كونفدرالية دول الساحل: الهيكلة والطموحات
حلقة جديدة من حلقات ما يمكن وصفه بإعادة التشكل الجيوسياسي لإقليم الساحل سيسفر حتماً عن حركية تأثير لن تستثنى منها أي بنية من البنى الإقليمية الفرعية في الساحل في غرب أفريقيا وفي شمالها.
سبق أن تنبأنا في مقالنا المنشور في الميادين نت في 02 سبتمبر/تشرين الأول 2023 المعنون بـ"أفريقيا: حلف دول الساحل ومعالم هندسة أمنية إقليمية جديدة" بأنّ كسر المعادلات الجيوسياسية وتسويات النفوذ التقليدية صار مطلباً لدول الساحل الأفريقي يجري تنفيذه وفق مقاربات وآليات جديدة تروم الإفلات مما جرى تكبيل الإقليم ودوله به منذ مؤتمر ما سمي بـ"تنظيم استعمار القارة الأفريقية" في برلين عام 1885، وها هو تأسيس "كونفدرالية دول الساحل" في 6 تموز 2024 يأتي ليثبت صواب ما تنبأنا به، وليبرهن أيضاً إصرار مالي والنيجر وبوركينا فاسو على خيار تعميق الاندماج في ما بينها وإكمال المواجهة مع الإكواس.. وفرنسا.
هي إذاً حلقة جديدة من حلقات ما يمكن وصفه بإعادة التشكل الجيوسياسي لإقليم الساحل سيسفر حتماً عن حركية تأثير لن تستثنى منها أي بنية من البنى الإقليمية الفرعية في الساحل في غرب أفريقيا وفي شمالها.
هيكلة مؤسساتية جديدة
في 06 تموز 2024، قررت المجالس العسكرية الحاكمة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء اتحاد كونفدرالي بينها يعمل على توسيع النطاق التشغيلي لحلف دول الساحل (AES) نحو مجالات من شأنها تعزيز التكامل الأفريقي والوصول بالاتحاد إلى حالة الفدرالية المأمولة، كما جاء في نص ديباجة الاتفاقية المنشِئة لكونفدرالية دول الساحل.
للتذكير، يعدّ حلف دول الساحل أوّل نواة لمشروع "فدرالية دول الساحل" المنشود وضعتها الدول الثلاث منذ سبتمبر/أيلول 2023. وقد أسّس على قاعدة الاتفاق المتبادل "لإرساء هندسة دفاعية جماعية ومساعدة متبادلة بين الأطراف المتعاقدة". وكغاية أولى ومستعجلة، وضع ردع ولجم التدخل العسكري الذي هدّدت به المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إكواس) وفرنسا لإسقاط المجلس العسكري في النيجر بالقوّة في سدة أولويات الحلف لحظة إنشائه.
وفي ما يبدو كأنه اعتداد بالنجاح في تحقيق هذه الغاية، قررت دول الساحل الاستلهام من ميثاق ليبتاكو-غورما للذهاب أبعد في تعاونها ومأسسته على نحو أعمق.
من هذا المنطلق، يلاحظ المطلع على الاتفاقية المنشِئة لكونفدرالية دول الساحل أولاً وقبل كل شيء ذلك التركيز على الجانب البنيوي للتعاون في نصّها، والذي بدا واضحاً من الخوض المفصل في الهيكلة المؤسساتية الجديدة التي وضعتها الاتفاقية وحصرتها على التوالي في: هيئة رؤساء الدول، ومجلس وزراء الكونفدرالية، والدورات الكونفدرالية للبرلمانات.
وجاء التفصيل في تركيبة هذه البنى المؤسسية وآليات تشكيلها وصلاحياتها من المادة السادسة إلى المادة التاسعة عشرة من الاتفاقية. وفقاً للأخيرة، تعدّ هيئة رؤساء دول كونفدرالية الساحل أعلى هيئة في البنية الجديدة أوكلت لها مهمة رسم الرؤى وتحديد السياسات الكونفدرالية في مجالات الأمن والدفاع والدبلوماسية والتنمية. يجري تداول رئاسة الهيئة بين رؤساء الدول الثلاث في رئاسات متتالية تدوم كل واحدة منها سنة واحدة، وتتخذ قراراتها بالإجماع، وتصبح نافذة بمجرد استلامها من دول الأعضاء في الآجال المحددة.
أما مجلس وزراء الكونفدرالية، فقد حددت تشكيلته لتضمّ وزراء الدول الأعضاء المكلفين بالشؤون الخارجية ووزراء الدفاع والأمن، إضافة إلى الوزراء المسؤولين عن تنسيق المسائل ذات الصلة بالتنمية، وهو مخول بتقديم اقتراحات لهيئة الرؤساء في مجالات اختصاصه.
أخيراً، وفي ما يتعلق بمجلس برلمانات الكونفدرالية، نصَّت الاتفاقية على اختيار أعضائه الذين سمّتهم بـ"النواب الكونفدراليين" من برلمانات الدول الأعضاء، على أن تمثل الدول الثلاث بالتساوي ضمن المجلس المستحدث.
طموحات عسكرية.. واقتصادية
ثمة هاجس أمني ودفاعي يحرك مشروع كونفدرالية الساحل يعكسه ذلك التركيز الملحوظ على الأبعاد الأمنية والعسكرية والدبلوماسية في الاتفاقية المنشئة لها، في ما يعتبر ترسيخاً للبعد الأمني والدفاعي لهذا المشروع التكاملي الساحلي.
