كيف تعيد العوالم الافتراضية كتابة سيكولوجيا الواقع؟ ميتافيرس نموذجاً
الانخراط في مساحة رقمية افتراضية سريعة التطور "يعزز الشعور بالاستقرار والاستمرارية"، لكنه أيضاً "يمكن أن يحد من فرص النمو الشخصي والتواصل الاجتماعي".
لا ينظر علم النفس إلى عالم "ميتافيرس" (Metaverse) باعتباره عالماً رقمياً أو افتراضياً فقط، بل هو نظام تحويلي يُعيد تشكيل السلوك البشري والتفاعلات الاجتماعية وتشكيل الهوية والرفاهية النفسية.
يقترح الباحث الفنلندي في أخلاقيات علم الأحياء، جويل جانهونن، في ورقة بعنوان "حكمة النمط الراسخ" صادرة عن جامعة "كولومبيا" في حزيران/يونيو 2023، أن "التحيزات المعرفية والتصرفات العاطفية تؤدي دوراً مهماً في كيفية تكيفنا مع البيئات الجديدة. هذه التحيزات التي غالباً ما تكون انحرافات عن الحكم القائم على العقل متجذرة بعمق في تاريخنا التطوري. إنها توجه ردود أفعالنا على التغييرات وتؤثر في عمليات صنع القرار لدينا، وغالباً ما تضع الحدس قبل التفكير الاستراتيجي". في عالم "Metaverse"، يمكن أن تظهر هذه التحيزات بطرق مختلفة، من الصور الرمزية التي نختارها لتمثيل أنفسنا إلى المجتمعات التي نقرر الانضمام إليها.
يوضح جانهونن هذه المسألة بالدعوة إلى تأمل ظاهرة "تحيز الوضع الراهن"، وهي تفضيل الوضع الحالي.
في عالم "ميتافيرس"، يمكن أن يظهر هذا التحيز على "أنه إحجام عن استكشاف عوالم افتراضية جديدة أو الانخراط مع مجتمعات غير مألوفة". وبطبيعة الحال، فإن هذه "المقاومة" للتغيير يمكن أن يكون لها آثار إيجابية وسلبية على حد سواء.
للوهلة الأولى، يمكن القول إنّ الانخراط في مساحة رقمية افتراضية سريعة التطور "يعزز الشعور بالاستقرار والاستمرارية"، لكنه أيضاً "يمكن أن يحد من فرص النمو الشخصي والتواصل الاجتماعي".
الأستاذة المساعدة في كلية علم النفس في جامعة "سانت بطرسبرغ" الروسية، ناتاليا غونكاروفا، تولي أهمية البحث لتأثير ميتافيرس في الصحية العقلية. وإذ توافق غونكاروفا على أن بمقدور "ميتافيرس" أن يكون "بمنزلة مساحة علاجية للأفراد الذين يتعاملون مع القلق الاجتماعي، ما يسمح لهم بالتفاعل مع الآخرين في بيئة أقل ترويعاً"، فإنها تشدد أيضاً على أنّ "الاعتماد المفرط على التفاعلات الافتراضية يمكن أن يؤدي إلى شكل من أشكال سوء التكيف، إذ يجد الأفراد صعوبة متزايدة في الانخراط في المواقف الاجتماعية في العالم الحقيقي".
هذه الاستنتاجات تقودنا سريعاً إلى ضرورة اتباع نهج متوازن عند الانخراط في "ميتافيرس" بشكل يكمل التفاعلات في العالم الحقيقي بدلاً من استبدالها.
الأمن الأنطولوجي في عالم ميتافيرس
يشير مفهوم "الأمن الأنطولوجي" إلى حالة عقلية مستقرة مستمدة من الشعور بالنظام والقدرة على التنبؤ بتجارب الفرد أو بيئته. يمكننا تفسير هذا المصطلح بأنه يعني الراحة والرفاهية العاطفية التي نشعر بها عندما يكون عالمنا منطقياً ومكاننا فيه مستقراً، ويبدو فيه المستقبل متوقعاً بشكل معقول. يسمح لنا هذا الشعور بالأمان بالتنقل في تقلبات الحياة بمستوى معين من الثقة والسهولة، وهو مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالروتين والعلاقات والإعدادات المألوفة التي تمنحنا شعوراً بالأمان والاستمرارية.
يُعد مفهوم الأمن الأنطولوجي في زمن الإنترنت والفضاءات الرقمية، كما يبحث فيه كل من هيليم ساري إرتيم وأسلينور دوزغون، أمراً بالغ الأهمية في فهم كيفية تفاعل الناس داخل "ميتافيرس"، إذ يرتبط هذا النوع من الأمان بالروتين والتفاعلات الاجتماعية والاستقرار في حياتنا.
