غرب آسيا بين الاستقلال والعصر "الإسرائيلي" أين تركيا؟
الحرب التي يخوضها حزب الله الآن في جنوب لبنان وفي فلسطين المحتلة، تكشف بشكل واضح حجم الرهانات الاستقطابية لكلّ القوى الإقليمية والسياسية في منطقة غرب آسيا.
تشهد منطقة غرب آسيا مستوى من الصراع لم تشهده في تاريخها المديد، بما يتجاوز كلّ الصراعات التي حصلت فيها، بما لا يقارن حتى مع ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية وما أفرزتهما من تحطيم للمنطقة وتمزيقها إلى كيانيات سياسية يسير أغلبها ضمن مسار الهيمنة الغربية، وخاصةً بعد انهيار الاتحاد السوڤياتي، الذي كان مِظلة دولية لبعض الدول التي حاولت استثمار وجودها في البحث عن خيارات الاستقلال، الأمر الذي يطرح سؤالاً عن مسارات الصراع وخيارات دول الإقليم؟ وخاصةً تركيا؟
ما إن غادر آموس هوكستين بيروت حتى تعرّضت مراكز متعددة في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت إلى أعنف الغارات، بشكل لم تشهد له مثيلاً من قبل، مقابل استخدام حزب الله لصواريخ نصر 2 النوعية للمرة الأولى في حيفا و"تل أبيب"، بما يرسم صورة مكثّفة عن الحِدّة التي وصل إليها الصراع الدولي والإقليمي، في تأكيد حِدّة الاستقطابات الشديدة على مستوى العالم، وفي الجانب الآخر من هذا المشهد تنعقد بشكل هادئ من حيث الظاهر قمة جديدة لدول بريكس في مدينة قازان في روسيا، لكنها من حيث الأهمية تمثّل الوجه الآخر للصراع الدولي ببعده الاقتصادي والأمني المكمّل لما يجري في الميدان العسكري في فلسطين ومحيطها.
لا شكّ بأن الحرب التي يخوضها حزب الله الآن في جنوب لبنان وفي فلسطين المحتلة، رغم استشهاد أمينه العام السيد حسن نصر الله وقيادات الصف الأول والثاني، تكشف بشكل واضح حجم الرهانات الاستقطابية لكلّ القوى الإقليمية والسياسية في منطقة غرب آسيا، ولم تعد السياسات الإقليمية تختفي خلف الدبلوماسية الناعمة في البحث عن مسارات دبلوماسية ناعمة للخروج من حالة الاستقطاب، بل تحوّلت إلى الدبلوماسية الفجَّة في التعبير عن خياراتها، كما حصل في زيارة وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، الذي حمل رسالة تهديد "إسرائيلية" إلى دمشق، تأمر بإغلاق كل آليات الدعم العسكري لحزب الله، فكان جواب دمشق واضحاً من خلال البيان الحكومي الأول في تاريخ الحكومات السورية المتعاقبة منذ عقود، بالتركيز على مسألة المقاومة للتهديدات الإسرائيلية، والثاني كان بالردّ المباشر الذي سمعه في دمشق، بالصمت عن الإجابة المباشرة بما يؤكد ما تدركه دمشق يقيناً بأن انهيار حزب الله يساوي انهيار دمشق.
والأمر لا يختلف على مستوى الدولة الإيرانية، التي حسمت خياراتها بعد انتهاء سياسة الصبر الاستراتيجي، والقيام بالرد المتأخّر على الاعتداء الإسرائيلي على سيادتها وهيبتها، بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، وهي الآن على استعداد كامل للرد على أي اعتداء جديد بشكل مباشر وأوسع وأكثر تأثيراً من كل ما سبق من ردود، حتى لو تدحرجت الأمور إلى الحرب الكبرى، التي أكدتها قناة ABC الأميركية، مع استعدادها لضرب مفاعل ديمونا النووي واستخدام أكثر من سلاح نوعي كاسر للتوازن وفقاً لتصريح غير رسمي صدر عن نائب قائد حرس الثورة السابق إبراهيم رستمي، وهذا الاستعداد لا ينفصل عن وقوف كلّ من روسيا والصين معها لمواجهة التهديدات الأميركية الإسرائيلية.
