عن المأزق الإسرائيلي وأفق الانتفاضة الثالثة
"إسرائيل" التي استطاعت إلحاق هزيمة ساحقة بعدة جيوش عربية نظامية مجتمعة عام 1967، تبدو اليوم عاجزة عن تصفية المقاومة المسلحة التي تتحداها في لبنان وفلسطين.
نجحت "إسرائيل" في تحقيق منجزات يصعب إنكارها، ما مكنها من تبوؤ مواقع متقدمة على سلم القوة الشاملة. إذا أخذنا مؤشرات مثل: متوسط الدخل القومي أو حجم الصادرات ونوعيتها، أو مستوى التقدم العلمي والتكنولوجي أو مستوى التعليم العام والجامعي والبحث العلمي، على سبيل المثال لا الحصر، فسوف نجد أن "إسرائيل" تحتل موقعاً متقدماً في قائمة التصنيفات العالمية، وخصوصاً إذا ما قورنت بالدول التي تعادلها في تعداد السكان.
وتمكنت، في الوقت نفسه، من تحقيق إنجازات أكبر وأعمق تأثيراً في مجالات أصبحت تشكل المحرك الرئيسي للتقدم في عالمنا المعاصر، مثل الذكاء الاصطناعي وعلوم الحاسب الآلي وعلوم الفضاء وغيرها.
ولأن "إسرائيل" ليست دولة طبيعية، وإنما تجسد مشروعاً استعمارياً استيطانياً، غير قابل للحياة في تربة زُرع فيها عنوة، إلا بالاعتماد على القوة العسكرية وحدها، فقد انصبّ جهدها الرئيسي على تطوير الصناعات المتصلة بالنواحي الأمنية مباشرة.
لذا، يعدّ المؤشر الخاص بصادراتها الأمنية، وهو مؤشر مركب، كاشفاً إلى حد كبير عن مجمل ما حققته "إسرائيل" من إنجازات في مختلف المجالات العلمية والتكنولوجية، إذ تشير التقارير الرسمية إلى أن قطاع الصناعات الأمنية كان الأكثر نمواً في "إسرائيل"، خلال السنوات الأخيرة، وأن صادراته بلغت عام 2012 3.11 مليار دولار، مقابل 3.8 مليارات فقط في عام 2020، أي بنسبة نمو بلغت أكثر من 30%.
وتشير المصادر نفسها إلى أن 41% من هذه الصادرات كان من نصيب أوروبا، و34% منها لدول آسيا والمحيط الهادئ، أما الباقي فكان من نصيب دول أخرى كثيرة تعدّ بالعشرات، من بينها دول عربية وقعت مؤخراً على اتفاقيات التطبيع.
وإذا أضفنا إلى ما تقدم أن "إسرائيل" هي دولة نووية تحتل المرتبة الثامنة في قائمة الدول التي تمتلك مخزوناً من الأسلحة النووية، بعد روسيا والولايات المتحدة وفرنسا والصين والمملكة المتحدة وباكستان والهند، وتأتي في الترتيب قبل كوريا الشمالية، لتبين لنا أننا إزاء كيان قد يكون صغير الحجم ومحدود السكان، لكنه يعدّ قوة يعتد بها، بصرف النظر عما إذا كان قد حصل على كل عناصر هذه القوة بالاعتماد على الذات أم على مساعدات الآخرين.
على صعيد آخر، يجب ألا تنسينا مظاهر القوة التي يمتلكها هذا الكيان الصهيوني الذي احتل فلسطين وشرّد نصف شعبها ويمارس جرائمه كل يوم ضد النصف الآخر، عن إدراك أوجه ضعف كثيرة يعاني منها وتجعل منه، رغم كل مظاهر قوته الطافية على السطح، كياناً عاجزاً عن كسر إرادة صاحب الأرض، أو قادراً على تحقيق هدفه النهائي المتمثل في إقامة دولة "إسرائيل" الكبرى من النيل إلى الفرات.
"إسرائيل" التي استطاعت إلحاق هزيمة ساحقة بعدة جيوش عربية نظامية مجتمعة عام 1967، تبدو اليوم عاجزة عن تصفية المقاومة المسلحة التي تتحداها في لبنان وفلسطين.
