ما بعد عملية "تل أبيب"
يعكس تفجير "تل أبيب" المحتلة ما تشهده ساحة الضفة الغربية المحتلة من مستوى متصاعد من المقاومة المسلحة، وتعبّر الأوساط الأمنية الإسرائيلية عن خشيتها من اندلاع انتفاضة شاملة في الضفة.
تبنت المقاومة الفلسطينية، في بيان رسمي، محاولة تنفيذ عملية فدائية/استشهادية جنوبي مدينة "تل أبيب" المحتلة، أسفرت عن استشهاد المنفذ وإصابة مستوطن، بعد انفجار العبوة نتيجة خلل فني، وفقاً لما أعلنته شرطة الاحتلال. وأعلنت المقاومة أن العملية تأتي نتيجة استمرار المجازر وسياسة التهجير الممنهج بحق المدنيين الفلسطينيين وعمليات الاغتيال، وأنها قررت العودة إلى تنفيذ العمليات الاستشهادية داخل فلسطين المحتلة عام 1948، في ضوء تجاوز العدوان الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني كل الخطوط الحمر.
لا تكمن خطورة العملية، التي توصف بأنها نجحت من حيث التخطيط وفشلت في التنفيذ نتيجة خلل عملياتي، في نتائجها المباشرة، أي عدد القتلى والجرحى، وإنما في تداعياتها وآثارها، والمآلات التي ستؤول إليها المواجهة بين قوى المقاومة والاحتلال الاسرائيلي في الجبهة الفلسطينية، ولاسيما في ساحة الضفة الغربية المحتلة، في ضوء استمرار الحرب على قطاع غزة وتواصل حرب الاستنزاف في الجبهة الشمالية، واستمرار التوتر في مختلف الجبهات (إيران، اليمن، سوريا، العراق).
القلق الاسرائيلي عكسه تحذير صدر عن شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية قبل تفجير "تل أبيب"، ومفاده أن الأوضاع في الضفة الغربية المحتلة تتجه نحو انتفاضة تتخللها عمليات تفجيرية.
وتقدّر الاستخبارات الإسرائيلية، وفقاً لما ذكرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" الاسرائيلية أنه، على عكس الهبّات الشعبية السابقة التي كانت تتحرك بعفوية كردة فعل على أحداث، فإن المرحلة الحالية تتطور بالتدريج، وتضاف إليها عناصر جديدة من ناحية تطوير المتفجرات وانضمام مزيد من الشبان، وأن الحرب على غزة وارتفاع عدد الشهداء، بصورة غير مسبوقة، يُعَدّان دافعاً مهماً من أجل رفع مستوى المواجهة في الضفة.
لا يخلو التقدير الاستخباري وتسريبه إلى وسائل الإعلام الاسرائيلية من العمل على إخلاء المسؤولية أمام المستوى السياسي، وأمام "الرأي العام الداخلي"، حتى لا تُتهم الاستخبارات لاحقا بسوء التقدير إذا اندلعت انتفاضة عارمة مسلحة في الضفة الغربية المحتلة، تخللتها عودة إلى كابوس العمليات الاستشهادية، على غرار العمليات في فترة التسعينيات وانتفاضة الأقصى، التي أوقعت مئات القتلى والجرحى في صفوف المستوطنين في الداخل الفلسطيني المحتل.
كما لا يخلو التقدير الاستخباري الإسرائيلي من السعي لممارسة الضغط على المستوى السياسي كي ينهي الحرب على قطاع غزة، ويبرم صفقة لتبادل الأسرى، في ضوء انعكاسات الحرب على كفاءة "الجيش" القتالية بسبب حرب الاستنزاف المستمرة، وتوزيع قوات الجيش في أكثر من جبهة.
إن الهاجس الأكبر، الذي يخشاه المستويان الأمني والعسكري الاسرائيليان، في الجبهة الفلسطينية، ما قد يتركه هجوم السابع من أكتوبر من إلهام ومحاكاة من جانب مجموعات مقاومة مسلحة في الضفة الغربية، والقيام بتنفيذ هجوم كبير على المستوطنات، من جهة، وعودة مسلسل العمليات الاستشهادية في الداخل الفلسطيني المحتل، من جهة أخرى، بدافع الاننقام والرد على التغول الاسرائيلي في الدماء الفلسطينية. كما تتعزز المخاوف في الأوساط الإسرائيلية بسبب الجرائم والاعتداءات المتكررة للمستوطنين على القرى الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، والتي يتخللها إحراق منازل ومزارع ومركبات وقتل، عبر دعم وإسناد من قوات "الجيش" الإسرائيلي.
قامت قوات "الجيش" الإسرائيلي وأجهزته الأمنية بمضاعفة جهودها لإجهاض العمل المقاوم في الضفة الغربية، والسعي لإحباط اندلاع انتفاضة شاملة، عبر اعتقال آلاف الفلسطينيين وإخضاعهم لتحقيق مكثف أدّى إلى استشهاد عدد منهم تحت التعذيب، كما لجأت قوات الاحتلال إلى أسلوب الاقتحامات المتكررة لقلاع المقاومة في الضفة، ولاسيما في جنين ونابلس وطولكرم وأريحا والخليل ورام الله. ولجأ الاحتلال إلى استخدام الطائرات المسيرة في تنفيذ عمليات الاغتيال للمقاومين الفلسطينيين، بيد أن كل الأساليب القمعية لم تفلح في وأد عمليات المقاومة، سواء في حالة صد العدوان، ولاسيما في جنين ونابلس وطولكرم، والتي يؤكد العدو أنه يواجه مقاومة شرسة عند تنفيذ عمليات اجتياح لها أدت، في حالات متعددة، إلى إيقاع خسائر في الجنود والآليات، بعد تفجير عبوات أرضية محلية الصنع، الأمر الذي دعا وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، إلى إعلان ما سمّاه رفع القيود عن استخدام الطائرات المسيرة لاستهداف المقاومين، الأمر الذي بدأ بالفعل على نطاق واسع، وآخر العمليات اغتيال منفذي عملية الأغوار الفدائية مؤخراً عبر استخدام طائرة مسيرة، أو في الهجوم، على غرار عمليتي الأغوار و"تل أبيب" المحتلتين، وعشرات العمليات التي تتصاعد وتيرتها.
يعكس تفجير "تل أبيب" المحتلة ما تشهده ساحة الضفة الغربية المحتلة من مستوى متصاعد من المقاومة المسلحة، وتعبّر الأوساط الأمنية الإسرائيلية عن خشيتها من اندلاع انتفاضة شاملة في الضفة.
فعلى الرغم من تمكن الاحتلال من إحباط عشرات العمليات قبل تنفيذها، فإن مسار الأحداث في الضفة يشي بحالة تصاعدية. وفي ضوء تبني فصائل المقاومة عملية "تل أبيب" الاستشهادية، وإعلانها عزمها العمل على تنفيذ عمليات شبيهة، فإن الجبهة الفلسطينية، برمتها، والجبهة الداخلية الإسرائيلية، ستشهدان تحولاً في مسار المواجهة، ستظهر ملامحها وآثارها بعد نجاح أول عملية استشهادية تؤدي إلى مقتل عشرات المستوطنين.