أين خيارات تركيا؟
كان من الملفت للنظر حجم القلق التركي الذي تبدّى بالتصريحات المتتالية التي خرجت من أفواه مختلف السياسيين الأتراك، وعلى رأسهم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي كان صريحاً بتحديد المخاطر المترتّبة على مستقبل تركيا، من جرّاء الحرب الوجودية الأطول التي تخوضها "إسرائيل" على جبهات فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران، بما يطرح السؤال الأهم حول مستقبل وخيارات هذه المنطقة في أيّ اتجاه تذهب إليه؟
تعاطت أنقرة مع تصاعد حدّة الصراع والكشف عن خرائط جديدة لمنطقة غرب آسيا، بسياستين مختلفتين؛ ركّزت الأولى على تفادي مخاطر التقسيم المقبلة إلى قلب الأناضول، نتيجةً لاستمرار الانقسام السياسي والإثني والطائفي في تركيا، فكانت المبادرة الأولى بمنح علويّي تركيا البكتاشيين الاعتراف بمراكز تعبّدهم "الجُمع" ضمن وزارة الأوقاف التركية، وتلقّي هذه المراكز الدعم المالي الحكومي أُسوةً بالمساجد، وهي خطوة تعني الاعتراف الرسمي والديني بهم كجماعة لها كامل الحقوق الدينية على المستوى الوطني، ثم كانت المبادرة الثانية باتجاه الخصم الإثني حزب المساواة للعدالة والديمقراطية الذي يمثّل الوجه السياسي لحزب العمال الكردستاني، في محاولة لإنهاء الصراع الدموي والسياسي منذ عام 1984، وهي خطوة قد ينظر لها البعض باعتبارها ضمن سياق محاولات تغيير التوازنات السياسية لأجل تغيير الدستور التركي بما يتيح للرئيس التركي الخروج من دائرة إغلاق الدورتين الرئاسيتين عليه.
وقد يكون هذا الجانب صحيحاً كثمرة من ثمار هذه المحاولة، ولكن هذا لا ينفي جدية التوجّه الجديد، مع الإدراك بأن النظام الغربي لن يسمح بتشكّل قوى إقليمية كبيرة مستقلة عن النظام الاقتصادي العالمي الذي تمّ وضعه بعد الحرب العالمية الثانية لصالح الولايات المتحدة الأميركية، وأن "إسرائيل" هي الممثّل الوحيد للهيمنة الغربية.
وضمن هذا التوجّه الجديد للسياسة الأولى يأتي التعاون التركي مع روسيا وإيران، والذهاب معهما نحو العمل على المصالحة مع سوريا، ضمن إطار فهم أوسع للأمن القومي التركي، انطلاقاً من التهديدات المحتملة لإعادة رسم خرائط الجغرافيا السياسية لمنطقة غرب آسيا بأكملها، وهي خرائط لن تُبقي تركيا على حالها، وأصبحت وحدة الأراضي السورية خط دفاع أوّل عن وحدة الأراضي التركية، الأمر الذي يتطلّب تراجعات عن الطموحات والسياسات التركية في الشمال والداخل السوري، ويحتاج إلى تكامل المصالحة الداخلية مع كرد تركيا مع المصالحة مع سوريا، والمساهمة في توفير أرضية حلّ سياسي سوري يحافظ على الجغرافيا السياسية لسوريا المستقلة عن الهيمنة الغربية.
السياسة الثانية التي اتّبعتها تركيا والتي ما زالت مسيطرة عليها هي نتاج مزيج من الحذر والقلق واستمرار الطموحات، فالخشية من قدرة الغرب على كسب الصراع وهو الذي يستثمر في تركيا ما يعادل 2 ترليون دولار والقادر على هزّ الاقتصاد التركي بشكل مدمّر، يدفع بأنقرة إلى الاستمرار بالتجارة مع "إسرائيل" وتلبية احتياجاتها بطرق ملتوية، وخاصةً عن طريق السلطة الفلسطينية، بعد فضح المعارضة التركية السابق لتناقض السياسات تجاه ما يحصل من حرب إبادة في غزة، وهو الأمر نفسه الذي يدفع بالقيادة التركية للقفز من جديد إلى أطروحات الميثاق الوطني التركي 1918، الذي يتيح لها السيطرة على الشمال السوري والعراقي اعتباراً من حلب إلى الموصل وكركوك، وهو أمر يمكن أن يتمّ الذهاب إليه إذا ما استطاعت "إسرائيل" أن تكسب الحرب في لبنان بما يدفعها للانقضاض على سوريا والوصول إلى دمشق (تصريحات الرئيس إردوغان الأخيرة).
أصبح حزب الله هو من يحدّد مسارات المنطقة من الناحية الفعلية، فالحرب التي يخوضها الآن لا تتعلّق بمصيره ككتلة مقاومة ووجوده الاجتماعي والسياسي، وإنما بمستقبل منطقة غرب آسيا بأكملها، وهو الآن يخوض المواجهة المباشرة دفاعاً عن لبنان وأيّ لبنان؟ وعن سوريا والعراق وإيران واليمن، وقبل كلّ ذلك دفاعاً عن استقلال شعوب منطقة غرب آسيا من بوابة فلسطين، وهو أمر لا ينفصل عن خيارات تركيا الراهنة والمستقبلية كركن أساسي من هذه المنطقة، وانتصار حزب الله في هذه الحرب سيعني ولادة مشرق جديد بعربه وتُركه وكُرده وفُرسه، بديلاً عن الشرق الأوسط الذي أفشله في المرة الأولى عام 2006 وسيسقطه من جديد في هذه الحرب.