كيف حضرت مظلومية شعب البحرين في وجدان الشهيد قاسم سليماني؟
من أبرز المواقف المتضامنة مع آية الله قاسم، كان الموقف التاريخي للشهيد الحاج قاسم سليماني، الذي أكّد أنّ الإساءة إلى الشيخ قاسم ستكون بدايةً لانتفاضةٍ دامية في البلاد.
لا يمكن وسم أي حراك سياسي ذي ثقل إقليمي بأنه شأن محليّ بحت. الحال لا يختلف في البحرين، بلحاظ أنّ ما يجري فيها ليس شأناً داخلياً خاصاً بنظام الحكم ومعارضيه، بل له تأثير في كل أنظمة الخليج، وفي الوجود الأميركي العسكري، وحتى في الاقتصاد العالمي، نظراً إلى أنّ المنطقة تعتبر المصدر الأساسي للنفط في العالم.
يعود الحراك الشعبي في البحرين إلى ما قبل "الاستقلال" عن بريطانيا في العام 1971، وتحديداً منذ العشرينيّات، ويتميّز بكونه أول حركة خليجية سلميّة مطالبة بالديمقراطية والمساواة، فقد شهدت البلاد حراكاً شعبيّاً في العام 1922 لإلغاء نظام السخرة والضرائب. وفي الثلاثينيات، طالب الحراك بمجلس تشريعي وهيئات نقابية تحفظ حقوق العمال في شركات النفط.
وشكَّلت المعارضة في الخمسينيات هيئة الاتحاد الوطني للمطالبة بمجلس تشريعي، وقانون عام جنائي ومدني، ونقابة للعمال، ومحكمة عليا. وانتهت هذه الحركة بقمعها ونفي قادتها. وفي الستينيات، انطلقت حراك آخر احتجاجاً على فصل عدد من العمال.
وشهدت الثمانينيات والتسعينيات حراكاً طالب بالإصلاح السياسي، وعودة الحياة النيابية، وتفعيل دستور 1973، عبر عريضة وقّعها نحو 300 شخصية من مختلف فئات المجتمع البحريني واتجاهاته، رفعت إلى أمير البلاد آنذاك في كانون الثاني/يناير 1993م.
وقد تزايد الحديث عن حراك البحرين الشعبي إقليميّاً ودوليّاً خلال العقد الماضي، مع تزايد حدّة الأزمة السّياسية منذ 14 شباط/فبراير 2011.
أخطر أوجه الأزمة السياسية في البحرين كان محاولة النظام تفريغها من سكّانها الأصليين عبر التجنيس السياسي، وهو تهديدٌ يستدعي قانونياً استفتاءً وطنياً عاماً، يمكّن هؤلاء من تقرير مصيرهم، وهو حقّ مكفول دوليّاً، وخصوصاً بعد تمادي الحكم في تعدّيه على الحق السياسي بتطبيعه غير الشرعي مع كيان الاحتلال، متجاهلاً الرفض الشعبي العارم.
بعد اعتقال الشيخ علي سلمان غير القانوني، وحلّ جمعية "الوفاق" وتطبيق العزل السياسي، وُجّهت إلى آية الله قاسم تهماً مفبركة بالتحريض على إسقاط نظام الحكم بالقوة، ثم أسقطت جنسيته، فتصاعدت حدّة الأزمة. إسقاط الجنسية عن الشيخ قاسم، وعن علماء دين آخرين ومئات المواطنين، أثبت الحرب الممنهجة القائمة ضد شعب البحرين.
سليماني ناصر لمظلوميّة شعب البحرين
اللافت في محاربة آية الله قاسم والشيخ علي سلمان هو الإقصاء الرسمي الممنهج لأحد أبرز دعاة العمل السلمي وضامني عدم الدفع بالحراك المطلبي إلى الخيار العنفي في البحرين. وقد ندّد المجتمع الدولي والحقوقي بإسقاط جنسية آية الله قاسم، باعتباره مخالفاً للمواثيق الدولية.
