ماذا يريد نتنياهو؟
تعكس السجالات الإسرائيلية الداخلية حالة الاستقطاب المتفاقم والانقسام العميق داخل المجتمع الإسرائيلي على المستويين العمودي والأفقي، والذي تصاعد مع تولي حكومة اليمين الفاشي الحكم.
قبيل بدء المفاوضات غير المباشرة بين الوفد الإسرائيلي والمقاومة، اجتمع بيبي نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي مع طاقم المفاوضات الإسرائيلي، وأصدر مكتب نتنياهو تصريحاً في أعقاب الاجتماع تضمن محددات لا تتوافق مع الإطار العام للورقة المطروحة التي أبدت المقاومة مرونة اتجاهها، وبالتأكيد يدرك نتنياهو بأن المقاومة سترفض محدداته.
يستشفّ من تصريحات مكتب نتنياهو والمصادر المقربة منه أنه يرفض إنهاء الحرب والانسحاب من معبر رفح وعدم قبول عودة المقاتلين إلى شمال قطاع غزة، وأعلن نتنياهو بشكل واضح أن الصفقة التي وافق عليها تتيح لـ"إسرائيل" "تحرير" الأسرى وتحقيق أهداف الحرب، بما فيها القضاء على المقاومة، الأمر الذي اعتبرته العديد من الأوساط الإسرائيلية دليلاً على سعي نتنياهو لإفشال الصفقة ودفع المقاومة إلى التراجع عن "المرونة" التي أبدتها تجاه المقترح الإسرائيلي/الأميركي، ووجهت أقطاب المعارضة وأهالي الأسرى ومختلف الكتاب والإعلاميين الوازنين نقداً لاذعاً إلى سلوك نتنياهو، كما عبر ساسة وجنرالات سابقون عن تشاؤمهم وتشكيكهم في نيات نتنياهو تجاه مفاوضات التبادل، ما يطرح تساؤلاً عن الأهداف الحقيقية التي يسعى لها نتنياهو؟
على الرغم من مرور 9 أشهر على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وفشل "الجيش" الإسرائيلي في تحقيق أهداف الحرب التي أعلنتها حكومة نتنياهو، لم يتوقف الأخير عن سرديته منذ بدء الحرب وعن إعلانه المتكرر عن تمسكه بأهدافها المعلنة بعدم إنهاء الحرب حتى القضاء على المقاومة وعودة الأسرى وتحقيق ما سماه بالنصر المطلق، فيما يرى المستويان الأمني والعسكري والأوساط المهنية والعديد من المستويات والمؤسسات الإسرائيلية المؤثرة، كالنخبة السياسية ومراكز التفكير البحثية والاستراتيجية وأحزاب المعارضة الرئيسية ووسائل الإعلام وغالبية الجمهور الإسرائيلي، وفقاً لمختلف استطلاعات الرأي العام، إضافة إلى حلفاء "إسرائيل" وأصدقائها، أن أهداف الحرب المعلنة مبالغ فيها، ولا يمكن للجيش تحقيقها، ويجب إعادة صياغة أهداف أكثر واقعية.
وأعلن قادة "الجيش" الإسرائيلي بشكل واضح لا يقبل التأويل أن المقاومة فكرة لا يمكن القضاء عليها، بيد أن نتنياهو أعلن غير مرة أنه ماضٍ في الحرب حتى تحقيق كل الأهداف، وعلى الجيش القيام بالمهام التي يحددها المستوى السياسي، وليس العكس، الأمر الذي جعل الخلاف بين المؤسسة العسكرية ونتنياهو يطفو على السطح ويظهر للعيان، ما شكل سابقة لم تسجل في حروب خاضتها "إسرائيل" سابقاً.
وبلغ الخلاف ذروته حين أعلن نتنياهو أن "إسرائيل" دولة لها جيش، وليست جيشاً له دولة، بيد أن "الجيش" بات يخشى من أن الحسابات الشخصية والسياسية لنتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة تتعارض مع المصالح الاستراتيجية لـ"إسرائيل"، الأمر الذي عبرت فيه أوساط إسرائيلية مختلفة توصف بأنها مهنية واستراتيجية عن خشيتها من أن حرص نتنياهو على مصيره الشخصي يتناقض مع مصير "إسرائيل" ورؤيتها الاستراتيجية.
تعكس السجالات الإسرائيلية الداخلية حالة الاستقطاب المتفاقم والانقسام العميق داخل المجتمع الإسرائيلي على المستويين العمودي والأفقي، والذي تصاعد مع تولي حكومة اليمين الفاشي الحكم، وعزمها على إحداث انقلاب قضائي يغير الأسس الني بناها مؤسسو الكيان، ما أخرج تظاهرات بمئات الآلاف إلى الشوارع نظمتها مؤسسات الدولة العميقة، وفي القلب منها "الجيش".
