ماذا خسرت الحركات الإسلامية بتشرّب فكرة الجماعة؟
تفاوتت الحركات الإسلامية في تشرّب مفهوم "جماعة المسلمين" الموروث منذ عهد الخوارج، ولكن من جنح إلى التطرف منها ذهب إلى فرضية أنها جماعة إسلامية وسط مجتمع جاهلي مطلوب نقله من الجاهلية إلى الإسلام أو جماعة إسلامية وسط مجتمع مشرك.
ذُكِر في مصادر عدة أنَّ الإمام حسن البنا، مؤسس جماعة "الإخوان المسلمين"، طلب من الملك عبد العزيز آل سعود، مؤسس الدولة السعودية الثالثة، أثناء زيارته المملكة في موسم الحج إقامة فروع للجماعة في المملكة، فرفض الملك طلبه، وقال له: "كلنا إخوان، وكلنا مسلمون".
هذا الرد المختصر يُشير إلى بداية الصراع بين التيارين، الوهابي السعودي والإخواني المصري، على تمثيل الإسلام السُني، ولكنه يُشير من جانبٍ آخر إلى رفض الملك عبد العزيز وجود جماعة إسلامية منفصلة تميز نفسها عن المجتمع الإسلامي أو الأمة الإسلامية، ولكنه وقع في الإشكالية نفسها بقيام التيار الوهابي السعودي بتغليب فكرة الجماعة على الأمة.
الأمة الإسلامية كمفهوم وفكرة هي مصطلح توقيفي من الله تعالى أنزله في القرآن الكريم على لسان إبراهيم وإسماعيل –عليهما السلام– في سورة البقرة: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}، وهي أمة واحدة بنص القرآن الكريم: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، ونص الحديث النبوي في صحيفة المدينة عن المسلمين على أنهم "أمة واحدة من دون الناس".
لذلك، فإن "الأمة الإسلامية" هي الأصل الجامع لكل المسلمين، سواء كان لهم نظام سياسي واحد يجمعهم تحت اسم الخلافة أم في غياب هذا النظام السياسي.
ظل هذا الأصل هو السائد في عهد دولتي الرسول (ص) والخلفاء الراشدين (رضوان الله عليهم) حتى نشأت الدولة الأموية، عندما ظهرت فكرة الجماعة للتمييز بين الملتزمين بالولاء –طوعاً أو كرهاً– للخلفاء الأمويين والرافضين الاعتراف بشرعية حكمهم، ولتوظيف الأحاديث النبوية الداعية إلى الالتزام بجماعة المسلمين وإمامهم وتحريم الخروج عليهم في دعم الحكم الأموي وتكفير خصومهم لشرعنة قتلهم والتخلّص منهم.
وقد استخدم خصومهم، ولا سيما الخوارج، منطقهم نفسه في تبني فكرة الجماعة بديلاً من الأمة، فاعتبروا أنفسهم "جماعة المسلمين"، أي كل الأمة، وأخرجوا غيرهم من جماعة المسلمين والأمة الإسلامية.
ظلَّ التناقضُ موجوداً والجدل كامناً بين مصطلحي "الأمة الإسلامية" كمفهوم موحِّد للمسلمين، و"جماعة المسلمين" كمفهوم مُفرّق للمسلمين، ووازاهما مفهوم "أهل السُنّة والجماعة" كمفهوم أوسع من "جماعة المسلمين" وأضيق من "الأمة الإسلامية"، حتى سقوط آخر خلافة إسلامية، في مطلع القرن العشرين عاد التناقض من جديد، مع نشأة الحركات الإسلامية الراغبة في إعادة الخلافة كنظام سياسي موّحِد للمسلمين.
ولكنها في الطريق إلى ذلك، وفي إطار صراعها مع الأنظمة السياسية الحاكمة المتعددة التي حلّت مكان نظام حكم الخلافة، وقعت في إشكالية أساسها عدم القدرة على التوفيق بين كونها جماعة منفصلة عن الشعب والأمة (جماعة المسلمين) ورغبتها في أن تكون جزءاً من الشعب والأمة (جماعة من المسلمين).
وفي الطريق إلى الاقتداء بسُنّة الرسول –صلى الله عليه وسلم– في الدعوة الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية، خلطوا بين العمل في مجتمع مسلم والعمل في مجتمع غير مسلم.
تفاوتت الحركات الإسلامية في تشرّب مفهوم "جماعة المسلمين" الموروث منذ عهد الخوارج، ولكن من جنح إلى التطرف منها ذهب إلى فرضية أنها جماعة إسلامية وسط مجتمع جاهلي (غير مسلم)، بتوصيف سيد قطب، مطلوب نقله من الجاهلية إلى الإسلام، أو جماعة إسلامية وسط مجتمع مشرك (غير مسلم)، بتوصيف محمد بن عبد الوهاب، مطلوب نقله من الشرك إلى التوحيد، وهذا بخلاف الصواب والأصل في مهمات الحركات الإسلامية العاملة في المجتمعات المسلمة مثل: تصويب المفاهيم، وتعزيز الأخلاق، وتفعيل دور الإسلام في الحياة، وتطبيق مبادئ الإسلام في واقع المجتمع وكل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وتفعيل دور الإسلام كثورة على الاحتلال والاستبداد والفساد والظلم والعبودية بكل أشكالها، وصولاً إلى استئناف الدور الحضاري العالمي للإسلام... هذه المهمات تجعلها تتصرف كجماعة من المسلمين، وليس كجماعة المسلمين.
