فنلندا والسويد نحو الانخراط في الناتو.. مواجهة أم تسوية؟
كيف يمكن أن تتطور الأمور بين الروس والناتو على خلفية ذلك، مقارنة مع ما يحصل حالياً؟
قد تكون الخطوة الرسمية التي خطاها رئيس جمهورية فنلندا، بناءً على اقتراح حكومته، والمتعلقة بإخطار منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) باهتمام فنلندا بالدخول في مباحثات بشأن الانضمام إلى الناتو، والمسارعة إلى تعيين وفد لمباحثات الانضمام التي ستعقد مع الناتو والدول الأعضاء فيه، يضاف إليها خطوة سويدية مماثلة، هي الخطوة المزدوجة الجدية الأولى في مسار غير سهل بدأ يفرض نفسه على روسيا والناتو والعالم برمته ربما.
وباعتبار أن هذا الأمر كان يدور بداية في فلك التكهنات والاحتمالات البعيدة، نظراً لما يحمله من حساسية تحبس الأنفاس، فإن ما تضمنه البيان الرسمي الفنلندي حول ما ستشمله مباحثات الانضمام من قضايا سياسية وقانونية وأمنية وعسكرية، كافٍ لاقتناع المعنيين بأن مساراً آخر من المواجهة (شبه العالمية) قد انطلق، بالتوازي أو بالتداخل مع المواجهة العالمية الأخرى المرتبطة بالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
لا شك في أن رد فعل روسيا تجاه فكرة أو إمكانية انخراط أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي، جاءت عملياً أكثر من عنيفة، وما يجري حالياً من مواجهة شبه عالمية في أوكرانيا وخارجها وعلى هذا المستوى المرتفع وغير المسبوق من الاشتباك العسكري والسياسي والاقتصادي الخطير والحساس، هو خير دليل على رد فعل روسيا هذه، فكيف يمكن أن يكون مستوى رد فعلها الأخرى فيما لو اكتملت عملية انخراط فنلندا أولاً وقبل السويد في الحلف المذكور، وأصبح الأمر واقعاً، ولم يبق احتمالاً وارداً كما كان بخصوص أوكرانيا؟ وكيف يمكن أن تتطور الأمور بين الروس والناتو على خلفية ذلك، مقارنة مع ما يحصل حالياً؟
طبعاً، تبقى نقطة الارتكاز الأساسية التي تُقلق الروس من انخراط أي دولة في الناتو تتعلق بمدى قربها أو مجاورتها لحدودها، وما يمكن أن تقدمه هذه الدولة من تسهيلات قانونية وإدارية ولوجستية لنشر القدرات العسكرية للناتو على أراضيها، إذ ستدخل حتماً هذه القدرات الغربية ضمن استراتيجية الحصار التي تُستهدف بها روسيا من الحلف المذكور يوماً بعد يوم، وتباعاً بعد انطلاق مسلسل انخراط دول الاتحاد السوفياتي السابق في الناتو.
وبالتالي، إن مفاعيل المادة الخامسة من بروتوكول حلف شمال الأطلسي، والتي تضمن حماية كل دولة منخرطة في الحلف، وتُلزم الأعضاء الآخرين بالدفاع عنها، بمواجهة أي خطر أو تعدٍ خارجي مهما كان مصدره، ستكون شروطها متوفرة لخلق نواة لانطلاق مواجهة مباشرة، لم تتوفر بشكل كافٍ من خلال مناورة دفاع الناتو عن أوكرانيا.
إذاً، لقد أصبح واضحاً أن الرد الغربي على أي تدخل روسي ممكن في فنلندا (سيبقى مستبعداً جداً هذا التدخل في السويد، لكون الأخيرة غير مرتبطة مباشرة من الناحية الجغرافية مع روسيا)، وخصوصاً إذا اكتمل انخراطها في الناتو، وسيكون مختلفاً ومضاعفاً حتماً مقارنة بالمستوى الذي وصل إليه هذا الرد في أوكرانيا، لكونه متسلحاً بالمادة الخامسة المذكورة من بروتوكول حلف الناتو، وسيأتي بعد تجربة أوكرانيا، ونتيجة قرار غربي بعدم التهاون مع روسيا أمام أي عمل مماثل في دولة أوروبية ثانية.
