نتنياهو بعد "الوعد الصادق".. اللعب في الهاوية لا على حافتها!
يميل نتنياهو إلى الرهان على أن واشنطن سوف تتأقلم مع الصلف والمعاندة الإسرائيلية، وربما مع الرد الإسرائيلي على إيران في حال حدث ورَفَض نتنياهو الاستجابة لدعوة الرئيس الأميركي بعدم الرد في الأراضي الإيرانية.
ستة أشهر من التضليل والكذب والإنكار لم تكن كافية ليستفيق نتنياهو من غروره وينزل عن شجرة معاندته وكبريائه الأعمى.
لم يكتفِ هذا المهووس بإشعال الحرائق بإغراق "إسرائيل" في مستنقع الحرب على قطاع غزة، "واللعب بالنار" مع الولايات المتحدة الأميركية ورئيسها، الحليف الاستراتيجي لـ"إسرائيل"، بل ذهب إلى مغامرة مجنونة مع إيران عبر استهداف سفارتها في دمشق، فأمطَرَت إيران "إسرائيل" بمئات الصواريخ والمسيّرات، وهرب مستوطنوها مذعورين إلى الملاجئ، وتكلفت خزينتها 1.35 مليار دولار في ليلة واحدة خلال محاولاتها التصدي للهجوم الصاروخي الإيراني، فيما لجأ رئيس وزرائها ومجلس حربها إلى ملجأ مُحصنٍ تحت الأرض، لعله يعصمهم من النيران الإيرانية.
ورغم أن أصدقاء "إسرائيل" "المخلصين" لطالما نصحوا وعبروا عن مخاوفهم من أن "إسرائيل" يقودها زعيمٌ يعمل لاعتباراته الشخصية البحتة، ولا يستطيع تحقيق النصر الذي يُمنّي به شعبه منذ أشهر، وخصوصاً أن هزيمة المقاومة لم تتحقق، وعودة الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة لم تتحقق هي الأخرى، فإن نتنياهو أصر بمنطِقه المراوغ الماكر على أن يواجه تعاظم الانتقادات الداخلية والخارجية بالإشغال وصرف الأنظار داخلياً وخارجياً إلى ما هو أعظم وأكثر فتكاً، وإن كان لا بد من انهيار سقف المعبد، فليسقط على رؤوس الجميع، على قاعدة "عليّ وعلى أعدائي"، وربما "أصدقائي"، وفق منطق نتنياهو هذه المرة، فإما "أنا" وإما "الطوفان"!
يدرك نتنياهو الذي لجأ إلى استهداف سفارة الجمهورية الإسلامية في دمشق وهو في أوج أزمته الداخلية والخارجية أن لديه أكثر من عصفور ليضربه بـ"حجر" السفارة، فحربه على غزة مستمرة حتى اللحظة، ولا يلوح في الأفق القريب اتفاق للإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، وحزب الله يواصل قصف شمال فلسطين المحتلة الذي باتت مستوطناته خاوية، فيما يواصل اليمنيون تعطيل حركة الملاحة البحرية الإسرائيلية وتكبيد "إسرائيل" خسائر اقتصادية تُقدر بالملايين، والضفة الغربية توشك أن تنفجر مع تزايد عمليات المقاومة وتصاعد اعتداءات المستوطنين على حياة الفلسطينيين وممتلكاتهم، وتزداد عزلة "إسرائيل" الدولية والانتقادات الموجهة إليها.
ولا شكَّ في أنه حين قفز في الهواء باستهداف السفارة الإيرانية كان يطمح إلى أن خلط أوراق المشهد الإقليمي، وربما الدولي، سيسمح له بكسر أطواق الانتقادات الداخلية المتعاظمة على خلفية عجزه عن تحقيق أهداف الحرب على غزة، والأطواق الدولية الخارجية التي تحد من حركته ورغبته في استمرار المناورة والذهاب في الحرب إلى ما لا نهاية.
ولا بد من أن نتنياهو يدرك أن مجرد التلويح الإيراني بالرد على مغامرته سيعيد الاصطفاف الداخلي الإسرائيلي حوله، وكذا التضامن والالتفاف الدولي.
واللافت كذلك أن كثيراً من الخبراء الاستراتيجيبن صرّحوا بأعلى صوتهم بأن ضرب السفارة الإيرانية في ظل الظروف الراهنة يتناقض حتى مع المصالح الإسرائيلية ومع نظرية الأمن الإسرائيلية في فتح جبهة قتال جديدة قبل، على الأقل، إغلاق جبهات أخرى مفتوحة ومشتعلة تستعصي هي الأخرى على الكسر والحسم.
ربما توهّم نتنياهو وهو يُفسد في الأرض طولاً وعرضاً أن ظهره آمن بتحالف "إسرائيل" القوي مع الولايات المتحدة التي تدافع هي الأخرى عن نفسها وهيبتها وصورتها، لكن حاجة "إسرائيل" هذه المرة، كما في حرب الأشهر الستة التي مضت على غزة حتى الآن، إلى الدعم الأميركي في مواجهة إيران وصواريخها، يكشف بشكل صارخ تأكّل الردع الإسرائيلي، إلى درجة أن "إسرائيل" لم تستطع أن تتعامل مع تهديد يبدو أنه أكبر من قدرتها ومن غطرستها من دون دعم الولايات المتحدة منقطع النظير.
