هل ينجح بن غفير في منع رفع العَلَم الفلسطيني؟
العَلَم الفلسطيني هو تعبير عن وجود شعب، له هوية وعَلَم ووطن وله حقوق طبيعية في الحرية والاستقلال والسيادة على وطنه، حتى وإن لم تتحقق هذه السيادة بعد. هذا يفهمه الصهاينة جيداً.
مراجعة تاريخية مختصرة
ليست هذه المرة الأولى التي تتصاعد فيها مخاطر الفاشية في "إسرائيل"، لقد سبق أن تشكّلت حركة فاشية سميت بحركة "كاخ" بزعامة مئير كهانا، الذي دعا إلى طرد الفلسطينيين بالقوة من وطنهم، وحركة أخرى بزعامة رحبعام زئيفي الذي دعا إلى التضييق على الفلسطينيين ودفعهم إلى الهجرة وسن قوانين لمنعهم من العودة. كان ذلك بعد عام 1977 ووصول "الليكود" برئاسة مناحيم بيغن إلى الحكم، بديلاً لحزب العمل، الأمر الذي اعتبره الإسرائيليون، وغيرهم، انقلاباً سياسياً، وتبعته تغييرات، وإن لم تكن جوهرية، في نظام الحكم.
لقد تميّزت تلك الفترة بازدياد مظاهر عسكرة المجتمع في السلوك اليومي، الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وكانت إحدى نتائج ذلك شن "إسرائيل" حرباً على المقاومة الفلسطينية في لبنان بهدف القضاء التام عليها. اعتقد الليكود وحلفاؤه، آنذاك، أن الفرصة مؤاتية والقوة العسكرية الإسرائيلية جاهزة لحسم الصراع مع الشعب الفلسطيني وإجباره على الرضوخ للاستراتيجية الصهيونية في فلسطين. وسبق ذلك اتفاق "كامب ديفيد"، الذي أخرج مصر من ميدان الصراع مع "إسرائيل"، أما في لبنان فالحرب الأهلية كانت قائمة والقوى المعادية للفلسطينيين تستدعي التدخّل الإسرائيلي، مما عزّز الاعتقاد لدى الإسرائيليين أنهم قادرون على حسم الصراع.
في النتيجة، وصل زئيفي وكهانا إلى الكنيست، لكن المحكمة العليا منعت كهانا من الترشّح للانتخابات البرلمانية اللاحقة، فعاد إلى الولايات المتحدة ثم قُتِل لاحقاً هناك على يد سيد نصير، وهو مواطن أميركي من أصول مصرية. مع الملاحظة أن هناك بين أتباعه من يتهم شخصيات إسرائيلية يمينية ليبرالية بالوقوف وراء عملية الاغتيال، لأنه كان يشكّل وجه "إسرائيل" البشع.
ومع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى ومقتل كهانا عام 1990 واعتبار حركته، وفق القانون الإسرائيلي، منظمة إرهابية، تراجعت نشاطات الحركة في العلن، لكن تلاميذه، ومنهم بن غفير وسموتريتش وآخرون، بقوا ناشطين، في المستوطنات بشكل خاص، برعاية حاخامات متعصبة ضمن مدارسهم الدينية ونشاطاتهم الاستيطانية والإرهابية ضد الشعب الفلسطيني.
أما زئيفي فقد قُتِل أيضاً على يد ناشطين من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في فندق "حياة" في القدس المحتلة. أما قائمته الانتخابية فقد تراجعت حتى تلاشت من الكنيست، لكنّ مؤيّديها انضموا إلى أحزاب يمينية ولم يتراجعوا عن فكرة الترانسفير، وهي فكرة في جوهر الأيديولوجية الصهيونية، فكراً وممارسة، منذ 100 عام ونيّف.
