كيف يسرقنا البنك الدولي مرتين؟
تؤثر الصراعات والحروب المستمرة في المنطقة في المساحات الزراعية، بما في ذلك هجرة السكان وإهمال الأراضي الزراعية.
مطلع هذا العام، أصدر البنك الدولي تقريراً بعنوان "أهمية الأراضي هل يفلح تحسين الحوكمة وإدارة الندرة في منع وقوع أزمة وشيكة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟" التقرير من إعداد أنا كورسي، وهاري سيلود، الخبيرين لدى البنك الدولي. يستخدم التقرير صور الأقمار الاصطناعية والإحصاءات الوطنية، ولا سيما قاعدة البيانات الإحصائية لدى منظمة "الفاو"، والتي تبيّن أن رقعة الأراضي الزراعية في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا انخفضت بنسبة 2.4% في الفترة الواقعة بين عامي 2003 و2018، وهو ما يشكل أكبر انخفاض في نسبة الأراضي المزروعة في العالم، خاصة وأن هذه المنطقة تمتلك أدنى نسبة من الأراضي الزراعية للفرد الواحد، إذ تبلغ نسبة الصحراء فيها نحو 84%.
يعلق هاريس سيلود، الخبير الاقتصادي الأول في البنك الدولي والمؤلف المشارك للتقرير: "لا يمكن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة إذا كان الناس والشركات يفتقرون إلى إمكانية الحصول على الأراضي على نحو سليم." أي أن الحل حسب واضعي التقرير يكمن في تمليك مزيد من الأراضي للقطاع الخاص، سواء الأفراد أوالشركات. ويقترح التقرير وضع إجراءات شفافة تأخذ في الاعتبار تقييم الأراضي المملوكة للحكومات بسعر السوق، وتحسين إجراءات نقل الملكية وتسجيل الأراضي وتسريعها، لزيادة كفاءة استخدام الأراضي وقرارات إدارتها، وضمان أن تخدم الأراضي الوظائف الاجتماعية والاقتصادية والمالية في منطقة تمثل فيها الضرائب العقارية أقل من 1 % من الناتج المحلي الإجمالي.
يمثل النمو السكاني تحدياً مهماً لتوفر الأراضي الزراعية، إذ تبيّن الصور الفضائية أن 24% من التوسع السكاني في الوطن العربي في الفترة بين عامي 2003 و2018 حدث على حساب الأراضي الزراعية. إذا نظرنا إلى البلدان بشكل منفرد فإن هذه النسبة ترتفع إلى 43% في سوريا، و47% في مصر. يضاف إلى كل ما سبق تحدي التغيّرات المناخية، الذي أصبح واضحاً جداً خلال السنوات الأخيرة، وما نجم عنه من كوارث، سواء على شكل جفاف أو فيضانات. وتقع أراضي عدد من الدول في حصار ما بين زحف الصحراء من جهة، وزحف البحر من جهة أخرى، إذ يهدد ارتفاع مستوى مياه البحر 12% من أراضي مصر، و11% من أراضي ليبيا، و13% من أراضي قطر والإمارات.
تؤثر الصراعات والحروب المستمرة في المنطقة في المساحات الزراعية، بما في ذلك هجرة السكان وإهمال الأراضي الزراعية، إذ يلاحظ التقرير أن نسبة الأراضي الزراعية في سوريا انخفضت 7% منذ بداية الحرب عليها عام 2011، في حين زادت مساحة الأراضي الزراعية التركية بنسبة 5% بسبب توفر العمالة الزراعية الرخيصة من المهاجرين السوريين.
يقفز التقرير إلى قضية الغرب المفضلة: قضية المرأة ويرى أن زيادة الضرائب على المستفيدين الذكور ستقلل فجوة عدم المساواة بين الجنسين، خاصة عند تنازل الإناث عن حقهن في الميراث لأقاربهن الذكور. طبعاً، لم يوضح التقرير العلاقة بين زيادة نسبة استفادة المرأة من الأراضي وتحسن الوظائف الاجتماعية والاقتصادية والمالية لهذه الأراضي، مع تلميحه إلى الفوارق الاجتماعية داخل المجتمعات، واكتفى بالتشديد على زيادة الضرائب لتحسين مساهمة الضرائب العقارية في الناتج المحلي الإجمالي.
