مشروع تركيا القومي: الطريق نحو طوران
دعم تركيا للأتراك القبارصة وسعي إردوغان للوصول إلى دور فعّال في المعادلة الأفغانية يصبّان في تحقيق الحلم الطوراني. والسؤال هنا: إلى متى سيبقى إردوغان مختبئاً تحت عباءة الخطاب الإسلامي الإخواني؟
في أواخر القرن التاسع عشر، وبينما كانت الإمبراطورية العثمانية تعيش عصر انهيارها المتسارع بعد الهزائم التي مُنيت بها في منطقة البلقان، في مواجهة روسيا وبلغاريا وصربيا واليونان، وفي الوقت الذي كان العرب والأرمن والكرد يعبّرون بقوة عن الظلم الّذي يلحق بهم بسبب هيمنة العنصر التركي على الإمبراطورية العثمانية بكل مفاصلها، وخصوصاً العسكرية والسياسية والاقتصادية، ظهرت شعارات قومية تركية تُدعى "الطورانية".
حينها، اعتبر بعض الأتراك أنَّ عليهم مواجهة صعود المطالب القومية للعرب والكرد والأرمن، عبر إيجاد إمبراطورية بديلة من الإمبراطورية العثمانيّة تضمّ القوميات التركية فقط، وتمتد من أواسط آسيا على الحدود من الصين، حتى بحر قزوين والقوقاز وتركيا الحالية.
وفي بداية القرن العشرين، أصبحت جمعية "الاتحاد والترقي" هي الحركة السياسية التركية التي توجّه مقدرات الدولة العثمانية وتدير شؤونها، منذ الانقلاب الدستوري في العام 1908 حتى هزيمة الدولة في الحرب العالمية الأولى وتوقيع معاهدة "مودروس" في العام 1918.
في ذلك الوقت، كان لليهود والدونمة تأثير كبير في دوائر جمعية "الاتحاد والترقي"، فالنائب اليهودي أيام السلطنة العثمانية إيمانويل قراصو هو أحد الأدمغة المفكّرة البارزة في الجمعية، وجاويد بك من الدونمة كان وزيراً للمالية وذا نفوذ كبير في الحكومة، وكان رئيس مكتب الصحافة يهودياً من سالونيك، وكان منصبه يتيح له إيقاف أي صحيفة وتقديم المسؤول فيها للمحاكمة، كذلك كان رئيس دوائر الشرطة ومستشار وزارة العدل يهوديين.
والدونمة هم فرقة يهوديّة ظهرت في القرن السابع عشر في السلطنة العثمانية. قال مؤسّسها سبتاي زيفي إنه جاء لينقذ بني "إسرائيل" ويجمع اليهود في أرض الميعاد. وبعد أن ضيّقت عليه الدولة العثمانية، وحاولت محاكمته بتهمة تهديد أمن الدولة، اعتنق الإسلام هرباً من العقاب الذي كان من الممكن أن يودي بحياته. ومن حينها، اعتنق مناصروه الإسلام ظاهرياً، وأخفوا يهوديتهم، وحملوا اسم الدونمة.
كان الفكر السّياسي لجمعية "الاتحاد والترقي" يؤكّد الأفكار الطورانية التي استحوذت على عقول العديد من النخب الثقافية التركية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. أيّدت جمعية "الاتحاد والترقي" بقوة الفكر الطوراني، وكان شعارهم عدم التدين، وإِهمال الجامعة الإِسلاميَّة، إِلا إِذا كانت تخدم القومية الطورانية، فتكون عندئذٍ وسيلةً لا غايةً.