ويبدو جلياً الإصرار على الفلسفة الملهمة لميثاق حلف دول الساحل ونية الدول الثلاث المعقودة من أجل تطويرها فيما أقرّته ديباجة الاتفاقية، وكذا المادة الرابعة منها التي وضعت على رأس الصلاحيات الممنوحة لمؤسسات الكونفدرالية -باعتبارها مؤسسات فوق قومية- مجالات الأمن والدفاع والدبلوماسي، مع التأكيد أنّ بروتوكولاً إضافياً سيحدّد بدقة هذه الصلاحيات ضمن كلّ مجال.
المادة الخامسة التي عددت التزامات أعضاء الكونفدرالية انطوت أيضاً في بندها الأول على تأكيد واضح على تمسّك الدول الأعضاء بالتعاون والتنسيق في المجالين الأمني والدفاعي في سبيل الدفاع عن سيادتها ووحدتها الترابية، كما نصّت في بندها الثاني على التزامها بتنسيق سلوكياتها الدبلوماسية وضرورة "تقاسم الرؤى والمواقف نفسها حيال الرهانات الجيوسياسية الكبرى"، بيد أنّ الإضافة المبتكرة التي أضفت بوناً بين "الاتفاقية المنشئة لكونفدرالية دول الساحل" وميثاق ليبتاكو-غورما المنشئ لـ"حلف دول الساحل" هي تلك المتعلقة بإعطاء بعد جديد للتعاون في المجال الاقتصادي والمالي؛ فبموجب المادة الخامسة من الاتفاقية، في بنديها الثالث والرابع، التزمت النيجر ومالي وبوركينا فاسو بزيادة التعاون الاقتصادي في ما بينها وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع والخدمات بحرية داخل الفضاء الكونفدرالي الجديد.
ويأتي التنصيص على هذا البعد الجديد للتعاون بين الدول الثلاث ليجسد بعضاً من خطابات قادتها في عدة محطات، والتي كثيراً ما انطوت على نية جمع ودمج موارد دولهم في القطاعات الاستراتيجية، مثل الزراعة والمياه والطاقة والنقل، وتخطيطهم لإنشاء بنك استثماري وصندوق استقرار يساعد في تجسيد المشروع التكاملي الذي يحذوهم.
وبالرغم من سقف طموحاتها الاقتصادية المرتفع، يلاحظ أن الاتفاقية الجديدة لم تعلن عن أي خطط لتطوير عملة مشتركة، بالرغم من أن قادة دول الكونفدرالية ووزراء خارجيتها أشاروا مرارًا وتكرارًا إليها كأولوية في اجتماعات وبيانات سابقة.
نزعة تحدٍ للإكواس
إن أبرز ما يلفت الانتباه في ديباجة الاتفاقية المنشِئة لكونفدرالية حلف دول الساحل هو استدعاؤها -بنية التوكيد – قرار النيجر ومالي وبوركينا فاسو المشترك بالانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا الذي أعلن عنه في 28 جانفي/كانون الثاني 2024.
وإن كان إلحاح الدول الثلاث على موقف انسحابها يجد بعضاً من تفسيره في الرغبة في نفي أي احتمال للتراجع عنه، وخصوصاً أن بعض الأطراف داخل الإكواس – ولا سيما السنغال على لسان رئيسها باسيرو ديوماي فاي- لمحت إلى ما يشبه هذا، إلا أنه في الحقيقة إذا ما قُرِنَ بمضامين مواد الاتفاقية في أبعادها الأمنية والاقتصادية يعطي صورة من التحدي للإكواس قد تعكس رغبة النيجر ومالي وبوركينا فاسو في إنشاء كونفدرالية ساحلية يراد لها أن تنافس التنظيم الإقليمي القديم أو أن تكون بديلة له.
سواء تعلّق الأمر بمسار التكامل الذي تعمل عليه الإكواس منذ تأسيسها، أو مشروع تحرير التجارة البينية وإجراءات حرية تنقل الأشخاص والأموال والخدمات والسلع، أو التنسيق الأمني والاستخباراتي في إطار العمل المشترك داخل مؤسساتها لمواجهة التهديدات الأمنية العابرة للحدود في غرب أفريقيا... فإنّ كل هذه الورش الإقليمية باتت مهدّدة بالانهيار إثر انسحاب الدول الثلاث، وستنبثق في المقابل مسارات جديدة تريد كونفدرالية دول الساحل تأسيسها بمعزل عن الأطر القديمة.
هذا ما تصبو إليه الدول الساحلية الثلاث، ففي علاقتها مع الإكواس من الجلي أن هذه الدول تتبع سياسة التحدي وإعطاء الانطباع بأنها قادرة على بناء فضاء جديد منفصل عن الإكواس وبديل عنه.
وإذا ما ارتكزنا على هذا لقراءة المستقبل، فإن الاستنتاج الذي يمكن بناؤه من الآن هو أن العلاقة بين الكتلتين ستنزع أكثر فأكثر نحو المواجهة، ليس فقط بسبب التجربة المثقلة بالخلافات بينهما التي بدأت منذ أن قررت الإكواس فرض عقوبات على الدول الثلاث، بل لكون كل كتلة من الكتلتين مدفوعة بقوة فوق إقليمية مناقضة في مشروعها للقوة التي تدفع الكتلة المقابلة، وهذا تحديداً ما سنعمل على شرحه في مقالات قادمة.