من أبرز المواقف المتضامنة مع آية الله قاسم، كان الموقف التاريخي للشهيد الحاج قاسم سليماني، الذي أكّد أنّ الإساءة إلى الشيخ قاسم ستكون بدايةً لانتفاضةٍ دامية في البلاد. وفي حديثه إلى وكالة "يونيوز"، قال الشهيد إنَّ الشعب البحريني الذي تحمّل لسنوات طويلة الظلم والتمييز والعنف من النظام، ورغم الضغوط الكبيرة والمعاملة العنصرية واعتقال القادة السياسيين والدينيين، كان يسعى لنيل حقوقه العادلة والمحقّة بشكل سلمي، من دون أن يمنح آل خليفة أي مبرّر، ولم يدفعه تشديد ضغوط النظام عليه إلى تغيير طرقه السلمية.
ورأى أنَّ ما أسماها "غطرسة آل خليفة" وصلت إلى حدٍّ أنّهم زادوا جرائمهم يوماً بعد يوم، وشدّدوا الضغط على الشعب، مستغلّين نبله وحركته السّلمية، ومستفيدين من صمت الأمم المتحدة والولايات المتحدة والبلدان الغربية، ما شجّعهم على تهديد حرمة الشيخ عيسى قاسم.
وقال: "لا شكّ في أنهم يعرفون جيداً أنّ التعرض لحرمة آية الله الشيخ عيسى قاسم هو خط أحمر لدى الشعب، يشعل تجاوزه النار في البحرين والمنطقة بأسرها، ولن تبقي مثل هذه الممارسات خياراً للشعب إلا المقاومة، والتي سيدفع آل خليفة ثمنها، ولن تسفر إلا عن زوال هذا النظام المستبد"، خاتماً: "فليعلم حماة آل خليفة أنَّ الإساءة إلى آية الله الشيخ عيسى قاسم واستمرار الضغوط الخارجة عن تحمّل الشعب في البحرين، ستكون بداية لانتفاضة دامية تقع مسؤوليتها على من يشرعون غطرسة حكام البحرين".
المهندس وسليماني في فكر آية الله قاسم
الجريمة البشعة التي هزّت ضمائر أحرار العالم، صبيحة 3 كانون الثاني/يناير 2020، وصفها آية الله قاسم بالعدوان الآثم الذي أفجع الأمة، وفي الوقت نفسه، أشعرها بالفخر العظيم بالشهيدين سليماني والمهندس، واصفاً إيّاهما بعملاقَي الجهاد، والعاملين الدؤوبين في سبيل الدين والكرامة وحرية الوطن الإسلامي والذود عن المقدسات والحرمات.
ويضيف سماحته أنَّ في ذِكْرهما ذِكراً لساحات المقاومة والجهاد والفداء، وذِكراً للقضيّة الفلسطينية ومركزيّتها... ويرى أنّ الشهيد سليماني حاضرٌ بعد استشهاده، كحضوره قبله، إنْ لم يكُن أشدّ، في كلّ ساحات الجهاد، حضوراً فعَّالاً، "على طريق البسالة، والتضحية في سبيل الله، وشحذ الهِمَم، وإلهاب الحماس للقضايا الحقّة، والشوق للشهادة".
الفقيه المقاوم يبيّن أنّ الشهيدين سليماني والمهندس قرآ آيات الجهاد، وسمِعاها بأذنٍ واعية، واتخذاها منهجاً "يصنع الحياة، ويصنع الآخرين، ويصنع الحاضر، ويصنع المستقبل العظيم". وفي معرض تفسيره لآية: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}، يقارن آية الله قاسم بين الأمة الوسط التي تشقّ طريق نهضتها بجدٍّ، وأميركا التي تناهض كل نهضةٍ محقّة وتريد الحاكمية المطلقة لسياستها الشيطانية.
أميركا تعادي كل حركة تترصّد غطرستها واستكبارها، يجزم الفقيه، ويضيف: "لو خلَت الأرض من مقاومة السياسة الأميركية، لعمّ الفساد في الأرض، وحيث يعمّ الفساد، يتلاشى الإنسان، وتذوب الكرامة، ويُخسَر المصير".
الفقيه المقاوم يصف الخطاب الأميركي للشعوب والحكومات بخطاب القتل والتصفيات الفردية والجماعية والاغتيال، ويتابع: "أميركا تقول لأمّتنا: لا مقاومة، ولا تفكّروا في عزّةٍ ولا كرامة ولا استقلال، بل ذلُّوا وأخضعوا واستكينوا للسياسة الأميركية ولشياطين أميركا".