هذه الأفكار كانت وليدة معتقدات عمل على نشرها بعض كتّاب الجمعية، وعلى رأسهم موئيز كوهين اليهودي والكاتب التركي الشَّهير ضياء كوك آلب الملقّب بـ"أبو القومية التركية". لذلك، يعتبر اليهودي موئيز كوهين مؤسس الفكر القومي الطوراني، ويعدّ كتابه في القومية الطورانية هو الكتاب المقدس للسياسة الطورانية التي هددت الخلافة العثمانية وأحبطت فكرة الجامعة الإسلامية. العديد من كتابات كوهين كان ينشر باسم تركي وهمي هو تكين ألب، حتى لا ينفر الأتراك من اسمه اليهودي.
عمل الكاتب اليهودي موئيز كوهين على التّعريف بجمعيّة "الاتحاد والترقي" في الصّحف الأوروبيّة، فهو كان يكتب باللغة العبرية والتركية والفرنسية، ما ساعد على انتشار كتاباته. وفي أحد مقالاته باللغة الفرنسية تحت عنوان "الأتراك يبحثون عن روح قومية"، أشاد بدور الجمعية الداعي إلى القومية التركية.
ساهم كوهين بشكل كبير في التخطيط للسياسة العنصرية الطورانية التي سارت عليها جمعية "الاتحاد والترقي"، والتي أدّت إلى العديد من المشاكل بين أبناء الدولة العثمانية. وإذا عدنا إلى الفترة التي شهدت تبلور العنصرية الطورانية في أواخر الحكم العثماني، فإننا نستطيع أن نجد الكثير من الأسماء اليهودية التي ساهمت في التخطيط للسياسة العنصرية الطورانية هذه، أمثال موئيز كوهين.
سعى العديد من الكتّاب الأتراك إلى نظم القصائد وكتابة النصوص والمقالات التي تتحدّث عن هذه العقيدة، فعرّف كوك ألب طوران في مقالته "الأمة التركية وطوران" بأنَّه "جميع البلدان التي يقيم فيها أصحاب العرق التركي ويتحدثون فيها التركية".
وفي الصفحة الافتتاحية لكتاب "دولة طوران الغد"، الذي نُشر في العام 1914 بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، كتب كوك ألب في قصيدته مستبشراً بالنصر على روسيا القيصريّة التي كانت تحكم معظم مناطق طوران: "سوف تدمّر أرض سكان موسكو. يجب أن تنمو تركيا وتصبح طوران".
عبّر كوك ألب في قصيدته هذه عن أمله بتدمير الإمبراطورية الروسية وإيجاد عالم تركي جديد، بحيث سيؤدي تحرير الأتراك الموجودين في روسيا والصين (مثل الأوزبك والإيغور) إلى إنشاء إمبراطورية تركية كبيرة - طوران - تحت قيادة الأتراك العثمانيين.
يرمز مصطلح طوران إلى منطقة أسماها الفرس تاريخياً تركستان، وتشكّل الأخيرة في التاريخ الآسيوي مناطق آسيا الوسطى الواقعة بين سيبيريا في الشمال، والتبت والهند وأفغانستان وإيران في الجنوب، وصحراء جوبي من الشرق، وبحر قزوين من الغرب. كان المقصود من المصطلح الإشارة إلى المناطق التي تسكنها القوميات التركية المختلفة.
بالنسبة إلى كوك ألب، كان مشروع طوران رمزاً يشير إلى هدف الوصول إلى تركيا أكثر ازدهاراً وقوة، ولو كان ذلك بتدمير كل من يقف في وجه هذا المشروع. أفكار كوك ألب كانت تدعو إلى أن تتحول تركيا من دولة متعددة القوميات إلى دولة القومية الواحدة – القومية التركية. بالنسبة إليه، الوطن الأم للأتراك ليس تركيا ولا تركستان. الوطن وطن عظيم وخالد: طوران.
إذاً، وباختصار، الطورانية مدرسة تركية قومية فاشية زرعها اليهود أيام السلطنة العثمانية، وهي تدعو إلى التعصّب للعرق التركي على حساب القوميات الأخرى الموجودة في الإمبراطورية العثمانية، ولاحقاً تركيا، ولو كانوا مسلمين ينتمون إلى الدين نفسه، بهدف إلغاء الجامعة الإسلامية واستبدال جامعة قومية رافضة للآخر بها.