التقرير الواقع في 117 صفحة يلخص توصياته بزيادة خصخصة الأراضي الحكومية، لكن من خلال بيعها بشفافية، أي بسعر أعلى، وزيادة الضرائب على العقارات. لكن، على الرغم من عنوانه المثير ولغته التي تبدي الحرص على مقدرات الشعوب ينتهي إلى الوصفة الرأسمالية التاريخية، الخصخصة والجباية، وتنازل الدولة عن أي دور لها في العملية الاقتصادية.
يؤيّد الاقتصاديون بمعظمهم توصيات البنك الدولي، إذ يجدون أن قوانين تمليك الأراضي قديمة، وتعيق عملية انتقال الملكية وما يرافقها من رسوم، كما أن احتفاظ الحكومات بمساحات كبيرة من الأراضي غير المستخدمة يعطل مصدراً مهماً لتمويل الموازنة العامة للبلاد، وهم في أغلبيتهم (الاقتصاديون) لا يمانعون زيادة الرسوم والضرائب على نقل الملكية لرفع مساهمة الضريبة العقارية في إجمالي الناتج المحلي. لكن الاختلاف يكمن في تعاملهم مع عائدات الضريبة والبيع، إذ لا يمانع اقتصاديو التيار الليبرالي استخدام هذه العوائد في تمويل النفقات الجارية بما في ذلك تسديد أقساط القروض وفوائدها، في حين أن اقتصاديي التيار اليساري يرون أنه يجب أن تذهب إلى بند النفقات الرأسمالية.
ما يغيب عن هذه الخيارات هو البعد الطبقي، إذ يؤدي رفع الضرائب على البيوع العقارية إلى حرمان الطبقات الأقل دخلاً فرص تملك منازلها، كما سيؤدي إلى رفع الإيجارات ما يزيد من الأعباء المترتبة على هذه الفئة من السكان. من ناحية أخرى، يؤدي بيع أراضي الدولة بقيمتها السوقية إلى المشترين إلى إعادة إنتاج طبقة كبار الملاك العقاريين لتنحصر الملكية في مجموعة محدودة من الأفراد والشركات، ويسهل على هؤلاء احتكار السوق العقارية، وفرض شروطهم على المستثمرين الأصغر، ما يؤدي في نهاية الأمر إلى رفع الأسعار وزيادة التضخم. يجب ألا ننسى أن الاختلال في حجم الأراضي الزراعية الناجم عن التوسع الحضري، يعود في غالبيته العظمى إلى استثمارات القطاع الخاص، أفراداً وشركات، وليس لاستثمارات القطاع العام.
الأهم أن المحرك الأول لتراجع القطاعات الإنتاجية وخاصة الزراعة، يعود إلى وصفات البنك الدولي نفسه، والتي فرضها على الحكومات في مقابل القروض. بناءً على تعليمات البنك الدولي، تراجع تدخل الحكومات في الدورة الاقتصادية، وبشكل خاص، تقديم الدعم للقطاعات الإنتاجية، وطغت شروط اقتصاد السوق، ما رفع التكلفة في الدول الفقيرة نتيجة الافتقار إلى التقنية وارتفاع تكاليف الأسمدة والمياه والطاقة. وأصبح المنتج الوطني غير قادر على منافسة المنتجات المستوردة التي تمنع تعليمات اتفاقية التجارة وضع أي رسوم حمائية عليها. النتيجة كانت هجرة نسبة عالية جداً من صغار المزارعين لأراضيهم وتوجههم إلى العمل في الخارج، وهي سياسة تشجعها الدول لأنها تعدّ تحويلات العاملين في الخارج أحد مصادر تمويل الموازنة. لنأخذ مصر مثالاً؛ يبلغ عدد العمال في الخارج نحو 14 مليون عامل يحوّلون إلى بلادهم 31 مليار دولار سنوياً، ما يمثل نحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي.
يحاول البنك الدولي التلاعب بالكلمات واستخدام لغة الأرقام ليقنعنا دائماً بالنتيجة نفسها، علينا أن نهدر كل مقدراتنا لنملأ خزائن الدول الرأسمالية، فهل نتعلم الدرس أم نسقط في الفخ مرة أخرى؟