لذا، بحسب آية الله قاسم، تشتدّ عداوة شياطين أميركا للإسلام والأمة الإسلامية، وخصوصاً مقاومتها وعلماءها ورموزها وحَمَلة راية الإسلام، كالشهيدين سليماني والمهندس. ويؤكّد سماحته أنّ الاستهداف الأميركي للشهيدين كان سببه أنّهما عبدا الله وحده، لا السياسة الأميركية، وأخلصا للإسلام وانتصرا، ليس لأمّتهما فحسب، بل للإنسانيّة جمعاء أيضاً.
ويقول: "لم يقرّا إقرار العبيد، ولم يفرّا فرار المهزومين، ولم ينسيا واجب الدين في الدفاع عن الحقّ والإنسان والأرض والانتصار للمظلومين والمستضعفين، وأبيا لأمّتهما إلا أن تحيا عزيزة كريمة مرفوعة الجبين في الأمم". ويضيف سماحته أنّ السياسة الأميركية أرادت بجريمتها البشعة، وما تُقدّم عليه من تصفيات جسديّة لقادة الحركة الإسلامية، ألّا يكون في هذه الأمّة قاسمٌ ولا مهندسٌ ولا مُغنية، ولا أيٌّ بطل من أبطال المقاومة الأفذاذ.
ويوضح أن أشدّ ما نستحضره من سيرة الشهيدين سليماني والمهندس هو نسيان أكثر حكومات الأمّة لفريضة الجهاد والدفاع المقدّس، حتّى آل أمرُهم إلى مصافحة العدوّ الأميركي والصهيوني، لمواجهة كلِّ من يدافع عن الإسلام الأصيل وعزّة الأمة واستقلالها.
ويؤكّد الفقيه أنّ دورهما القيادي المتميّز وجاذبيتهما الإيمانية للشباب الغيارى والأبطال، وتربيتهما الصالحة لكثيرٍ من المقاومين، يظهر صدقهما في ما عاهدا الله عليه من الاستقامة على طريق ذات الشوكة، حتّى صارا بحقّ قدوةً كبرى لهذا الجيل والأجيال من بعده.
ويردف قائلاً إنّ الشهيدين مدرسة حيّة في الجهاد الحقّ الذي يؤكده الإسلام المحمّدي الأصيل، والذي يأبى لأمّته أن تهون وتذلّ، أو أنْ يمسَّها الضعف، كي تأمن على مصالحها، ويفتح لها الطريق إلى هداية النّاس ونقلهم من الظلمات إلى النّور.
الشهيدان الجليلان المغواران المعلمان، بحسب الفقيه، تميّزا بحكمةٍ وبصيرةٍ وقدراتٍ متنوعة وصدقٍ وإخلاصٍ للإسلام، وجاذبيّة إيمانية وأخلاقية، وروحٍ تضحوية، وإقدامٍ عجيب، فأرعبا دولة الغطرسة والغرور والطاغوتية الكبرى أميركا، و"صنيعتها ما تسمى بدولة إسرائيل"، وكذلك "داعش".
وعن علاقة الشهيدين ببعضهما البعض، يقول سماحته: "كان المعلّم الحاج يرى في تلميذه الكبير الحاج أبي مهدي مفخرة إيمان وجهاد، وكان أبو مهدي يرى في الحاج القدوة معلّمه العظيم"، داعياً من يريد أن يعرفهما أكثر إلى مطالعة كلمات القادة والأبطال ممن عاشوا قربهم ورأوا بطولاتهم ومواقفهم الجهادية وحبّهم للشهادة، وكذلك مطالعة كلمات الأعداء الذين أوجعتهم وهدّدتهم بطولاتهم.
أخيراً، يشدّد آية الله قاسم على أنّ خيار شعب البحرين هو أن يقاوم كلّ أبناء الأمّة العدوان الإسرائيلي، وهو خيار ضدّ عار التطبيع، وضدّ العمل على انقسام الأمّة. إنّه خيار التبرؤ من الاستسلام للإرادة الأميركية والصهيونية التي تستهدف حرف مواقف الأمّة، سواء كان موقف "فردٍ أو حزبٍ أو نظامٍ سياسيّ". ويؤكّد سماحته أنّ السلوك السياسيّ لنظام الحكم في البحرين يعدّ استخفافاً بالشعب ودينه وأمّته ومقدّساته، ومُنافياً لكرامته. لذا، يُقاومه ما استطاعَ مقاومته.