مواقع التواصل الاجتماعي.. ساحة أخرى من ساحات معركة "طوفان الأقصى"
يبدو أن المعركة الإعلامية لا تقلّ خطورة عن المعارك العسكرية، كيف لا وهي من يسهم في صناعة الرأي العام الذي يقوم بدوره في الضغط على الحكومات لانتهاج سياسات معينة!
أدت مواقع التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في نقل الأحداث الجارية في غزة، وخصوصاً أنها تتمتع بحرية أكبر من وسائل الإعلام الرسمية أو حتى الخاصة التي يكون لها عادة سياسات تتوافق مع توجهات مموليها وأهدافهم.
وباتت تلك المواقع المصدر الأساس في تكوين الرأي العام لدى العديد من الدول، وهو ما انعكس بمواقف شعبية تعتبر متقدمة جداً في دعم القضية الفلسطينية وإدراك أبعادها.
المفيد في الأمر أن غالبية رواد تلك المواقع من الشباب، ما أسهم في تعريف جيل كامل بتلك القضية، وخصوصاً أن النشء منهم لم يعوا أي مواجهة بهذا الحجم بين الفلسطينيين وحكومة الاحتلال المجرمة.
بعض تلك المنصات كانت أكثر حرية من غيرها، إذ سمحت بنشر كل ما أراده مستخدموها. أما باقي المواقع، فقد أدت دور المنحاز للتغطية على جرائم الكيان بذريعة منع مشاهد العنف أو العبارات التي تدعو إلى التحريض وسوى ذلك من أشياء.
المشكلة أن التطبيقات الأكثر استخداماً من قبلنا نحن العرب هي الأكثر عداء لقضيتنا، وهو ما يحتم علينا، دولاً وحكومات وأفراداً، إجراء مراجعة دقيقة لما نستخدمه، والسعي إلى استبداله بغيره من التطبيقات التي تمتلكها حكومات صديقة أو شركات غير متطرفة أو منحازة إلى الكيان الصهيوني.
أفضل تلك المواقع
ربما نختلف على تحديد أفضل تلك المواقع، لكننا نتفق على أن "فيسبوك" كانت أسوأ منصة في هذا المجال، إذ عمدت إلى حجب الكثير من المنشورات والتعليقات والتحليلات التي تخدم الرأي العربي وتعبر عن توجهاته.
وكان رئيس الحكومة الفلسطينية محمد اشتية قد تحدث قبل عام عن أن المحتوى الفلسطيني في "فيسبوك" يشهد حملة شرسة وظالمة، مطالباً إدارة الموقع بوقف ذلك واحترام وجهة النظر الفلسطينية، والتعامل بحيادية وموضوعية مع القضية الفلسطينية، وعدم الانحياز إلى الكيان الصهيوني.
شركة "ميتا" المالكة لمنصات (فيسبوك وإنستغرام وواتسآب وثريدز) كانت الأكثر تلاعباً ببيانات مستخدميها، وهو ما دفع العديد منهم إلى التوجه إلى منصات أخرى أكثر قبولاً لأفكارهم.
ومع نهاية الأسبوع الأول من عملية "طوفان الأقصى"، قامت شركة "ميتا" بحذف أكثر من 795 ألف منشور باللغتين العربية والعبرية، بعد تلقيها انتقادات كبيرة من الاتحاد الأوروبي لنشرها منشورات وصفها بأنها "مزعجة أو غير قانونية" فيما يتعلق بالحرب التي تشنها "إسرائيل" عل قطاع غزة.
وكانت شركة "ميتا" قد تراجعت في الآونة الأخيرة بشكل كبير نتيجة الضغط الإعلامي، والحديث عن الخلل الكبير في تعاطيها مع حرية الرأي والتعبير في المنطقة، والتباين في السياسات وازدواجية المعايير التي تطبقها.
وكان الاتحاد الأوروبي قد وضع في وقت سابق من هذا العام ما سمي "قانون الخدمات الرقمية لدى الاتحاد الأوروبي"، إذ طالب الشركات بضرورة توظيف المزيد من مراقبي المحتوى المنشور والعمل على الحد من نشر المعلومات الخاطئة، على حد زعمه.
