مطالبة إثيوبيا بمنفذ بحري.. قراءة أولى في الحيثيات
صمتت دول جوار إثيوبيا على حديث آبي أحمد الذي عدّه بعض المراقبين إشارة خطيرة لمستقبل غير آمن للمنطقة، غير أن أرتريا وحدها من بين تلك الدول تعاطت مع ذلك الحديث بخطوات عملية لأنها عدّته تمهيداً للحرب معها.
بعد ربع قرن من حرمان أرتريا لإثيوبيا من استغلال ميناءي عصب ومصوع، على إثر دخول الدولتين في حرب دامية نتيجة الخلاف على ملكية منطقتَي بادمبي وزالامبسا، والذي حرم أديس أبابا ميزة الوصول إلى البحر الأحمر، وبعد أن تعززت علاقات إثيوبيا الإقليمية والدولية، وبعد انضمامها إلى منظمة "بركس" بسبب موقعها الجيوسياسي، وقوتها الديموغرافية وقدرتها الاقتصادية، بعد كل هذه التطورات، جددت إثيوبيا مساعيها للحصول على إطلالة على البحر الأحمر.
وفي هذا السياق، عبّر رئيس وزراء إثيوبيا منتصف شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي عن ضرورة حصول بلاده على منفذ بحري على البحر الأحمر، وقال: "إن حصول إثيوبيا على منفذ بحري على البحر الأحمر مع تزايد عدد السكان ليس ترفاً، بل مسألة حياة أو موت، وأن الحصول على المنفذ مسألة وجودية بالنسبة إلى إثيوبيا".
وأضاف أحمد: "يتعين على الدول المجاورة عقد صفقات لتحقيق المنفعة المتبادلة، وشدد على "ضرورة مناقشة الخيارات المتاحة أمام إثيوبيا للحصول على منفذ بحري علناً من دون مواربة، حتى لا تنجرف بلاده إلى الفقر المدقع، مؤكداً أهمية أن يجري القادة في دول شرق أفريقيا، محادثات حول الوسائل والسبل التي من شأنها أن تسهم في تحقيق السلام المستدام، وقدّم عرضاً بالشراكة في عائد الكهرباء المنتجة من سد النهضة أو في شركة الخطوط الجوية الإثيوبية مقابل الحصول على المنفذ البحري".
ربط أحمد بين البحر الأحمر ونهر النيل، وقال إنهما ثنائيان يحددان مصير إثيوبيا، وأساس تنميتها أو تدميرها، وأنه من غير المعقول ألا نناقش موضوع الوصول إلى موانئ البحر الأحمر، بينما تتمتع الدول الأخرى بحقوق مناقشة نهر النيل والأنهار الأخرى العابرة للحدود".
يذكر أن الإمبراطورية الإثيوبية حافظت على إطلالة على البحر الأحمر لقرون مضت، وكان الحرص على هذه الإطلالة سبباً في توسعها شرقاً نحو البحر، حيث استخدمت لفترات طويلة ميناء عصب الذي يبعد عن أديس أبابا 1177كلم، وميناء مصوع الذي يبعد عنها 894 كلم.
لجأت إثيوبيا إلى السودان ودولة صومالي لاند (غير معترف بها دولياً) ثم إلى جيبوتي لإيجاد موانئ بديلة من ميناءي عصب ومصوع بعد قطع علاقاتها مع إثيوبيا عام 1998، وأبرمت اتفاقية مع هذه الدول في عام 2018 لاستخدام موانئها، لكنها تراجعت عن اتفاقها مع السودان بسبب عدم موافقته على منحها حقوق السيادة على ميناء سواكن الذي يبعد عن أديس أبابا مسافة 1192 كيلومتراً، واعتمدت على موانئ جيبوتي وصومالي لاند في عمليات الصادر والوارد.
تسعى إثيوبيا التي يبلغ عدد سكانها 127 مليون نسمة (ثاني تعداد سكاني في أفريقيا بعد نيجيريا)، ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي فيها حسب تقدير عام 2021 نحو 127 مليار دولار، تسعى إلى إعادة بناء قواتها البحرية التي تفككت بعد نيل أرتريا استقلالها بعد أن صادق البرلمان الإثيوبي على قانون يكفل لها ذلك في كانون الأول/ديسمبر2018، وبعد توقيعها اتفاقاً مع فرنسا في 14 آذار/مارس 2019 لمساعدتها في بناء قواتها البحرية، وتدشين أسطولها البحري ليعزز مكانتها الإقليمية بوصفها القوة الديموغرافية الأكبر في القرن الأفريقي، وللحصول على مكاسب اقتصادية وسياسية في البحر الأحمر والمحيط الهندي.