بحسب الباحثين التركيين، يمكن لـ"ميتافيرس"، بمشاهدها المبتكرة ومجتمعاتها المتغيرة باستمرار، "تعزيز أو تعطيل هذا الشعور بالأمان، ما يمكن أن يوفر بيئة مستقرة لأولئك الذين يجدون العالم المادي فوضوياً أو يصبح مصدراً للقلق لأولئك الذين يعانون سيولة الهويات الافتراضية".
وللتعمق أكثر، دعونا نفكر في حالة الشخص الذي يجد العزاء في مجتمع افتراضي معين داخل "ميتافيرس". يوفر هذا المجتمع إحساساً بالأمان الأنطولوجي من خلال توفير بيئة مستقرة ويمكن التنبؤ بها. ومع ذلك، إذا خضع هذا المجتمع لتغييرات كبيرة أو تم حله تماماً، فقد يعاني الفرد شكلاً من أشكال انعدام الأمن الأنطولوجي، ما يؤدي إلى التوتر والقلق.
الأزمة الأنثروبولوجية والأجيال الحديثة
للميتافيرس أيضاً آثار في الاهتمامات الأنثروبولوجية الأوسع. يشير مصطلح "الأزمة الأنثروبولوجية" إلى اضطراب كبير أو تحدٍ للجوانب الأساسية لما يعنيه أن تكون إنساناً. وقد ينطوي ذلك على تحولات في القيم الثقافية أو الهياكل الاجتماعية أو حتى الفهم الأساسي للهوية الإنسانية.
وكثيراً ما تنشأ مثل هذه الأزمة في أوقات التغير السريع أو الاضطرابات، عندما لا تعود المعايير والممارسات التقليدية توفر إجابات أو إرشادات كافية، ما يدفع البشر إلى التساؤل عن هويتهم، وكيف نرتبط ببعضنا البعض، وما مكاننا في العالم. هذه الأسئلة جميعها قد تؤدي إلى الشعور بالارتباك أو الخسارة.
وتعتبر يوليا يوريفنا سوجروبوفا وإيرينا كاربوفا ويوليا أوليغوفنا دوروفي أن الأزمة الأنثروبولوجية تؤثر في الأجيال الحديثة، ومن المحتمل أن تتفاقم أو تخفف "ميتافيرس" من حدتها، إذ "يمكن للعالم الافتراضي توحيد الهياكل الاجتماعية والسياسية أو المساهمة في تدمير أشكال الهوية البشرية، مثل الأسس الثقافية والتاريخية والروحية".
وفي مجال "ميتافيرس"، تتجلى الأزمة الأنثروبولوجية كتحدٍ للأشكال التقليدية للهوية والمجتمع، فمع أنّ العالم الافتراضي يوفر طرقاً جديدة للتعبير عن الذات والتفاعل الاجتماعي، ولكنه يثير أيضاً أسئلة حول أصالة ومتانة هذه الهويات الافتراضية. هل هي مجرد امتدادات لأنفسنا في العالم الحقيقي أم أنها تمثل شكلاً من أشكال الهروب الذي يمكن أن يؤدي إلى أزمة هوية؟
بناءً على ما تقدم، نجد أن "ميتافيرس" ليس مجرد صيحة تقنية، بل هو، من وجهة علمية، نظام بيئي معقد له آثار نفسية عميقة.
وبينما نواصل استكشاف هذه الحدود الرقمية، من الأهمية بمكان فهم تأثيرها في السلوك البشري والتفاعلات الاجتماعية وتشكيل الهوية والرفاهية النفسية. عندها فقط يمكننا تسخير إمكاناتها للتغيير الإيجابي مع التخفيف من مخاطرها.
1. Janhonen, J. (2023). Wisdom of the Established Pattern. Voices in Bioethics, 9. https://doi.org/10.52214/vib.v9i.11740
2. Goncharova N. A. (2021). Psychological Mechanisms of Formation and Prevention of Individual Psychological Maladjustment of the Personali. Russian Journal of Deviant Behavior. (2), 194-202. DOI: https://doi.org/10.35750/2713-0622-2021-2-194-202 Retrived from (Date of access 22.09.2023)
3. SARI ERTEM, H., & DÜZGÜN, A. N. (2021, March 30). Ontological Security Theory in the Discipline of International Relations: A Concept- and Literature-Based Review. Güvenlik Stratejileri Dergisi, 17(37), 39–83. https://doi.org/10.17752/guvenlikstrtj.905751
4. Sugrobova, Y. Y., Karpova, I. D., & Dorofei, Y. O. (2020, June). The parameters of anthropological crisis and modern global generation. Человек И Культура, 6, 22–34. https://doi.org/10.25136/2409-8744.2020.6.34308