"إنستغرام"، باعتباره منصة للفيديوهات، كانت الرقابة عليه أقل، مع أنه مملوك للشركة التي تمتلك "فيسبوك"، بمعنى أنه كان صعباً على الشركة فرض رقابة صارمة عليه كما حدث في "فيسبوك". وجود "فيسبوك" و"إنستغرام" و"واتسآب" بيد مارك زوكربيرغ يمثل خطورة كبيرة لجهة تلاعبها بالرأي العام، وخصوصاً أنها التطبيقات الأكثر شيوعاً واستخداماً في دولنا.
أما "تلغرام" ومنصة "إكس"، فقد كانتا أفضل، إذ كان مالكهما إيلون ماسك واضحاً وبشكل كبير، وأعلن أن شركته لن تتدخل في المحتوى المنشور، فكانت هاتان المنصتان محايدتين إلى حد ما.
الخوارزميات وفلترة ما نقوم بنشره
المنطق يقول بأن تكون هذه الخوارزميات محايدة ليقتصر دورها على مضاعفة ظهور الحدث الذي يتم نشره بشكل أكبر، وبالتالي القيام بعرضه على عدد أكبر من المستخدمين، لكن ما حدث يبدو أنه مختلف في كثير من الأحيان، إذ قام "فيسبوك" بحذف المنشورات الأكثر مشاهدة وتفاعلاً، بل وحتى قام بإغلاق صفحات كاتبيها أو على الأقل تقييد حساباتهم، وهو ما يعني أن خوارزمياته لديها القدرة على تعديل دورها الافتراضي، وبالتالي تجاهل المحتويات الأكثر اهتماماً، وتسليط الضوء على غيرها وفقاً لتوجهات تلك المنصة، ما يفرض علينا إعادة النظر بالمشاهير الذين ربما استطاع "فيسبوك" تصنيعهم والترويج لهم، فيما أسهم في التعتيم على الكثير من الشخصيات المهمة والأفكار القيمة.
عدم التحيز أو التلاعب بالمعايير الحاكمة لقواعد "حماية المجتمع" داخل الفضاء الإلكتروني يبدو أنه كان مجرد شعارات لعالم أدرك أهمية الإعلام كسلاح في مواجهة الآخر.
أما الخوارزميات في منصة "إكس"، فيبدو أنها كانت غير منحازة، وبالتالي كان دورها يقتصر على القيام بمعادلات معينة تتمكن من خلالها من معرفة الحدث الأكثر انتشاراً لتقوم بمضاعفة عرضه على الجمهور.
الكيان الصهيوني ومواقع التواصل
كانت حكومة الكيان الصهيوني الأكثر إدراكاً لأهمية الحرب الإعلامية الجارية في منصات التواصل الإلكتروني. لذا، تم تعيين حنانيا نفتالي الذي يعد أبرز المؤثرين في الإنترنت لإدارة الحرب الإعلامية الجارية في مواقع التواصل الالكتروني.
يوصف حنانيا بأنه مقرّب جداً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ونجله يائير ورئيس الكنيست الإسرائيلي أمير أوحانا. وكان قد أدى دوراً في الترويج للرواية الإسرائيلية التي زعمت أنّ حماس هي من استهدف مستشفى المعمداني في غزة الذي راح ضحيته 470 شهيداً فلسطينياً.
حنانيا نشر بعض التغريدات في منصة "إكس"، لكنه عاد وحذفها بعد كم التعليقات التي انتقدته وانتقدت موقف حكومته التي باتت اليوم ترتكب أفظع المجازر بحق أهلنا المحاصرين في غزة.
الرابح من تلك الحرب
يبدو أن منصة "إكس" كانت الأكثر استفادةً من هذه الأحداث، إذ أصبحت المنصة الوحيدة التي ينشر فيها المستخدمون محتواهم من دون قيود متشددة إلى حد ما. وقد استطاع إيلون ماسك التمسك بسياساته رغم كل الضغوط التي مورست عليه، إذ اكتفى بوضع خيار أمام الفيديوهات والصور يتيح للمستخدمين المشاهدة أو عدمها، من دون اللجوء إلى اتخاذ قرار الحذف السريع أو وقف الحسابات ما دام المحتوى مندرجاً تحت بند "حرية الرأي والتعبير".
