مليونية أفندي الصوفية والاستثمار السياسي!
أدنى متابعة للمشهد التركي قبيل الانتخابات، تكشف طبيعة السلبية الصوفية، وبراعة الطبقة السياسية التركية في استثمار هذه السلبية بما فيها.
كانت جنازته مليونية بامتياز، وربما هي الأكبر في تاريخ تركيا المعاصرة؛ إنها جنازة المرشد الروحي لأكبر جماعة صوفية في تركيا، الشيخ محمود أفندي وقد تجاوز التسعين عاماً من عمره الحافل في تجذير معالم الصوفية في كامل النسيج الاجتماعي التركي، وهو تجذير طالما ظهرت ثماره في مفارق طرق التاريخ التركي برمته، حتى ما قبل الدولة التركية الحديثة، عودة إلى بدايات النهضة العثمانية عندما نشأ عثمان بن آرطغرل؛ كتلميذ صوفي بين يدي شيخه أديب علي، ليبسط كامل نفوذه الروحي والنفسي على شتى مناحي الحياة العثمانية.
اصطف الزعيم التركي إردوغان بالأمس بين يدي شعبه، ليشارك في حمل نعش الشيخ محمود، في سلوك سياسي بارع، طالما تداعت له الطبقة السياسية التركية بمختلف مشاربها، حتى في زمن أتاتورك؛ باني تركيا العلمانية على أنقاض العثمانية بشقيها الديني والأممي، فقد حافظ أتاتورك على دفء العلاقة مع مشايخ الصوفية حتى وهو ينقض غزل العثمانية المتداخلة مع الصوفية تداخلاً يستحيل فصله، وهو دفء لم تبرّده قرارات الحظر الرسمي للمدارس الصوفية وتكاياها، فقد طوى الحظر المؤسسات الرسمية للتصوف، لكنه في الواقع أطلق لها العنان، وإن من دون قصد، لتكون مظلة التديّن الشعبية الوحيدة، يأوي إليها العامّة ويتمسح بقربانها السياسيون، باعتبارها طيفاً روحياً وعلاجاً نفسياً لما خلّفته العلمانية الغربية القادمة عبر المحيطات.
زهدت الصوفية بالسياسة على الدوام، ولكنه زهد حفّه الغموض في تركيا بعد خمسينيات القرن الماضي، خاصة مع بزوغ نجم محمد زاهد كوتكو، زعيم جماعة إسكندر باشا، وهي الجماعة التي خرج من عباءتها نجم الدين أربكان، ثم لاحقاً حزب العدالة والتنمية وزعيمه الحالي إردوغان، ولعل الدور الذي لعبه زاهد كوتكو بالدمج بين التصوف والسياسة، وما تمخض عنه عبر العقود الراهنة حتى الآن، دفع للاعتقاد بأن التصوف أضحى الحاكم الفعلي غير المباشر لتركيا، وهو اعتقاد يقوم على قرائن وشواهد عامة، مثل وصول حزب العدالة للسلطة، ومن قبله حزب الرفاه، بخلفيّتهما الإسلامية العامة، ولكن ذلك في جملته ينسفه ما تمخض عنه الواقع التركي الراهن عبر العقود السالفة.
ويرتبط هذا الواقع التركي بالسياسات الغربية طوال العقود الماضية، باعتباره جزءاً من حلف "الناتو" بقيادة أميركا، ثم علاقته الثابتة بالكيان العبري على المستويات الأمنية والاقتصادية كافة، وهو واقع يتناقض بشكل قاطع مع طبيعة الصوفية في إطارها العام، وقد حافظت عبر التاريخ على تناقضها التام مع القوى الخارجية صليبية أو مغولية، غربية أو شرقية، وهي رغم زهدها بالسياسة، اندفعت في مواجهة المستعمر، وهو ما ظهر بقوة في حقبة الاستعمار الغربي الحديث الذي طال شتى الأقطار العربية والإسلامية، بما يؤكد أن الطبقة السياسية الفاعلة في تركيا منفصلة عن الجوهر الصوفي.
والصوفية في شقها الاجتماعي، محافظة على الحشمة والأخلاق العامة، وهي محافظة تتناقض بشكل حادّ مع الواقع التركي الرسمي الذي تديره قوانين لا توجد حتى في "تل أبيب" أو واشنطن في جانب تجاوزها للقيم الدينية والاجتماعية، بما لا يتفق مع بديهيات التصوف وحساسيته الشديدة ضد الفاحشة والعري والقمار، والنمط الغربي الاجتماعي بكليته، بما يؤكد أن التصوف الذي أرسى دعائم العثمانية، والذي يتم استحضار بعض مظاهره الآن في المسلسلات التاريخية التركية، باعتباره طريقة للعيش وفق النمط الإسلامي الاجتماعي، بكل "حافزيته" ضد الأطماع الغربية، لا يمكن أن يكون هو بالفعل من يقود تركيا.
وما دامت الصوفية في معازلها التركية حتى الآن، سياسياً ورسمياً على الأقل، فما الذي يديم عزلتها؟ وما هي المسافة بينها وبين حزب العدالة بزعامة إردوغان؟
الصوفية التركية سواء كانت نقشبندية وقادرية وبكتاشية، أومولوية وخلوتية، جوهرها متصل قديماً بطبيعة القبائل التركمانية وترحالها الدائم، في تبسيط مكثف للحياة، وهو تبسيط يعكس حقيقة التصوف باعتباره زهداً بالدنيا وهياماً بالذات الإلهية، وهو ما عزّز ترفّعه عن السياسة ومتعلقاتها الدنيوية من دون وعي بتداخل الدنيا بالآخرة في شمولية الدين الإسلامي لكل مناحي الحياة، خاصة وقد تلبّس الواقع المعاصر بانحراف حادّ عن قيم الإسلام التي ينادي بها التصوف.
أدنى متابعة للمشهد التركي قبيل الانتخابات، تكشف طبيعة السلبية الصوفية، وبراعة الطبقة السياسية التركية في استثمار هذه السلبية بما فيها شعبيّ، وهو زخم يحصد أكثر من مليون ناخب في إسطنبول وحدها، والأمر لا يقتصر على حزب العدالة، إنما يشمل جميع الأحزاب على اختلافها، ولكن نظراً إلى خلفيّة حزب العدالة، وانحدار بعض شخصياته من الصوفية، فإن باعه أطول في ذلك، وينافسه أيضاً حزب فتح الله غولن، وهو المتهم بالمحاولة الانقلابية سنة 2016.
تنازع الحلبة الحزبية على استقطاب الأصوات الصوفية في الانتخابات، مقابل فتح مسجد هنا أو مدرسة هناك، بما فيها حزب غولن الذي يقيم في واشنطن، وهو حزب يبسط هيمنة واسعة على المراكز التعليمية الدينية غير الرسمية، بما يقرع جرس الإنذار الأخير لتنأى الصوفية بنفسها عن هذا التنازع، أو لتأخذ زمام المبادرة بنفسها فتشق طريقها تبعاً لصفاء فكرتها، غير متلبسة بأدران الواقع الراهن بما فيه من ارتهان وسفور في السياسة والاقتصاد.