لا أحد على هذه الأرض يستطيع النيل من إرادتنا
قد لا يصدق القارئ ما يقرأه هنا، لشدة ما فيه من استعلاء المستكبر وغطرسته وعنصريته، لذلك أتعمّد اقتباسه كما هو.
هذه هي رسالة الأسرى الأحرار، ولا رسالة أخرى.. رغم الحراسة المشددة، والتكنولوجيا المتطورة، من شبكة كاميرات مراقبة داخل السجن وخارجه، وأحياناً داخل غرفة الأسرى أيضاً، ومِجَسّات إلكترونية تراقب كل حركة في الداخل والخارج، وأبراج مراقبة مجهزة من الجهات الأربع، وحرّاس وأضواء ليلية تسمح للحراس برؤية فئران الحقول المحيطة بالمعتقل، ورغم تعدّد أجهزة الاستخبارات وبرنامج "بيغاسوس" التجسّسي، وانتشار العملاء والمتعاونين في الداخل والخارج، ورغم التنسيق الأمني الذي يمثّل 90% من المحادثات الفلسطينية الإسرائيلية، كما يقول بيني غانتس وزير الحرب الإسرائيلي، إلا أن نسور الحرية الستة استطاعوا حفر النفق في الباطون المسلح، وفي عمق الأرض، بأدواتهم الخاصة، وعبقريتهم الفذة، وصبرهم الأسطوري، حتى خرجوا إلى الفضاء الرحب، وحلّقوا في سماء فلسطين يغرّدون للحرية والحياة: "السجن ليس لنا نحن الأُباة، السجن للمجرمين الطغاة".
ليس مهماً، كيف فعلوا ذلك. لا تَغرقوا ولا تُغرِقونا في التفاصيل. لأن الجوهر هو الأهم، والجوهر هو انتصار الحرية على قيد السجان، وانتصار الإرادة على كل محاولات الإحباط. فإذا كانت مهمة الإعلام الإسرائيلي البحث في التفاصيل وإلهاء الناس بها، لأهدافه الخاصة، فهي أهدافه وليست أهدافنا، بل تتعارض كلياً مع أهدافنا. نحن لا نبحث في التفاصيل، وما يهمنا هو الإنجاز بحد ذاته، وحصول النسور الستة على حريتهم وانتصارهم على السجان المحتل المتغطرس، الذي أوصله غباؤه ليحسب أنه "على كل شيء قدير".
ما يهمنا أن الأسير الفلسطيني حر، يبعث الأمل لشعبه من جديد، لأن إرادته لا تزال سلاحه الأقوى، لم تنكسر يوماً، ووعياً لم يتسطح يوماً، وتضحياته نبع لا ينضب، لا يبحث عن سيارة جديدة ولا ساعة مذهبة ولا شقة في قصر أميري أو ملكي، بل عن حريته وحرية شعبه واستقلاله وسيادته، وعن مستقبل إنساني وحضاري لأطفاله من بعده.
ما يهمنا أن هذا الفلسطيني الذي لم يفقد الأمل في النصر على المحتل، يعيد زرعه في الحقول الفلسطينية الخصبة من جديد. لم يعلق آمالاً على زعماء يعلنون يومياً عجزهم عن مقارعة الاحتلال، ولا على "الأشقاء" الذين باعوا أوطانهم قبل أن يبيعوا ضمائرهم ودماء شهدائهم، استرضاءً للعدوّ. هذا الفلسطيني الذي احتقر مروّجي العجز والاستسلام.
ما يهمنا، هو هذا المناضل الذي مزج بين الأمل والعمل ليصنع النصر المطلوب ويحظى بالحرية، وهذا لا يتم إلا بامتلاك الإرادة، الإرادة الصلبة المؤمنة، الصامدة في وجه كل محاولات الإحباط، والمثابرة على العمل لنيل الحرية. ولأن الإرادة هي المستهدَفة، أصبحت الإرادة، كما كانت دائماً، هي السلاح الأقوى أو ما تبقى من أسلحة.
وما يهمنا، هو الحذر من الثرثرة والتبجّح بالمعرفة، ولو إلى أقرب الناس! والانتباه إلى احتمال قيام قوات الاحتلال بعمليات عسكرية انتقامية! لكسر الروح المعنوية لشعبنا الفلسطيني، واسترضاء جمهورها العنصري المستكبر. والحذر الحذر من أي شكل، أو مستوى، من التنسيق الأمني! إنه من المحرمات!