كما أن ماسك كان قد سرح عدداً كبيراً من الموظفين الذين كانوا يقومون بمراقبة المحتوى المنشور، إذ تقلص عددهم من 230 موظفاً إلى 20 موظفاً.
لذا، كان عدد التغريدات المحذوفة في منصة "إكس" قليلاً جداً مقارنة بما تم حذفه في "فيسبوك" و"إنستغرام" على سبيل المثال. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن موقف ماسك لم يكن نابعاً من قضية مبدئية أو دفاعاً عن حرية التعبير والرأي، بقدر ما كان موقفاً تجارياً بحتاً، وكان المحرك والدافع له هو حسابات الربح والخسارة ولا شيء سواها.
الخدمة المدفوعة من منصة "إكس" أدت إلى انتشار المعلومات من دون رقيب. والمهم في الأمر أن صاحب الحساب دفع الرسوم المطلوبة، فالملياردير الأميركي وجد في الأحداث في غزة فرصة لإعادة البريق إلى منصة "إكس" (تويتر سابقاً) لتعويض الخسائر التي منيت بها بعد فرضها تعديلات خاصة بإتاحة المحتوى لقاء مقابل مالي، وسياسات التوثيق ومدى تدفق التغريدات، وسوى ذلك من التعديلات.
وعلى الرغم من إعلان الرئيسة التنفيذية لشركة "إكس" ليندا ياكارينو في 12 تشرين الأول/أكتوبر حذف مئات الحسابات التابعة لحركة حماس، وقولها إن المنصة اتخذت إجراءات لحذف أو تصنيف عشرات الآلاف من المحتويات منذ عملية "طوفان الأقصى"، فإنَّ حسابات ماسك وسياساته ساعدت في إيصال صوت معتدل إلى حد ما حول القضية الفلسطينية، وهو ما لم تسمح به فيسبوك ومشتقاتها.
البعض يرى أن مواقع التواصل باتت عرضة للاتهامات من الجانبين العربي والإسرائيلي، فكلا الطرفين يتهمها بالانحياز والافتقار إلى الحياد والمسؤولية.
مراعاة معايير المجتمع هي شرط ثابت وقديم لدى تلك المواقع، إذ تمنع نشر المقاطع المسيئة والمشاهد العنيفة والخطابات الداعية إلى الكراهية وسوى ذلك من الاشتراطات التي تحظى بتوافق الجميع إلى حد كبير.
لكن الجديد في الأمر هو قيام تلك المواقع بإخفاء وجهة نظر طرف مراعاة لمصالح الطرف الآخر، إذ رأينا قيامها بحذف مقالات فكرية وحوارات أكاديمية لشخصيات مهمة لا يمكن لأحد اتهامها بالتحريض على العنف أو الترويج لخطابات الكراهية.
تم ذلك من خلال منع الوصول إلى كلمات معينة مرتبطة بالحدث أو حذف المحتوى كله أو حتى حذف الحسابات التي تقوم بالنشر أو تقييدها على أقل تقدير.
أما تطبيق "تيك توك" الصيني، فقد حقق مليارَي مشاهدة رغم كل التحذيرات التي وجهها الاتحاد الأوروبي إلى الشركة، متهماً إياها بالسماح بنشر معلومات غير صحيحة، وعدم مراعاتها القوانين المعمول بها في حماية الأطفال والمراهقين وسوى ذلك من الاتهامات.
وكانت شركة "تيك توك" قد أعلنت حذفها أكثر من 925 ألف مقطع فيديو تم تصويره في غزة لانتهاكها السياسات المتعلقة بمشاهد العنف ونشر معلومات مضللة. كما قامت بحذف 24 مليون حساب مزيف منذ بدء الحرب.
يبدو أن المعركة الإعلامية لا تقلّ خطورة عن المعارك العسكرية، كيف لا وهي من يسهم في صناعة الرأي العام الذي يقوم بدوره في الضغط على الحكومات لانتهاج سياسات معينة!
أما الشركات المالكة لتلك المواقع، فمن غير المتوقع أن تتنازل عن دورها في "التلاعب بالعقول" ما دامت تلك العقول فارغة أو غير محصنة بالشكل الكافي الذي يتيح لها إمكانية التمييز بين "السيئ والأسوأ"، في عالم بات فيه "الجيد" يكاد يكون غير موجود.