صمتت دول جوار إثيوبيا على حديث آبي أحمد الذي عدّه بعض المراقبين إشارة خطيرة لمستقبل غير آمن للمنطقة، غير أن أرتريا وحدها من بين تلك الدول تعاطت مع ذلك الحديث بخطوات عملية لأنها عدّته تمهيداً للحرب معها، خاصة في ظل تواتر معلومات نشرتها مجلة "ناشونال إنترست" تفيد بإرسال إثيوبيا طائراتها إلى دولة الإمارات للصيانة، وتفيد كذلك بحصولها على مسيّرات تركية.
لهذا، عقد قادة الجيش الأرتري سلسلة اجتماعات بدأت في العاصمة الأرترية أسمرا استمرت من 22 – 25 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، ترأسها الجنرال فيليبوس ولدى هانس رئيس أركان الجيش، أعقبتها لقاءات تعبوية مع الحاميات العسكرية الأرترية المنتشرة على طول الحدود المشتركة مع إثيوبيا، وتم التوجيه بوضع خطة عسكرية محكمة لصد أي هجوم عسكري إثيوبي مباغت ووضع الترتيبات اللوجستية والبشرية اللازمة للحرب القادمة.
يجيء حديث رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد حول فك احتباس بلاده بحصولها على منفذ بحري في ظروف داخلية عصيبة، إذ تعاني إثيوبيا منذ نحو 4 سنوات من صراعات داخلية بالغة التأثير في تماسك الدولة ووحدتها السياسية والوطنية، بسبب الحروب والصراعات القائمة بين أطراف الدولة بمكوّناتها القبلية وبين المركز، إذ يشهد عدد من أقاليم إثيوبيا تمرداً على الدولة وبخاصة من قومية الأورومو التي تمثل نحو 40% من عدد السكان، وتمرداً من قومية الأمهرا التي تعدّ القومية الثانية من حيث عدد السكان، إذ تبلغ نسبتها إلى مجمل السكان نحو 30%، هذا فضلاً عن الرواسب التي خلفها صراع قومية التغراي مع المركز، والذي استمر لمدة عامين انتهى باتفاقية بروتوريا عام 2022 بعد أن عمّق من الأزمتين السياسية والاقتصادية في البلاد.
وينظر إلى مشروع آبي أحمد بوصفه مشروع هروب من أزمة الحكم التي برزت إلى الوجود بعد غياب رئيس الوزراء الأسبق ملس زناوي الذي استطاع في حقبة حكمه استرضاء القوميات عبر نظام الحكم الفدرالي القائم على البعد القومي، كما ينظر إلى هذا المشروع كرافعة جديدة تنقل إثيوبيا من واقع الأزمات في محيط إقليمي يعاني من الهشاشة والتفكك، إلى مستقبل جديد يقوم على أمجاد الإمبراطورية الإثيوبية التي بسطت سلطانها على معظم جغرافيا القرن الأفريقي ووظفت مواردها على النحو الذي ابتدعته الدول الكولنيالية.
يطرح هذا المشروع أسئلة كبرى حول قدرة إثيوبيا على تحقيق تطلعاتها، في ظل ظروفها الداخلية، وعن قدرتها على دخول حرب، وعن تداعيات الحرب حال نشوبها على الأوضاع في القرن الأفريقي، وانعكاساتها الإقليمية، وتداعياتها الدولية، كما يطرح أسئلة أخرى حول الأبعاد والشراكات الإقليمية والدولية في هذا المشروع، وما إذا كان له صلة بالصراعات الإقليمية القائمة في حوض البحر الأحمر وعليه، والصراع العربي- الصهيوني، وبشكل خاص بعد التطورات التي صنعها اليمن في مدافعاته التي دخلت عامها التاسع، والسؤال الذي لا يقل أهمية عن ما سبقه من أسئلة، هو صلة هذا المشروع بالصراع الدولي على أفريقيا بصفة عامة، وعلى شرقها بصفة خاصة.