عندما تمكنت المقاومة اللبنانية من إجبار "إسرائيل" على الانسحاب من دون قيد أو شرط من الجنوب اللبناني عام 2000، شكّل انتصارها نقطة تحوّل في مسار الصراع العربي-الإسرائيلي كله؛ لأنه أكّد ليس فقط إصرار الشعوب العربية على رفض الاستسلام لتسوية بالشروط الإسرائيلية، كانت معالمها قد بدأت تتضح منذ توقيع السادات على معاهدة "سلام" عام 1979، وإنما أيضاً على قدرة المقاومة المسلحة على تقديم بديل يمكنه الصمود في وجه الأطماع الإسرائيلية، بدليل عجز "إسرائيل" عن تحقيق أي انتصار في المواجهات العسكرية التي خاضتها بعد ذلك، سواء على الساحة اللبنانية (2006) أو على الساحة الفلسطينية (2008، 2012، 2014، 2021، 2022).
ولأن إمكانات المقاومة راحت تتنامى بانتظام طوال تلك الفترة، فقد كان بمقدورها أن تنتقل مؤخراً من ممارسة استراتيجية "توازن الردع السلبي"، التي استهدفت منع "إسرائيل" من احتلال أراض جديدة، إلى استراتيجية "توازن الردع الإيجابي"، التي تستهدف الإمساك بزمام المبادرة ومنع "إسرائيل" من فرض إرادتها عند اندلاع الأزمات، بدليل إقدام حزب الله مؤخراً على التهديد بشن الحرب على الكيان إن هو أقدم على استخراج الغاز من حقل "كاريش".
لا تقتصر أوجه الضعف الإسرائيلية، في تقديري، على عجز "إسرائيل" عن تصفية مقاومة شعبية مسلحة استطاعت أن تفرض عليها معادلات جديدة لم تعتد عليها، وإنما تشمل مجمل العوامل المرتبطة بانكشاف القناع عن هذا الكيان المصطنع والمتعجرف وسقوطه.
فبمرور الوقت، ظهر تنامي انحياز المجتمع الإسرائيلي في مجمله إلى اليمين المتطرف، وترسخت أكثر صورة المشروع الصهيوني، ليس فقط باعتباره مشروعاً استيطانياً توسعياً رافضاً لـ"السلام"، وإنما أيضاً، وعلى وجه الخصوص، باعتباره مشروعاً عنصرياً غير قابل للبقاء إلا بالارتكاز على نظام فصل عنصري لا يقل بشاعة عن نظام الأبارتهايد الجنوب أفريقي سابقاً، وهو ما أكدته التقارير الصادرة مؤخراً، سواء عن أجهزة الأمم المتحدة أو المنظمات الدولية المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان في العالم.
كان من الطبيعي أن تبدأ قطاعات واسعة من الرأي العام الدولي في إدراك، ليس فقط الطبيعة العنصرية لهذا المشروع، وإنما أيضاً الطبيعة النضالية للمقاومة الفلسطينية. يتعين الانتباه إلى مسألة أساسية وهي أن انكشاف أوجه الضعف التي يعاني منها المشروع الصهيوني لن يؤدي تلقائياً إلى هزيمته وانهياره، لأن الطرف الآخر المقاوم يعاني، بدوره، من أوجه ضعف كثيرة عليه أن يسعى لمعالجتها والتغلب عليها، وهو ما لم يتحقق بعد.
لذا، لنفترض جدلاً أن مواجهة عسكرية شاملة يمكن أن تقع في المستقبل المنظور بين "الجيش" الإسرائيلي من ناحية، وقوى المقاومة المسلحة مجتمعة، من ناحية أخرى، سواء في سياق مواجهة إقليمية شاملة تشارك فيها إيران، أو في سياق حرب محدودة تقتصر على الجبهتين اللبنانية والفلسطينية، وتمكنت قوى المقاومة من إلحاق دمار يكفي لإجبار "إسرائيل" على وقف إطلاق النار، وتجرع مرارة هزيمة عسكرية، فلن يكون ذلك وحده كافياً لسقوط المشروع الصهيوني وانهياره. إذ يجب، بالإضافة إلى ذلك، أن يكون للحركة الوطنية الفلسطينية، بمكوناتها وفصائلها ونخبها السياسية المختلفة، قيادة موحدة تمتلك، منذ الآن، رؤية واضحة، ليس فقط للتحرير، وإنما لمرحلة ما بعد سقوط المشروع الصهيوني وانهياره.