منذ العام 2016 أطلق مركز الأبحاث الصهيوني في واشنطن، المسمّى "منتدى الشرق الأوسط"، الذي يرأسه الصهيوني المتطرف دانيال بيبس، مشروع "نصر إسرائيل". هذا المشروع هو مجموعة من الأفكار، حملها عدد من المفكرين الصهاينة إلى إدارة ترامب، لتحقيق ما يسمى "نصر إسرائيل". هذا "النصر" هو الشرط الضروري لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، كما يقول دانيال بيبس. وعليه، التقى طاقم المنتدى مع 51 عضواً في الكونغرس، ونتيجة لهذه اللقاءات وضعت الأسس لتجمع "انتصار إسرائيل" victory of Israel)) في الكونغرس. وخلال السنوات الماضية، قدم أصحاب المشروع المشورة للمسؤولين الرئيسيين في إدارة ترامب حول مفهوم "انتصار إسرائيل"، والسياسات المطلوبة لتحقيق ذلك... وكانت الاستشارات تدور حول أربع نقاط أساسية: 1) سبب فشل عملية السلام، 2) ضرورة الانتصار لإنهاء الحروب، 3) كيف يمكن لـ"إسرائيل" أن تنتصر؟ 4) كيف يمكن للسياسة الأميركية أن تدعم انتصار "إسرائيل"؟
وقد عبّر ترامب عن كل ذلك بما سمّي في عهده "صفقة القرن". وهم، اليوم، مصرّون على أن يتقدموا بمشروعهم هذا إلى إدارة بايدن أيضاً، مع الإشارة إلى أن "صفقة القرن" لا تزال حاضرة على طاولة البيت الأبيض.
يقول أصحاب المشروع: إن "الحروب لا تنتهي، عموماً، إلا عندما يفقد أحد الأطراف الأمل في تحقيق أهدافه. وعندما تستنفد الهزيمة إرادته للقتال" (مع الانتباه إلى كلمتي، الأمل والإرادة). بعبارة أخرى، لا تنتهي الحروب بالنيات الحسنة، بل بالنصر، "والنصر هو فرض إرادة المنتصر على المهزوم، وإجباره على التخلي عن طموحاته". ويضيف أصحاب المشروع "إن تحقيق الهزيمة ممكن بالضربة العسكرية أو بتراكم الضغوط الاقتصادية والسياسية أو بكليهما". ويستعين هؤلاء بمفكرين ومحاربين من عصور مختلفة، مثل أرسطو وأيزنهاور، لتأكيد أهمية النصر باعتباره "الهدف الصحيح للحرب".
من المفارقات، يقول بيبس، إن "نصر إسرائيل قد يكون بشرى للفلسطينيين، لأن إجبارهم على التخلي عن أوهامهم الوحدوية، سيحرّرهم من التركيز على تطوير نظامهم السياسي والاقتصادي والمجتمعي والثقافي، لذلك، على الفلسطينيين أن يمرّوا في بوتقة الهزيمة المرة ليصبحوا أشخاصاً عاديين، فيتوقف آباؤهم عن الاحتفال بأن أبناءهم أصبحوا إرهابيين انتحاريين، ويفضّلون مساعدة أنفسهم على إيذاء اليهود".
قد لا يصدق القارئ ما يقرأه هنا، لشدة ما فيه من استعلاء المستكبر وغطرسته وعنصريته، لذلك أتعمّد اقتباسه كما هو.
نعم، لقد نجح هذا المشروع، إلى حد ما، في تركيع بعض الأنظمة التابعة، ذلك لأنها تابعة من الأصل، واستمرأ زعماؤها، وأمراؤها أو ملوكها أو رؤساؤها، الذل، منذ زمن طويل، ولو لم يكونوا أذلاء في الأصل لما وصلوا إلى تلك الكراسي التي تحملهم باحتقار وعلى مضض. في المقابل، لم يستطع أصحاب هذا المشروع أن يكسروا إرادة مقاوم فلسطيني واحد. لم يستطع، حتى من استمرأوا العجز والذل من الفلسطينيين، أن يقبلوا به علناً.
في الآونة الأخيرة يُعقد بعض الاجتماعات، منها العلني والآخر سرّي، في محاولة لإخراج هذا الاستسلام، إخراجاً مسرحياً، مع الحفاظ على ماء الوجه، إلا أن العملية البطولية لنسور الحرية، لطّخت وجود هؤلاء المستسلمين بالمياه القذرة، وصفعتهم بأكفّ تصفق للحرية، وحوّلت جهودهم "الإخراجية" إلى مسار آخر، مسار يصب في بركة المياه العادمة. هناك... سيصبّ نهر جهودهم وقممهم العارية.
أما جهود الأحرار فهي تزرع الأرض من جديد بذور الحرية والأمل، بذور الإرادة والعمل، بذور ربيع المستقبل القادم لا محالة، ما دمنا نملك إرادتنا، ونحن نملكها منذ قرن وأكثر، وهي تتجدد في نفوس أطفالنا جيلاً بعد جيل. ومن لا يصدق، فليراجع التاريخ!