الاعتقاد بجاهلية المجتمع أو شركه، المستمد من مفهوم "جماعة المسلمين"، قاد الحركات الإسلامية إلى إصابة أعضائها بآفة الاستعلاء، بعدما نقلوا حالة الاستعلاء في ميدان الجهاد بعد معركة أُحد، كما قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين}، إلى كل ميادين الحياة، ومن مواجهة الكفار المحاربين إلى كل المُخالفين من غير المسلمين والمسلمين، ومن الاستعلاء بالعمل الحضاري الإبداعي إلى الاستعلاء بمجرد الانتماء إلى الإسلام أو الحزب الذي يحتكر تمثيل الإسلام "جماعة المسلمين"...
هذا الأمر أنتج حالة نفسية محورها الترفع والكبرياء، تبدأ بالعُجب، وتمرّ بالكِبر، وتنتهي بتضخيم الذات الجمعية والغرور وتحقير الآخر غير المنتمي إلى الجماعة، مسلماً كان أو غير مسلم، فمهما كان إيمانهم ووعيهم وعملهم، فهم أقل إيماناً ووعياً وعملاً ما داموا الآخر المُغاير للجماعة.
آفة الاستعلاء ارتبطت بمفهوم "العزلة الشعورية" في الحركات الإسلامية. وقد بدأت كآلية لاستقطاب الأشخاص الجُدد إلى الحركة الإسلامية، كحاجة لعزلهم عن "المجتمع الجاهلي" الذي أتوا منه، وكحاجة لتهيئتهم نفسياً وعقلياً تمهيداً لتلقي فكر الحركة الإسلامية كجماعة موازية للمجتمع والشعب والأمة، وهي، كما قال سيد قطب، من متطلبات "الانضمام إلى التجمع الإسلامي الجديد بقيادته الجديدة، ومنح هذا المجتمع وهذه القيادة كل ولائه وكل طاعته وكل تبعيته".
وقد تفاوتت الحركات الإسلامية في تطبيقها مفهوم العزلة الشعورية من مجرد الانفصال النفسي والعقلي عن "المجتمع الجاهلي" إلى الانفصال الجغرافي عنه والهجرة منه. وفي كل الأحوال، بالعزلة الشعورية، تم وضع الحواجز النفسية والعقلية على مستوى الشعور والفكر بين أعضاء الحركات الإسلامية ومجتمعاتهم.
فكرة "جاهلية المجتمع" "وآفة استعلاء الإيمان" وحالة "العزلة الشعورية" ارتبطت بعقيدة "الفرقة الناجية" التي تملك وحدها الحقيقة المُطلقة، فتأخذ الحقيقة من مصدر معصوم هو القرآن والسُنّة. وبذلك، تمثل الحق والخير والصواب، وغيرها يمثل الباطل والشر والخطأ، فالتبس عليهم الأمر بين الإسلام كنصوص دينية يقينية ووحي إلهي معصوم، والحركة الإسلامية كوسيلة لتطبيق الإسلام واجتهاد عقلي وبشري في فهم الإسلام يُخطئ ويُصيب، فخلطوا بين الدين والفكر الديني، وبين الإسلام والاجتهاد في فهم الإسلام، فعدوا كل نقد موجه إلى الحركة الإسلامية، كالنقد الموجه إلى الإسلام، وفسروا أي خلاف أو خصومة أو عداء للحركة الإسلامية كأنه خلاف وخصومة وعداء مع الإسلام، وساووا بذلك بين الحركة الإسلامية والإسلام، وقدموا "جماعة المسلمين" على "الأمة الإسلامية".
لم تسْلم معظم الحركات الإسلامية من مسحة فكرة الجماعة بمفهوم "جماعة المسلمين" بدرجات متفاوتة بين الاعتدال والتطرف، فبمجرد إنشاء جماعة إسلامية وسط مجتمع مسلم يُوجِد نوعاً من التمايز يُعطي أعضاؤها شعوراً بالتميز عن المجتمع المسلم الذي يصبح هو "الآخر" بالنسبة إلى تلك الجماعة، يُمكن للتربية الحركية أن تخففه أو تزيده.
وتتسع هذه المسحة وتتعمّق هذه الفكرة بدرجة عداء "الآخر" للجماعة، فتُساهم أنظمة الحكم الاستبدادية وأحزاب السياسة العلمانية وتيارات الفكر اللادينية في تضخيمه بعدائهم ومحاربتهم للحركات الإسلامية، ويبقى دور الحركات الإسلامية في التخلّص من فكرة الجماعة هو الأساس في التخلّص من فرضية جاهلية المجتمع، وآفة الاستعلاء، وحالة العزلة الشعورية، وعقيدة الفرقة الناجية، لتعود الحركات الإسلامية جزءاً من المجتمع المسلم والأمة الإسلامية، فتتقدم ولا تتأخر، وتربح ولا تخسر.