أيضاً، أصبح واضحاً أن الروس، واستناداً إلى تصريحاتهم العلنية مؤخراً، سوف يلجأون إلى اتخاذ إجراءات عسكرية "تقنية"، كرد على هذا الانخراط المرتقب لفنلندا، فكيف يمكن أن تكون هذه الإجراءات "التقنية"؟ وهل تكون مختلفة أو قريبة من تلك التي اتخذوها ضد أوكرانيا تحت عنوان "العمليات الخاصة"؟ وهل يمكن أن يذهب الروس في إجراءات صدامية من دون تراجع متجاوزين كل التداعيات الأكيدة؟ وبماذا يحتفظون من مناورات تضمن لهم موقفهم وموقعهم في هذه المواجهة من دون أن يجرّوا على أنفسهم تداعيات ضخمة مثل التي يعانون منها حالياً بشدة ولم تكن سهلة عليهم بسبب الملف الأوكراني؟
من الناحيتين الجغرافية والاستراتيجية، لفنلندا تأثير ضخم مباشر في روسيا، حيث الحدود المشتركة بينهما تتجاوز الألف كلم، بالإضافة إلى أن ارتباطها الحدودي البري المباشر مع روسيا له تداعيات ضخمة عسكرياً على الأخيرة فيما لو انضمت إلى الناتو، مع ما يعنيه ذلك من عسكرة أطلسية بمستوى مرتفع بمواجهة روسيا، كما أن لامتداد فنلندا شمالاً وتداخل حدودها الشمالية الشرقية مع الواجهة الروسية شمالاً على بحر بارنتس، تأثيراً كبيراً في قواعد روسيا العسكرية في القطب الشمالي، وبالتالي في الصراع والاشتباك الاستراتيجي الروسي- الغربي في تلك المنطقة الحيوية من العالم.
من ناحية أخرى، ومع أهمية تأثيرات فنلندا المباشرة في روسيا، وخصوصاً إذا انضمت إلى الناتو، إلا أن هذه التأثيرات تبقى أضعف قليلاً في موسكو من تأثيرات أوكرانيا ودول البلطيق الثلاث أيضاً (ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا)، حيث البر المفتوح مباشرة للدول الأربع على الداخل الروسي من اتجاه الغرب أو من اتجاه شمال غرب، وحيث الاشتباك البحري المباشر في بحر البلطيق بين روسيا وبين دول الناتو بأغلبها، يأخذ حالياً طابعاً مرتفعاً، الأمر الذي يبقي تداعيات انخراط فنلندا على روسيا، رغم حساسيته، ضمن إطار المسيطر عليه روسياً، على الأقل بالشكل الذي لا يستدعي قيام موسكو بمغامرة متشددة كتلك التي نفذتها في أوكرانيا.
انطلاقاً من كل ذلك، يبقى مستبعداً أن تصل المواجهة بين روسيا وفنلندا، حتى فيما لو اكتمل انخراط الأخيرة بالناتو، إلى المستوى الذي وصلت إليه المواجهة في أوكرانيا... وفي حين وصل العالم اليوم إلى أزمة غذاء خطيرة متسارعة، تجاوزت تداعياتها وستتجاوز أكثر وأكثر تداعيات الأعمال القتالية الناشئة عن الحرب في أوكرانيا... وفي الوقت الذي يجب أن ننظر بتمعن إلى دور تركيا الرافض لانخراط فنلندا والسويد في الناتو، وما لتأثير موقف أنقرة وموقعها في هذا المسار كعضو أساسي يستوجب اكتمال هذا الانخراط موافقتها قانوناً، أصبح لا بد أن ننتظر مناورة معينة يمكن أن تحمل نواة لإمكانية تفاوض قريب، برعاية تركية وعدم معارضة أميركية وسعي ودعم أوروبي، تعيد كل الأطراف إلى مربع تسوية واسعة، فيها حل معين للأزمة الأوكرانية الروسية وما تريده موسكو من ضمانات، وفيها بلورة غير مسيئة لانخراط السويد وفنلندا في الناتو، وفيها عودة إلى مسار الهدوء السياسي والاقتصادي والعسكري على الصعيد العالمي .