هل تتجه إثيوبيا نحو أفق حضاري جديد؟
توجّه إثيوبيا، حكومة وشعباً، نحو نشر اللغة العربية في المجتمع الإثيوبي، والرغبة في الانضمام إلى جامعة الدول العربية يلزم أن يحظى باهتمام عربي كبير من الشعوب والحكومات، فتعريب إثيوبيا يعني اتساع نطاق الحضارة العربية في شرق أفريقيا.
عُرفت إثيوبيا عبر تاريخ طويل باسم الحبشة، وتعدّ من أقدم الدول الأفريقية وأكبرها، فقد أثبتت الحفريات وجود الإنسان فيها قبل 200 ألف سنة. يتجاوز عدد سكانها 120 مليون نسمة، ينتشرون في مساحة تقدر بمليون ومئة ألف كـم2، نشأت فيها حضارات قديمة، وعاشت تحت ظلال حضارات كبيرة.
في القرن الثامن قبل الميلاد، تأسست في الحبشة حضارة داموت كنتاج لتلاقي حضارتين وتلاقحهما، حضارة سبأ في اليمن، والحضارة الكوشية في السودان النيلي، وقد اتخذت من اللغة الجعزية السامية لغة لها، وصلاً لما كان سائداً قبل قيام مملكة داموت. وبعد سقوط داموت في القرن الرابع الميلادي، نشأت حضارات وممالك صغيرة حافظت على اللغة الجعزية لغة رسمية لها، ثم جاءت بعد هذه الممالك والحضارات الصغيرة، حضارة أكسوم ومملكتها في القرن الأول الميلادي، وحافظت على اللغة ذاتها مع انتشار اللغة السبائية، وهنا تبرز مؤشرات العلاقات التاريخية العربية-الإثيوبية.
تمددت مملكة أكسوم شرقاً فأخضعت اليمن لنفوذها، وتوسعت في الشمال الغربي فأخضعت مملكة مروي الكوشية لنفوذها كذلك، وجعلت بعضاً من شاطئي البحر الأحمر تحت سلطانها، فباتت واحدة من أعظم ممالك ذلك العصر إلى جانب روما وفارس والصين، فعلت مكانتها، وفُتحت الأعين عليها.
وهذا ما قد يفسر هجرة القديس فرومنتيوس إليها عام 316 من موطنه في صور بجنوب لبنان لينشر فيها المسيحية، وأعقب ذلك هجرة صحابة النبي محمد (ص) إلى النجاشي ملك أكسوم الذي لا يظلم عنده أحد، وقد كان يتحدث العربية بطلاقة، ويُعدّ كل ذلك من مؤشرات تاريخ العلاقات العربية-الإثيوبية، والتفاعل الحضاري بينهما.
أثّر التواصل العربي -الإثيوبي في إيجاد مشتركات حضارية كثيرة، أهمها وأبرزها وجود المفردات العربية في اللغات الإثيوبية، التي تشكل نحو نصف مفردات اللغات الإثيوبية الرئيسة "الأمهرية والأورومية والتغرنجية"، الأمر الذي أوجد مزاجاً شعبياً فيه كثير من القواسم المشتركة التي تصلح أساساً لتكامل حضاري يعزز أواصر العلاقات ويقوّي المصالح المشتركة بين العرب وإثيوبيا وشعوبها المختلفة.
توسع انتشار اللغة العربية في إثيوبيا خلال العقود الثلاثة الماضية بشكل ملحوظ، وذلك بفضل استضافة السودان لنحو 5 مليون إثيوبي تعلموا العربية، وبفضل قبول الطلاب الإثيوبيين في المدارس والجامعات السودانية التي خرّجتهم بقدر من التأهيل مكّنهم من تبوُّء مواقع مهمة في مفاصل الحياة في بلادهم على مستوى الدولة والمجتمع، أضف إلى ذلك فتح فرص العمل في بعض الدول العربية أمام العمالة الإثيوبية، كما ساعد تدافع المسلمين الإثيوبيين على تعلم وقراءة القرآن في تنامي انتشار العربية أيضاً.
بدأت الدولة في إثيوبيا إيلاء نشر اللغة العربية اهتماماً في السنوات الأخيرة، فقد اعتمدت تدريس العربية في المدارس الحكومية منذ عام 2022 في العاصمة أديس أبابا، وأبدت الدولة رغبتها في تلقي مساعدات من الدول العربية للتوسع في هذا المنحى.