من هنا يمكن الاستنتاج أنّ الحركة الفاشية الصهيونية، كغيرها، مرتبطة بالزعيم إلى حد كبير، وهي تحتاج إلى زعيم قوي لتطبيق الأيديولوجيا من خلال مشاريع متعددة الأشكال وجوهرها واحد. لا تموت الفكرة بغياب الزعيم، لكنها تنمو وتبحث عن زعيم قوي لقيادة القطيع الفاشي، سيما وأنّ الأرض خصبة لذلك.
ما هي جدية بن غفير في تنفيذ برامجه؟
يشكّك البعض في جدية وقدرة بن غفير على تطبيق برنامجه الذي يتضمن عدة مشاريع عينية، من خلال وزارة أعطته صلاحيات إضافية عن سابقيه وسُميت "وزارة الأمن القومي"، التي يسيطر من خلالها الوزير على الشرطة وحرس الحدود ويأخذ بعض صلاحيات الجيش في المناطق المحتلة عام 67.
لكنّ المتابع بعمق للظروف السياسية التي تحكم هذا الائتلاف الحكومي، بما فيها من تناقضات في التكتيك، وما فيها من انسجام في الأيديولوجيا الصهيونية المتطرفة، وما فيها من تقاسم للمصالح وتقاسم للمهام، يدرك جيداً أن بن غفير جدي جداً في تنفيذ خططه، ويمنحه الائتلاف فرصة ذهبية لتحقيقها. أما اعتراضات نتنياهو، أحياناً، على ما يقوم أو ينوي بن غفير أن يقوم به، فهي ليست أكثر من محاولات لضبط الإيقاع، في اختيار التوقيت والأسلوب، حتى يتحقق التنفيذ بخبث صهيوني معهود. وأولى هذه الخطوات كانت اقتحام بن غفير للأقصى.
يرمي نتنياهو بالمسؤولية على بن غفير لكنه في الحقيقة يكون قد استخدم الأخير للقيام بالأعمال القذرة. أما بن غفير وسموتريتش وغيرهم من الزعامات الفاشية، فهم يرون أن نتنياهو بحاجة ماسة إليهم، إلى هذا الائتلاف الذي يمكن أن ينقذه من ملفات الفساد التي تواجهه في المحاكم، فيستغلون الفرصة لتنفيذ خططهم إلى أبعد الحدود، وعليه يمكن أن نقول: إنه استخدام متبادَل، لمصالح متبادلة، واختلاف في الأسلوب مع جوهر مشترك. لن يكون للقوى الفاشية الصهيونية أي زعيم أفضل من نتنياهو، وهو في ظروفه الشخصية الحساسة. هذا يدركه بن غفير وسموتريتش والحاخامات والقيادات الفكرية والعسكرية الذين يقفون خلفهم.
مشروع منع رفع العَلَم الفلسطيني، كنموذج
من المعلوم أن العَلَم، كل عَلَم، هو رمز وتعبير عن هوية. أما العَلَم القومي، فهو تعبير عن هوية قومية وعن سيادة على الأرض التي يرتفع فوقها، أو على الأقل تعبير عن هوية وانتماء لشعب له حقوق قومية.
العَلَم الفلسطيني هو تعبير عن وجود شعب، له هوية وعَلَم ووطن وله حقوق طبيعية في الحرية والاستقلال والسيادة على وطنه، حتى وإن لم تتحقق هذه السيادة بعد. هذا يفهمه الصهاينة جيداً، وبما أن استراتيجية الحركة الصهيونية هي استراتيجية استعمارية وإحلالية، ترفض الاعتراف بوجود شعب فلسطيني، وتطمح ليس فقط إلى تهجيره من وطنه ليحل المستوطنون مكانه، بل إلى إلغائه من الوعي الذاتي الفلسطيني واليهودي على حد سواء.
إذن، هذا يتطلّب إلغاء حقوقه وكل الرموز التي تشير إلى حقوقه ووجوده على أرض فلسطين، هذا ينطبق ليس فقط على العلم بل على اسم هذا الوطن، وعلى الآثار والتراث وأسماء الجبال والينابيع حتى المأكولات والملابس.