ولا ينفصل التعارض بين رؤية نتنياهو وحكومته الفاشية مع رؤية "الجيش" والمؤسسات المهنية في إدارة الحرب وترتيب الأولويات عن الصراع على السيطرة على الحكم والقرار والنفوذ. وليس مستغرباً ما ادعته زوجة نتنياهو سارة بأن "الجيش" يسعى للانقلاب على زوجها، والتسريبات المتكررة عن مصادر قريبة من نتنياهو، والتي حمّلت الجيش كامل المسؤولية عن كارثة السابع من أكتوبر، وكذلك تخلي الجيش عن هدف الحرب الرئيسي وفقاً لرؤية نتنياهو، وهو القضاء على حماس، بمعنى أن أحد أبرز أهداف نتنياهو الداخلية هو تحميل "الجيش" المسؤولية عما جرى في السابع من أكتوبر، وتحميله لاحقاً الفشل في تحقيق أهداف الحرب وعدم التوافق مع رؤيته حول أولوية الاستمرار في الحرب حتى القضاء على المقاومة.
يجيد نتنياهو سياسة المراوغة والتسويف. ومن خلال إجادته هذا الأسلوب، يبدو أنه ماضٍ في كسب الوقت من خلال مفاوضات تبادل الأسرى وجولاتها المتعددة، وآخرها الجولة الحالية، بيد أن مستوى الضغوط التي تمارس عليه في الجولة الحالية تبدو أعلى من ذي قبل، لا سيما الضغوط الداخلية التي بدأ الجيش وأدواته المختلفة يؤدون الدور الرئيسي فيها، لأنه يسعى لإنهاء الحرب بأسرع وقت، تحت ذريعة تحرير الأسرى، بيد أنه يريد إلى جانب قضية الأسرى، وقف حرب الاستنزاف التي أنهكته وجعلت جيشه يتأكل على مختلف الجبهات، لا سيما الجبهتين الجنوبية والشمالية، كما أنه لا يريد أن يغرق أكثر في رمال غزة ويرفض مرامي اليمين المتطرف الساعي لإعادة احتلال غزة والاستيطان فيها.
حالة كسب المزيد من الوقت التي ينتهجها نتنياهو تحقق له عدداً من الأهداف، فمن جهة تبقى جبهة الحرب مشتعلة عبر مراحل مختلفة، ما يبقيه في سدة الحكم ويحافظ على ائتلافه اليميني. ومن جهة أخرى، يستمر في التفاوض حول صفقة التبادل من دون التوصل إلى اتفاق، بحيث يلقي الكرة في ملعب المقاومة ويحمّلها مسؤولية تعثر الاتفاق، بيد أن لعبة نتنياهو باتت مكشوفة في الأوساط المناوئة له على مستوى "الجيش" والمعارضة والجمهور.
وكشفت نتائج آخر استطلاعات الرأي العام أنَّ نحو ثلثي الإسرائيليين يعتقدون أن نتنياهو يطيل أمد الحرب لأسباب سياسية وشخصية، وغالبية الجمهور الإسرائيلي تؤيد التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى حتى بثمن إنهاء الحرب، ويرجع التحول في الرأي العام الإسرائيلي إلى الرسائل التي يبثها "الجيش" حول مجريات الحرب والرغبة في إنهائها والمخاطر الاستراتيجية لتحول الحرب إلى معركة استنزاف طويلة، وأولوية تحرير الأسرى، والخسائر التي يتكبدها في الجنود والمعدات، وبسبب الشعور الإسرائيلي العام بالعجز والإحباط بسبب الفشل في تحرير الأسرى عبر الضغط العسكري وطول أمد الحرب، ولأسباب أخرى منها الآثار الاقتصادية للحرب، والخشية من اندلاع حرب على الجبهة اللبنانية، والخلاف مع الإدارة الأميركية وتراجع الشرعية الدولية.
يريد نتنياهو استمرار حالة الحرب إلى أجل غير مسمى، الأمر الذي يحقق له غايات شخصية وسياسية واستراتيجية، فإطالة أمد الحرب تبعد عنه شبح لجان التحقيق واحتمال تحميله فشل السابع من أكتوبر، وتبقيه على رأس الحكومة لأطول فترة ممكنة، وتحافظ على ائتلافه الحاكم، وتبقي على تماسك حزبه الليكود وسيطرته عليه، كما تتوافق رؤيته في تحويل الحرب إلى حالة شبه دائمة مع رؤيته الاستراتيجية في إحكام السيطرة الأمنية على قطاع غزة والضفة، وربما لاحقاً جنوب لبنان، الأمر الذي يتماشى مع رؤية حلفائه في الائتلاف الحاكم، بيد أنه يتعارض استراتيجياً مع "الجيش" والمعارضة والنخب ومختلف الرؤى المهنية، إلى جانب الاختلاف مع سياسات البيت الأبيض والمجتمع الدولي.