ومع ما أشارت إليه تقارير صحافية إسرائيلية وغربية من أن وزير الدفاع الأميركي ومسؤولين آخرين في البنتاغون أعربوا عن إحباطهم من حقيقة أن "إسرائيل" لم تُبلغ الولايات المتحدة مسبقاً بالهجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من أبريل/نيسان الجاري، إلا أن أوستين أكد لوزير حرب العدو غالانت "موقف الولايات المتحدة الثابت في الدفاع عن إسرائيل"، وأن "إسرائيل يمكنها أن تعتمد على الدعم الأميركي الكامل للدفاع عنها ضد أي هجمات من قبل إيران ووكلائها الإقليميين"، وهو ما تمثل فعلاً في اعتراض طائرات الولايات المتحدة ودول أخرى تسير في الفلك الأميركي الإسرائيلي بعض المسيرات القادمة من طهران قبل أن تدخل حدود أراضي فلسطين التاريخية، وبما كلّف الولايات المتحدة وحدها مليار دولار قيمة الصواريخ الاعتراضية التي أطلقتها على مسيرات إيران وصواريخها، وفق صحيفة "ميكور ريشون" العبرية.
يميل نتنياهو إلى الرهان على أن الولايات المتحدة سوف تتأقلم مع الصلف والمعاندة الإسرائيلية، وربما مع الرد الإسرائيلي على إيران في حال حدث ورَفَض نتنياهو الاستجابة لدعوة الرئيس الأميركي بعدم الرد في الأراضي الإيرانية.
تدرك الولايات المتحدة أن نتنياهو يعتبر الرد الإيراني فرصة مؤاتية قد لا يود التفريط فيها، لجرها، أي الولايات المتحدة، إلى مربع مواجهة لا تريده، وبالتأكيد ليس في وارد حساباتها في هذه الفترة الحرجة التي تسبق الانتخابات الأميركية، مع ما يضيفه هذا التصعيد إلى مجمل الأذى والضرر الذي سببته حرب "إسرائيل" على غزة للولايات المتحدة ولمصالحها وصورتها أمام العالم.
كثيرة هي الإشارات المُحذرة والمتوعدة التي وصلت من إيران قبيل الهجوم الإيراني الجارف على "إسرائيل"، ولا شك في أن الإيرانيين يحسبون الأمر بميزان الذهب حين يرتبط الأمر بأمنهم القومي ارتباطاً مباشراً، فقد قامت إيران باستعداداتها الدبلوماسية، وأوصلت الرسائل المناسبة إلى جميع الأطراف، وكانت معنية وحريصة على توطئة العالم والإقليم استعداداً لما أقدمت عليه يوم أمس، وبما يرسم حدود ومعالم وقواعد ما قد تؤول إليه مسارات المواجهة القادمة، وخصوصاً في حال ذهبت "إسرائيل" إلى الرد على الضربات الإيرانية داخل حدود أراضي الجمهورية الإسلامية.
أما بالنسبة إلى "إسرائيل"، التي استنزفتها إيران نفسياً إلى الحد الأقصى بتأنّيها اللافت المدروس قبل أن تُمطرها بمسيّراتها وصواريخها، فإن مستوى الهوس والهستيريا الحاليين في وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية الإسرائيلية ربما يعزز القناعة لدى الإسرائيليين بأن المصلحة الإيرانية الواضحة هي في الرد المنضبط من دون الرغبة في الانجرار إلى حرب إقليمية مفتوحة يسعى إليها نتنياهو لاعتباراته الشخصية.
في العادة، لا يكون رد الفعل المباشر لدى الإيرانيين إلا خطوة رمزية، لأنهم يدركون أنها ستكون معركة لا رابح فيها، وهذا ما فعلته إيران حين استهدفت قواعد أميركية في العراق رداً على اغتيال قاسم سليماني، لكنها وضعت أهدافاً استراتيجية تدرك أنها ستكون أكثر إيذاء للأميركيين من خلال إعداد منظومة في العراق تستنزف الوجود الأميركي.
أما في الحالة الإسرائيلية، ورغم أن الإيرانيين يتبنون سياسة زيادة ثغرات تهديد الأمن الإسرائيلي استراتيجياً من دون الدخول في مواجهة شاملة ومفتوحة مع "إسرائيل"، على الأقل حالياً، فإنَّ إيران توصلت هذه المرة، وفي أعقاب استهداف سفارتها في دمشق، إلى نتيجة مفادها أن خطر المواجهة العسكرية الشاملة يوازي خطر عدم الرد، الأمر الذي من شأنه الإضرار بقدرتها على الردع ضد "إسرائيل".
لذا، لم تتخلَ عن الرد المباشر، وقد فعلت، فهل تعي "إسرائيل" الدرس وتقف عند هذا الحد وتتفادى التصعيد، وخصوصاً أن طهران أكدت أنها "تكتفي بهذا الرد وانتهى الأمر"، وأنها لن تتردد في اتخاذ المزيد من الإجراءات الدفاعية لحماية مصالحها في مواجهة أي عدوان عليها؟ وهل يستمر نتنياهو في اللعب في الهاوية ويجر الولايات المتحدة معه إليها أم أنّ الرئيس بايدن سيكون قادراً على كبح جماح انفلاته ولجم نزواته الشخصية!