هم يدركون جيداً أن لا مكان لهم طالما بقي هنا شعب يقول: أنا هو الشعب الفلسطيني وهذا وطني الذي لا وطن لي سواه. من هنا كانت السياسة الإسرائيلية، حتى اتفاقية أوسلو، تمنع رفع العلم الفلسطيني، وتعتبره تحدياً وجودياً للدولة، وتحاول أن تفرض العَلَم الإسرائيلي في كل المؤسسات الرسمية في القرى والمدن العربية، مثل المجالس المحلية والمدارس والمكاتب الحكومية المختلفة. وكانت تراقب ذلك، وتعاقب من لا يرفع العلم الإسرائيلي في المؤسسات الرسمية.
رفع العلم الفلسطيني في "القانون" الإسرائيلي
في الوقت الحاضر لا يوجد في "إسرائيل" قانون يمنع رفع العَلَم الفلسطيني، إنما يوجد "أمر" قائد الشرطة. صحيح أن أمر الشرطة، بند 82، يسمح للشرطة بمنع رفع العَلَم الفلسطيني، "إذا ما شكّل ذلك إثارة وتسبّب بإخلال في السّلم". لكن النص كان فضفاضاً وأُسيء استخدامه من قبل الشرطة، فقام المستشار القضائي للحكومة عام 2014 وأوضح أن هذا الإجراء "ممكن فقط في حالة يكون فيها رفع العلم مسبّباً بمستوى عال لاحتمالية زعزعة السلم الأهلي".
وهذه الحالة، كما كتب المستشار القضائي، "يجب أن تكون مبنية على دلائل موضوعية وليس على تقديرات ذاتية". وأضاف أن رفع العلم يدخل في إطار حرية التعبير عن الرأي. لهذه الأسباب ردت الشرطة على بن غفير، في الأسبوع الماضي، لتقول: إن توجيهاته لا يمكن تطبيقها في الوقت الحاضر، وإذا ما أصرّ على ذلك، عليه أن يتوجه إلى الكنيست لسن قانون يمنع رفع العلم الفلسطيني.
أما القوى الديمقراطية اليهودية المناهضة للاحتلال، على قلتها، فترى أن رفع العلم الفلسطيني هو تعبير عن رفض الاحتلال الإسرائيلي لمناطق الـ 67. هل يمكن أن تقدم الحكومة الحالية على سن قانون يمنع رفع العلم في أماكن محددة؟ الجواب نعم يمكن، لأنهم يملكون غالبية في البرلمان، لكن ذلك يتعارض مع أسس حرية التعبير، كما تقول منظمات حقوق الإنسان ومنها جمعية حقوق المواطن في "إسرائيل".
في الممارسة
حتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وبالتحديد العدوان على لبنان عام 1982، كانت بعض القوى الوطنية في الداخل، مثل حركة أبناء البلد، ترفع العَلَم الفلسطيني في المناسبات الوطنية مثل مظاهرات يوم الأرض عُنوة وباستخدام اللثام. ووقعت أحياناً مشادات وخلافات مع منظمي المظاهرات، باعتبار أن رفع العَلَم كان يشكل حجة للشرطة لاقتحام المظاهرة. وكان البعض الآخر مثل الحزب الشيوعي والجبهة يترددون في رفع العلم الفلسطيني أو يرفعونه ملاصقاً للعلم الإسرائيلي لتجنّب الصدام مع الشرطة.
لكن بعد العام 1982 انكسر الحاجز وأصبح رفع العلم الفلسطيني أمراً شبه عادي، فجاءت الانتفاضة الأولى لتعطي زخماً وشرعية جماهيرية أكبر لرفع العلم. أما بعد أوسلو وقبول "إسرائيل" برفع العلم الفلسطيني في اللقاءات والمفاوضات الثنائية، فلم يعد رفع العلم الفلسطيني مخالفاً لتوجيهات وزير الأمن الداخلي، المسؤول عن الشرطة، بل أقرّت المحكمة العليا حق الفلسطينيين داخل حدود الـ 48 برفع علم الشعب الفلسطيني، وكانوا قبل ذلك يسمونه علم م.تـ.فـ، ولم يقولوا لغاية الآن علم الدولة الفلسطينية.
