخل رئيس ضمن مدخلات عملية التحليل، في الوقت الذي غابت عنهم معطيات مهمة لو توفرت عندهم لخلصت تحليلاتهم إلى غير ما أنتجته تلك التحليلات من خلاصات. ومن هذه المعطيات:
- ترعرَع الرئيس محمد كاكا في أحضان فرنسا، وحصل على رضا أميركا. وقد أهَّلته هذه الرعاية وذلك الرضا لخلافة أبيه في رئاسة تشاد من دون أدنى اعتبار لمنطوق الدستور التشادي ونصوصه الواضحة البائنة في تنظيم خلافة الرئيس عند شغور موقعه بسبب الموت أو الاستقالة أو الإقالة، وفي تخطٍ مفضوح لنظم وتقاليد المؤسسة العسكرية التي ينتمي إليها، والتي لم يكن من صفّ قيادتها الأول، بل في تجاوز تام لتقاليد التوريث في النظم الملكية، فمحمد كاكا ليس الابن الأكبر للرئيس الراحل إدريس دبي، ويتردد حديث مفاده أنَّ العلاقة التي ربطت بينهما هي علاقة تبنٍ.
مثّلت نظم الحكم المختلفة في تشاد منذ أن نالت استقلالها عن فرنسا ظلاً لفرنسا في بلادها. لهذا، لم تبادر إلى طرح مشروع وطني يحقق الاستقلال الحقيقي وينهض بالبلاد، بل أسهمت في توظيف الثروات الوطنية لمصلحة المستعمر الفرنسي وخصّته بها دون شعبها ومواطنيها.
يستمد أغلب الساسة التشاديين "مشروعيتهم" وسندهم من باريس، ثم واشنطن، وبالتالي لا مجال لتخيل أن تلك النظم يمكن أن تدير ظهرها للتوجهات الغربية بصورة عامة، ولفرنسا بشكل خاص.
يتسم المشهد السياسي في تشاد بتعقيدات كبيرة جداً، فالصراع على السلطة محتدم جداً على أكثر من صعيد؛ صراع داخل أسرة الرئيس إدريس دبي اشتعل قبل اغتياله، وتطور بعد الاغتيال، وصراع بين أطراف أسرة الرئيس دبي والرئيس الحالي محمد كاكا، وصراع بين قبيلة الزغاوة التي بسطت سلطانها على مفاصل الدولة منذ أكثر من 30 عاماً والقبائل العربية الساعية لاستعادة السلطة التي فقدتها عام 1990، علماً أن الصراع بين هذه الأطراف يبدأ وينتهي بكسب ثقة فرنسا والرضا الغربي، لأن الفائز في هذه الحلبة سيفوز حتماً في حلبة الصراع على السلطة.
من جانبها، قالت الحكومة التشادية على لسان وزير الإعلام الناطق الرسمي باسمها: "يرتبط الطلب التشادي بوجود قوات أميركية في مكان غير مصرّح لها أن تكون موجودة فيه، الأمر الذي دفعنا إلى مراسلة الجانب الأميركي لإخطاره بأن القوات الأميركية يجب أن تلتزم بالأماكن المخصصة لها".
وفي السياق ذاته، قال الفريق عبد الرحمن يوسف مري، قائد وحدة مكافحة الإرهاب في تشاد: "إن بلادنا تحتاج إلى الدعم، وليس إلى الانسحاب الأميركي، وخصوصاً بعد الحرب في السودان التي رتبت تحديات أمنية على تشاد لا يمكن مقابلتها بمفردنا. نحن بحاجة إلى مساعدة الولايات المتحدة للحفاظ على السلام على طول الحدود التشادية ومنع المشكلات في السودان من التحرك غرباً."
في المقابل، قال متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية: "نحن نجري محادثات مستمرة مع المسؤولين التشاديّين حول مستقبل شراكتنا الأمنية"، وأضاف: "بما أن تشاد تركّز على التحضير لانتخاباتها الرئاسية في 6 أيار/مايو المقبل، فإننا نتوقّع إجراء مشاورات حول معايير تعاوننا الأمني بعد الانتخابات".
ثمة معطى لا تقل أهميته عن المعطيات السابقة، وهو المتصل بزيارة الرئيس محمد كاكا لروسيا؛ تلك الزيارة التي لم توقع خلالها اتفاقيات تعاون مشترك بين تشاد وروسيا، ولم يصدر عنها بيان ختامي، كما هي العادة، يقدم ملخصاً لطبيعة الزيارة، والموضوعات الثنائية التي بحثت فيها، والمواقف المشتركة بين الدولتين في القضايا الإقليمية والدولية الراهنة.
هذا الأمر أضفى غموضاً على أهداف هذه الزيارة وطبيعتها، لم تجلِه إلا المعلومات التي تواترت من مصادر دبلوماسية وإعلامية، والتي أشارت إلى أنّ الزيارة هدفت إلى إقناع الجانب الروسي ببيع معدات عسكرية لقوات الدعم السريع التي دمر الجيش السوداني أكبر مستودعاتها في الخرطوم.
وأشارت تلك المصادر المطلعة إلى أن دولة عربية ودولاً غربية كلفت محمد كاكا بهذه المهمة، وقالت إنه استغل الطائرة ذاتها التي كان قائد الدعم السريع محمد حمدان حميدتي يستغلها في رحلاته الأخيرة، وهي تتبع للدولة العربية نفسها.
وفي ظل ما سبق من حيثيات، يصعب تبني رأي يشي بأن تشاد ستتخذ قراراً بطرد القوات الأميركية، لأن قراراً كهذا تتخذه فقط سلطة تعلي من شأن الاستقلال الوطني، وقيادة سياسية تعرف معنى الاستقلال وتقدس الحرية، وقادرة على التعبير عن تطلعات شعبها.