تعرّضت الطورانية لثلاث نكسات أدّت إلى تلاشي ظهورها شيئاً فشيئاً، فغاية آمال الطورانيين كانت زوال الاتحاد السوفياتي، لأن معظم دول طوران كان تحت سيطرته. الانتكاسة الأولى كانت هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى. الانتكاسة الثانية هي عدم انهيار روسيا بعد الثورة البلشفية في العام 1917. والانتكاسة الثالثة كانت انتصار الاتحاد السوفياتي على النازية في الحرب العالمية الثانية. بهذه الانتكاسات الثلاث، تراجعت الأصوات المنادية بتحقيق حلم طوران.
ومع مرور الزمن، باتت الطورانية خطاباً حماسياً لا أكثر، يستخدم من أجل تأجيج العصب القومي الداخلي، ويعد محرّضاً لقرارات الدولة التركية الخارجية. حالياً، يتولى حزب الحركة القومية - الحليف الأساسي للرئيس التركي رجب طيب إردوغان - مهمة إنعاش المدرسة الطورانية، بصفتها حلم كل من ينحدر من أصول تركية. هؤلاء يبقى حلمهم الأبدي تحقيق إمبراطورية تركية عظمى تمتد من القسطنطينية حتى أبواب روسيا والصين وبلاد فارس والدول العربية، ويكون لديها 3 منافذ بحرية، هي بحار قزوين والأسود والمتوسط.
يعتبر البعض أن أحد أهداف "المجلس التركي" أو "مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية" - منظمة دولية أُسست في العام 2009، ويضم تركيا وأذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان وتركمانستان - هو تأسيس مشروع طوران. ففي خطاب للرئيس التركي في القمة السابعة للمجلس التي انعقدت في العام 2019، طرح إردوغان لأول مرة شعار "ست دول - أمة واحدة"، مستبدلاً شعاره القديم "دولتان أمة واحدة" الذي كان يشير إلى تركيا وأذربيجان في الحرب ضد أرمينيا. أثار هذا الشعار حماس وسائل الإعلام التركية التي بدأت تنشر فكرة إنشاء "جيش طوران".
من الممكن أيضاً أن نفهم الأداء التركي في القوقاز من بوابة الطورانية، فتركيا ترى في أرمينيا - كجغرافيا وديمغرافيا - حاجزاً أمام الاتصال القومي مع أذربيجان. ولذلك، تعتبر تركيا أن دعمها لأذربيجان ضروري ضد بلد يشكل مانعاً بينها وبين الدول التي يتواجد فيها أبناء العرق التركي.
وكذلك، يمكن فهم سبب إصرار إردوغان على اعتبار شبه جزيرة القرم أرضاً محتلة من قبل روسيا، فهو يعتبر أنها تعود إلى تتار القرم، أي أنها أرض تابعة للإمبراطورية الطورانية. لذلك، على الرغم من مصالحه الكبيرة مع روسيا وحاجته الحالية إلى التفاهم مع الروس، فإنَّه يعمل على تعزيز علاقته بأوكرانيا التي أعلنت على لسان أمينة جباروف، النائب الأول لوزير الخارجية الأوكرانية التتارية الأصل، رغبة بلدها في الانضمام إلى المجلس التركي بصفة مراقب.
إضافةً إلى ذلك، إنّ دعم تركيا للأتراك القبارصة وسعي إردوغان للوصول إلى دور فعّال في المعادلة الأفغانية يصبّان في تحقيق الحلم الطوراني. والسؤال الأخير هنا: إلى متى سيبقى إردوغان مختبئاً تحت عباءة الخطاب الإسلامي الإخواني؟ ومتى سيستبدل به الخطاب الطوراني القومي؟