من هنا كان رفع العلم الفلسطيني في مناطق الـ 48 نتيجة لنضالات مستمرة وتحولات سياسية كسرت حاجز الخوف وخلقت واقعاً جديداً يسمح برفع العلم الفلسطيني حتى داخل مناطق الـ 48. لكن، في الممارسة أيضاً، لم يرفع العلم الفلسطيني في المؤسسات الحكومية مثل البلديات والمجالس المحلية. وإن رُفِع في الجامعات على يد الطلاب العرب الوطنيين.
لماذا اختار بن غفير منع رفع العلم داخل الـ 48 بالذات؟
اختار بن غفير أن يمنع فلسطينيي الداخل الـ 48 من رفع العلم الفلسطيني بهدف الفصل بينهم وبين باقي الشعب الفلسطيني، سيما وقد تبين له، ولغيره، في أيار/مايو 2021 أن الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده هو شعب واحد. وفي الوقت ذاته يعلم بن غفير ورئيس حكومته أن رفع العلم في الضفة وغزة لا يمكن منعه وقد يصطدم مع جهات دولية ومنها الأمم المتحدة التي رفعت العلم الفلسطيني في مؤسساتها منذ العام 2015. وقد يخلق هذا رداً دولياً ليس في صالح "إسرائيل".
اختار بن غفير فلسطينيي الداخل بهدف تركيعهم، وتركيع أعضاء الكنيست العرب بالذات، لأنه يستطيع أن يستفرد بهم من دون دعم دولي أو حتى عربي لهم، باعتبار أنه "شأن داخلي". في الوقت ذاته يشكّل رفع العلم وسيلة للتحريض العنصري عليهم وهو ما يزيد من شعبية اليمين الفاشي. لا يوجد من يحميهم، وهو يستطيع معاقبتهم بالتنكيل والتحريض عليهم مع علمه أن أوساطاً حتى في المعارضة تؤيده في ذلك أيضاً.
إنّ توجيه السهام نحو المواطنين العرب يضع قوى اليمين والعنصرية الموجودة في المعارضة في حالة حرج واصطفاف، وليس غريباً أن هناك من اعترض، بالقوة، على رفع العلم الفلسطيني في مظاهرة المعارضة في تل أبيب الأسبوع الماضي. وأن غالبية معسكر لبيد يرفض الربط بين استمرار الاحتلال والقمع وبين صعود الفاشية. لأنهم يريدون أن يدافعوا عن الديمقراطية والليبرالية داخل "المجتمع" اليهودي أولاً وقبل كل شيء، وعدم التنازل عن سياسة الاحتلال.
إضافة إلى ذلك، يحاول بن غفير أن يفي بما وعد به جمهور ناخبيه الفاشي، وهو يحاول، بهذا الإجراء، أن يؤدي إلى صدام دموي بين الفلسطينيين والشرطة الإسرائيلية.
نعم، من المتوقع أن يذهب بن غفير إلى الحكومة، ومنها إلى الكنيست، لسن قانون يمنع بموجبه رفع العلم الفلسطيني، ويستطيع أن يحصل على أغلبية. لكنها بالتأكيد ستؤدي إلى مواجهات ميدانية في الجامعات وفي المدن المختلطة وفي المناسبات الوطنية.
توقعات مستقبلية
النتيجة أن شعبنا في الداخل لن يتراجع عن رفع العلم الفلسطيني مهما كانت التضحيات. انتهى زمن الخوف والتردّد، نحن اليوم، أكثر من مليوني فلسطيني داخل الأراضي المحتلة، ولدينا من الحضور القانوني والعلاقات الدولية، والانتشار في كل مكان من أماكن العمل، ولدينا من عمق الانتماء لشعبنا ما يسمح لنا أن نحافظ على مكتسبات تحقّقت بالنضال وليس بالتذلّل..