ظهرت خلال الأسابيع القليلة الماضية تحليلات ترصد تصاعد المقاومة الفلسطينية المسلحة في الآونة الأخيرة، وتحاول تحليل دلالاته وأسبابه. وقد رصدت مصادر إسرائيلية هذا التصاعد بتأكيدها أن الأراضي الفلسطينية المحتلة شهدت وقوع ما يقارب 1000 محاولة لإلقاء قنابل مولوتوف، وأكثر من 200 عملية مقاومة مسلحة، منذ بداية هذا العام فقط، سقط خلالها 20 قتيلاً إسرائيلياً.
كما أكدت مصادر فلسطينية موثوق بها أن شهر آب/أغسطس الماضي شهد 832 عملية مقاومة، منها 73 عملية جرى فيها تبادل لإطلاق النار، ما أدى إلى إصابة 28 إسرائيلياً بجروح، بعضها خطر، ما يعكس حالة فلسطينية جديدة تتسم بتحول المقاومة المسلحة إلى عمل جماهيري يومي تشارك فيه آلاف العائلات والشباب، من دون تنسيق مسبق بالضرورة، وهو ما أطلق عليه البعض "انتفاضة من نوع جديد" أو "انتفاضة مسلحة".
ويرى بعض المعلقين الفلسطينيين أن هذه "الانتفاضة الثالثة"، التي ما تزال قيد التشكل، ستؤدي حتماً إلى تعميق التناقضات داخل مجتمع إسرائيلي مصاب بالترهل، وتنتشر فيه مظاهر الفساد، ويعجز منذ ثلاث سنوات عن اختيار حكومة قادرة على إكمال فترة ولايتها الدستورية، وبالتالي ستساعد على التعجيل بانهيار المشروع الصهيوني.
إلا أن هذا الاستنتاج يبدو لي متسرعاً ومتفائلاً أكثر مما ينبغي، ويعكس حالة من التمني العاجز أكثر مما يستند إلى تحليل رصين لما يجري على أرض الواقع.
صحيح أن انخراط الجماهير الفلسطينية في مقاومة مسلحة تلقائية وعفوية ضد آلة الحرب الإسرائيلية، بكل ما تملكه الأخيرة من أدوات عنف وممارسات وحشية، يعكس إرادة شعب مصمم على تقديم أعظم التضحيات من أجل الحصول على حريته وحقه في تقرير المصير، لكنه ربما يعكس، في الوقت نفسه، حالة من عدم الثقة في فصائل وأجهزة رسمية كان يفترض أن تقود نضاله وحركته الوطنية.
ما يجري داخل الوطن الفلسطيني المحتل يدل على أننا نشهد في هذه الأيام ظاهرتين متوازيتين:
الأولى: كيان استعماري توسعي عنصري وصل إلى أوج قوته وأعلى مراحل صعوده، ثم بدأت تعتمل في أحشائه تناقضات غير قابلة للحل، سوف تدفع به حتماً نحو طريق التحلل والانهيار عاجلاً أم آجلاً.
الثانية: شعب فلسطيني يدرك أنه يقف الآن وحيداً، وليس أمامه من سبيل آخر للحصول على حقوقه المشروعة سوى نهج طريق المقاومة المسلحة، حتى لو اتخذت شكل العمل الفردي أو العائلي، بدلاً من العمل المنظم والفصائلي. كما يدرك، في الوقت نفسه، أن باب الأمل بات مفتوحاً على مصراعيه لتحقيق تطلعاته؛ بسبب علامات تفسخ بدأت تظهر بوضوح داخل الكيان الغاصب.
إلا أن عقبة أساسية ما تزال تعترض طريقه نحو الحرية، وهي أن نخبه وفصائله وتياراته السياسية ما تزال منقسمة على نفسها، وعاجزة عن فهم الطاقات النضالية الجبارة لهذا الشعب واستيعابها.
إذا لم تستطع النخب والفصائل الرسمية الفلسطينية تجاوز انقساماتها، وبلورة رؤية موحدة للنضال الفلسطيني منبثقة عن استراتيجية طويلة الأمد، ليس فقط للتحرر وإنما أيضاً لما بعد انهيار المشروع العنصري، فسوف تعجز مرة أخرى عن استغلال الإمكانات الهائلة التي تتيحها الانتفاضة الجماهيرية الحالية للتعجيل بهزيمة المشروع الصهيوني.