وفي تأكيد رغبتها في الاهتمام باللغة العربية، دعا رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد مواطني بلاده إلى تعلم اللغة العربية، وقال إنه سيطلب تدريسها في كل المدارس الحكومية الإثيوبية، معرباً عن أمله في دخول إثيوبيا جامعة الدول العربية "لأنه سيعود عليها بالفائدة"، جاء ذلك في لقاء جمعه مع قادة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في إثيوبيا، الأسبوع الماضي.
وحثّ آبي أحمد الإثيوبيين كافة، على تعلم اللغة العربية وإتقانها، وقال: "إن اللغة العربية هُضم حقها في إثيوبيا، وكانت تعدّ لغة للمسلمين فقط، في حين أن المسيحيين في مصر وسوريا ولبنان وفلسطين يتحدثونها"، وعبّر عن أسفه لعدم تعلّم الإثيوبيين العربية، مشيراً إلى أن ضرراً لحق بالإثيوبيين بسبب عدم تعلم اللغة العربية التي عدّها ضرورةً لتوسيع المدارك والآفاق، وأن رموز الحبشة كانوا يتحدثونها، وذكّر بإتقان النجاشي لها بطلاقة إلى جانب اللغة الجعزية.
وفي اللقاء ذاته، أكد آبي أحمد أن لبلاده تاريخاً مشتركاً مع العرب، وأن تعلم شعبه للغة العربية سيعود على بلاده بفوائد كثيرة، وسيعزز عُرى العلاقات والترابط العربي-الإثيوبي ثقافياً واجتماعياً، لأن ما يجمع إثيوبيا بالعالم العربي أكثر مما يفرقها، وأنه لولا الانفصال التكتوني للبحر الأحمر لكانت إثيوبيا جزءاً من العالم العربي.
وأعرب رئيس الوزراء الإثيوبي عن أمله في نيل بلاده عضوية جامعة الدول العربية، وقال: "إذا كانت إثيوبيا عضواً في الجامعة العربية، أو عضواً مراقباً لكان باستطاعتها التحدث عن نفسها، وليس أن يتحدث الآخرون باسمها"، ودعا أحمد "المسلمين والمسيحيين إلى أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار لأنه يفيد في تعريف الآخر بإثيوبيا، وفي عكس أوضاعنا للآخرين بأنفسنا، ويرفع ذلك شأن إثيوبيا داخل أروقة جامعة الدول العربية".
إنّ توجّه إثيوبيا، حكومة وشعباً، نحو نشر اللغة العربية في المجتمع الإثيوبي، والرغبة الإثيوبية في الانضمام إلى جامعة الدول العربية يلزم أن يحظى باهتمام عربي كبير من الشعوب والحكومات، فتعريب إثيوبيا يعني اتساع نطاق الحضارة العربية في شرق أفريقيا، ويعني قبل ذلك، إضافة قوة ديموغرافية واقتصادية وجيوسياسية جديدة إلى قوة العرب، إذ ستضيف إثيوبيا إلى القوة البشرية العربية ما يعادل ربع قوة العرب الحالية، ويفتح آفاقاً لتوسع ديموغرافي في شرق أفريقيا التي تنتشر في بعض دولها شعوب إثيوبية، كما تتعزز قوة العرب بالمكانة الإقليمية لإثيوبيا التي تحتضن الاتحاد الأفريقي الذي يضم 54 دولة، ويفتح انضمامها الآفاق نحو إيجاد حلول للأزمات العالقة بينها وبين دولتي السودان ومصر حول قضايا المياه، كما يسهم في تجنيب الدولتين مخاطر الالتفاف الصهيوني عليهما، ويخلق مناخاً جديداً يمكن من معالجة قضايا سياسية شائكة داخل هذه الدول وبينها، كما أنه سيفتح أفقاً جديداً لتعاون اقتصادي وسياسي يعزز المشتركات الحضارية التي سيتسع نطاق دوائر تأثيرها في المسرح الإقليمي.
المطلوب أدوار عربية شعبية ورسمية تجعل من اللغة العربية لغةً للتداول والتواصل الشعبي بين شعوب إثيوبيا، وتعزز من التواصل بين تلك الشعوب والشعب العربي، وترقى بالعلاقات العربية-الإثيوبية إلى مراتب أرفع، وتعرج بإثيوبيا إلى مركز حضاري كبير يعزز من مكانتها ودورها في الحاضر والمستقبل.