لماذا يستخدم الغرب "الخداع" مع روسيا؟
لم يكن وقف اتفاق الحبوب المرة الأولى التي يكشف فيها الروس عن "الخداع الذي مارسه الغرب معهم" وعدم التزامهم بالاتفاقيات الدولية.
في معرض تراجع روسيا عن استئناف "اتفاق الحبوب" الذي سمح لأوكرانيا قبل عام بتصدير الحبوب من موانئها على البحر الأسود، أكَّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الدول الغربية لم تلتزم بما تم الاتفاق عليه ضمن هذا البرنامج الذي انخرطت فيه روسيا تخفيفاً لحدة أزمة الغذاء العالمية.
اتّهم بوتين الدول الغربية بأنها طبّقت ما يناسبها من اتفاق الحبوب، و"تجاهلت مذكرة تفاهم موازية تمّ توقيعها، وتنص على إعفاء الصادرات الروسية من الحبوب والأسمدة من العقوبات الغربية"، في مقابل قيام الروس بتيسير نقل الحبوب من الموانئ الأوكرانية.
ولفت بوتين إلى أنّ الغرب استغلّ "الأهمية الإنسانية" لهذا الاتفاق، فاستخدمه للابتزاز السياسي، ولإمداد أوكرانيا بالأموال وتيسير تصدير حبوبها في مقابل خسارة المزارعين الروس، وأنه جعل الاتفاق أداة لإثراء الشركات العابرة للدول والمضاربين في السوق العالمية للحبوب، بحسب تعبيره.
قد لا تكون المرة الأولى التي يكشف فيها الروس عن "الخداع الذي مارسه الغرب معهم" وعدم التزامهم بالاتفاقيات الدولية؛ ففي وقت سابق، كشفت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل أن اتفاقيات مينسك حول أوكرانيا كانت "خدعة أوروبية" لروسيا (تنص اتفاقيات مينسك على حل الأزمة في شرق أوكرانيا، ووقف إطلاق النار، وسحب الأسلحة الثقيلة من خطوط التماس، وعدم التعرض للمدنيين المتحدثين بالروسية في تلك المناطق).
وأكد الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ما قالته أنجيلا ميركل من أن تلك "الاتفاقيات كانت تهدف إلى منح كييف الوقت الكافي لتعزيز قدراتها العسكرية، إذ إنها استطاعت تجميد الأزمة في شرق أوكرانيا (2014) لفترة من الزمن، لكون حلف الناتو لم يكن قادراً على إمداد قوات كييف بالأسلحة خلال تلك الفترة بالوتيرة نفسها التي يقدمها اليوم".
يثير هذا "الخداع" وعدم الالتزام بالاتفاقيات مسألة جوهرية في القانون الدولي، وفي قانون المعاهدات الدولي على وجه الخصوص، وهو مبدأ "حسن النية".
أ- في قانون المعاهدات الدولية:
يعدّ مبدأ حسن النية من المبادئ الأساسية في قانون المعاهدات الدولية، فقد نصَّت اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969 على هذا المبدأ في مادتها 26 المعنونة "العقد شريعة المتعاقدين"، التي تنص على أن "كل معاهدة نافذة ملزمة لأطرافها وعليهم تنفيذها بحسن نية". وفي المادة 29، ثمة نص واضح يشير إلى أن "نصوص المعاهدة ملزمة لكل طرف فيها بالنسبة إلى كامل إقليمه".
هذا يعني أن أطراف المعاهدة جميعاً ملزمون بأن يطبقوا المعاهدات التي يتوافقون عليها، وأن ينفذوها بحسن نيّة إذا كانت المعاهدة ترتب حقوقاً وتفرض التزامات، وهذا مناقض للخداع الذي يعتمده الغرب، والذي اعتمده في اتفاقية الحبوب بين روسيا وأوكرانيا، وفي اتفاقيات مينسك الموقعة عام 2014.
ب- في ميثاق الأمم المتحدة
نصّت مقدمة ميثاق الأمم المتحدة على وجوب قيام الدول الأعضاء "باحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي"، وأشارت إلى مبدأ "حسن النية" في المادة 2 من الميثاق، إذ لفتت إلى أن الأعضاء "يقومون بحسن نية بالالتزامات التي أخذوها على أنفسهم بهذا الميثاق."
ج- محكمة العدل الدولية
تنص المادة 38 (1) (ج) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية على أنّ المحكمة "تطبق المبادئ العامة للقانون المعترف بها من قبل الدول المتحضرة". وقد تمّ تفسير هذا البند بأن المحكمة، عندما لا تستطيع الاستناد إلى قانون المعاهدات أو القانون العرفي للوصول إلى حكم ما، تلجأ إلى المبادئ العامة للقانون، وخصوصاً مبدأ "حسن النية"، وهو الأهم في تلك المبادئ، إذ يشكّل أساساً للعديد من القواعد القانونية الدولية.
في النتيجة، خالف الغرب مبادئ "حسن النية" في تنفيذ الاتفاقيات التي تمّ توقيعها مع الروس. لم يكشف الروس ذلك وحدهم، بل إن ميركل وهولاند أيضاً أكدا قيامهما بذلك أيضاً في اتفاقيات مينسك، وهذا يعيدنا بالذاكرة إلى كل التجارب المستمرة بين الروس والأوروبيين منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، ووعد الغرب لغورباتشوف بأن الناتو لن يتمدد شرقاً، ثم التراجع والإعلان عن سياسة الأبواب المفتوحة التي اعتمدها الناتو، الذي ضمّ إليه معظم دول أوروبا الشرقية، فتم تطويق روسيا.
ما سبق يشير إلى أن الغرب لم ينظر يوماً إلى روسيا كشريك دولي حتى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وأن الأوروبيين استمروا في النظر إليها كعدو محتمل حتى في أكثر أوقاتها ضعفاً، وفي ظل أفضل العلاقات التجارية والاقتصادية معها... لذا، اعتمدوا مبدأ "الخداع"، وتهربوا من وعودهم ومن الاتفاقيات الدولية القائمة معها.
في المقابل، من المفيد أيضاً الإشارة إلى أن "الخداع" الأوروبي كان ممكناً بسبب أخطاء بعض النخب الروسية عبر الإيمان بمقاربة روسية-أوروبية سادت بعد سقوط الثنائية القطبية، تفيد بأن روسيا جزء من أوروبا، وأن على القادة الروس الاتجاه للاندماج في الغرب.
تلك المقاربة تحمل في طياتها نظرة دونية تجاه الغرب، ونظرة فوقية وعنصرية تجاه آسيا ودول الجنوب العالمي، وهي مقاربة ازدهرت لدى النخب الحاكمة في فترة تسعينيات القرن العشرين، وما زالت بعض النخب الروسية تؤمن بها لغاية اليوم، بالرغم من تداعيات الحرب الأوكرانية.