فلسفة الانتصار بالإضراب.. تجربة الفلسطينيين هي الأعمق
إنّ قصّة الإضراب عن العمل أقلّ تعقيداً من القصص الشائكة لإضراب الأسرى عن الطعام.
لم تكن الحياة لائقة بما يكفي لمئات الآلاف من العاملين في مصانع الأحذية والملابس في شيكاغو وفيلادلفيا قبيل الأول من أيار/مايو 1886م. كانت السماء تتّشح بالسواد، معلنة بدايات الثورة الصناعية في العالم، والتي لم تلتهم معها صفاء الجوّ فحسب، إنما صحّة العاملين في المصانع لمدة 16 ساعة يومياً أيضاً، في بيئات للعمل ما كانت لتهديهم إلا خطر الموت والأمراض السريعة الانتشار.
كان الإضراب فكرة مبتكرة، وكان السؤال مشروعاً: غالباً ما تستند القوة إلى فعل ما؛ القتل أو الضرب أو حتى الصراخ، ولكن ماذا عن القوة المكتسبة من الإضراب عن فعل ما؛ العمل أو تناول الطعام؟
هكذا، قرّر 300 ألف إنسان أن يتوقفوا عن العمل في الأول من أيار/مايو 1886م، متحدّين قوانين العمل الجائرة، وهو تحدٍ كلّف الإضرابَ حياة عدد من قياداته. صرخ أوغست سبايس أمام المشنقة: "سيأتي اليوم الذي يصبح صمتنا في القبور أعلى من أصواتنا"، وهكذا كان حقاً، فشعار الإضراب "خفض ساعات العمل" بات قانوناً عالمياً، وهيبة النقابات في العالم نمت مع ذكرى اليوم الحزين؛ اليوم الذي استفزّ أقلام الأدباء والمثقفين، ممن عاصر الحادثة ولم يعاصرها. في كلّ الأحوال، بات للحدث يوم عالمي يستذكره الكوكب مرة في كلّ سنة على الأقل. إنه الأوّل من أيار؛ يوم العمال العالمي.
إنّ قصّة الإضراب عن العمل أقلّ تعقيداً من القصص الشائكة لإضراب الأسرى عن الطعام. بينما كسر المضربون عن العمل عناد رؤوس الأموال الصناعية عبر تعطيل ماكيناتهم وإنتاجهم وحرمانهم من الربح المشتهى، كان رهان الأسرى من طينة مختلفة.
لسان حالهم يقول: "لقد فرضتم علينا حصار الجدران هذا، وأقفلتم الأبواب الحديدية المزروعة في بناء من الترسانة المسلحة. لقد منعتم أجسادنا من المغادرة والحركة، ومنعتموها من التصرف بحرية. والآن، سوف ننتزع منكم تلك اللذة، ونطفئ شهوتكم بإطفاء أجسادنا، بطريقتنا الخاصة، عبر رحلة طويلة جداً من الامتناع عن الطعام. هو التحرر من القضبان من دون مغادرتها، بإجباركم على نقل الجثة الهامدة بأيديكم إن تطلَّب الأمر".
لا تكمن قصّة الأسرى في زاوية إحراج الاحتلال بخصوص صورته التي لا يمكن تنظيفها، والتي لا يكترث بها كثيراً أصلاً، وإنما في فرض شرط مستحدث للعبة الاعتقال: "نملك في هذا المكان أمراً وحداً: أجسادنا. سنحارب بها". وفي الوقت الذي حارب العمال بقوّة عملهم، حارب الأسرى بما هو أصعب؛ بالجسد والحياة.
على امتداد الزمن، في رحلة إضراب العمال، تنمو مشاعر الوحدة، ويخسر العمال مكافآتهم المالية المحدودة، ويصبح التدبير اليومي المشترك سيد الموقف، ولكن الأسرى عندما يضربون ويسجلون أرقاماً قياسية بمئة يوم وأكثر، تضمحل أجسادهم، وتضعف حواسهم.
إنّ إحساسهم بالتدبير المشترك يضمحل. يخوضون التجربة معاً، ولكنّهم فرادى في مواجهة الموت، ولو ضجّت وسائل الإعلام بالمقالات والتقارير الإخبارية التي لا يقرؤونها ولا يسمعونها في لحظات السهو العميق والمواجهة المنفردة مع الموت المقبل.
لذلك كلّه، تبدو الكتابة عن تجربتهم معقّدة إلى حدّ لا يحتمل، حتى لو بعث جاك لندن من جديد!
لكلّ إضراب تجربته الخاصَّة وحدوده المحتملة وتدابيره الممكنة، فالإضراب عن العمل، والإضراب عن المشاركة في انتخابات لنزع الشرعية عن سلطةٍ ما، يبقيان في حدود ذلك، إلا أنّ ما فعله الفلسطينيون كان أعمق من "تجربة خاصة". إنه تجربة الموت الواعية التي تسير ببطء من أجل الكرامة والحرية.
إذا كانت حصّة الأول من أيار يوماً عالمياً في كلِّ سنة، فللأسرى الفلسطينيين سنة عالمية مكررة، تحمل فيها أياماً لأبو هواش والفسفوس وماهر الأخرس وخضر عدنان وأحمد سعدات وغيرهم الكثيرين.