عن التغيير والتغييريين في لبنان
ظاهرة الطموح إلى التغيير هي إحدى النتائج البارزة التي أفرزتها الانتخابات النيابية في لبنان، لكنها تدلّ على أن أفق معظم دعاة التغيير المرتبطين و"المستقلين" هو تحت الوصفة الأميركية "للانتقال الديمقراطي".
اللافت في الحملات الانتخابية أن أغلب المرشحين باسم "المجتمع المدني" وفورة 17 تشرين الأول/أكتوبر، أسهب في استعراض كفاءته ومواهبه الشخصية أمام الناخبين كأنه أمام لجنة فاحصة لتعيين وظائف الشركة.
لا غرابة في ذلك، فالانتخابات النيابية في لبنان وجاهة ومناصب ونفوذ ومال وأعمال، ولم يرقَ إلى مسامع دعاة "الدولة المدنية" أن عمودها الفقري هو فصل الشأن العام الحكومي عن العمل الخاص، وفصل رجال الدولة عن رجال المال والأعمال، وهو سبب مفصلي لفساد الطبقة السياسية وانهيار الدولة.
بموازاة "نجوم التغيير" في قربَة الإعلام السعودي والخليجي لتسويق الأتباع، وإضافة إلى الأسماء البارزة في سوق المنظمات غير الحكومية لم يتجاوز أصحاب النيات الطيبة الشخصنَة المنفوخة في فورة 17 تشرين، ولم يتخطَّ أيٌّ منهم الوصفَة الأميركية "للتغيير الديمقراطي" في معظم المقولات السطحية الضيّقة التي تخيّلوها "برامج سياسية" للحكم.
حرب من أجل مزرعة منزوعة السلاح
ظواهر اجتماعية وإعلامية وطائفية وشخصنَة نرجسية... تطفو على ثقافة النخَب السياسية الجامحة إلى كعكة السلطة، لكن المعركة السياسية التي طغت على انتخاب مجلس النواب تمحورت حول الحرب لنزع سلاح المقاومة أو الدفاع عن السلاح للردع.
هذا الانقسام العمودي بدأه في العام 2005 أقطاب الوصاية السورية - السعودية - الفرنسية وزعماء الطوائف المستفيدة (جاك شيراك، والملك السعودي، وعبد الحليم خدام، والحاكم العسكري غازي كنعان، والحريري، وجنبلاط...)، وهي الوصاية المشتركَة التي رسّخت المحاصصة المافيوية في دستور الطائف 1998، وأرست مأسَسة انهيار الدولة والنهب والفساد في سياسة الديون والهندسة المالية وإحكام التبعية للسياسات الاقتصادية النيوليبرالية.
لم يشترك حزب الله في طبخة الوصاية الموبوءة التي شرعنت الانهيار والنهب والفساد، فقد تفرّغ للمقاومة البطولية وتحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي الذي أرغمته هذه المقاومة على الانسحاب في العام 2000، لكن هدفها منذ لحظتها كان إلغاء المقاومة ونزع سلاح الدفاع الوطني والردع.
هو السياق نفسه الذي أفضى إلى القضاء على معظم حركات التحرر ومقاومات عالم الجنوب بغير مواجهة مسلّحة مباشرة، فالتبعية الاقتصادية في سياسات الديون ورساميل الاستثمار الريعي... هي استراتيجية نهب تقوم على الفساد والإفساد وتأجيج الانقسامات العصبية العمودية واهتراء الدولة والمجتمع.
ولم تستطع معظم حركات التحرّر حل المعضلة الكأداء، في ظل سيطرة الاستراتيجية الأميركية ونموذجها النيوليبرالي على "المجتمع الدولي" ومؤسساته، وفي ظل سيطرة الثقافة الاقتصادية والسياسية الأميركية على العالم، ولا تزال الدول والحركات الرافضة للتبعية، كإيران وكوبا وفنزويلا ونيكاراغوا... تقاوم بشق الأنفاس، حفاظاً على منارة هدى في عالم الوحوش الضارية لتدمير البشرية.
ليس مستغرباً أن يبدأ صاحب المرتبَة الأولى بقيادة سياسات النهب والفساد فؤاد السنيورة منذ 2005 الدعوة إلى إزالة سلاح المقاومة، فالمزرعة المافوية العفنَة التي كرّستها حكومات تيّاره في الحكم الطويل، لا يزال ينقصها نزع السلاح لتتويجها "دولة مستقلّة ذات سيادة" تسير على هدى "الشرعية الدولية" (قرار 1559) "لنبذ العنف" وتحقيق الاستقرار والازدهار الذي حققه بنفسه لعصابات الإجرام والطبقة السياسية.
والأدهى أن السنيورة "المثقف" البارع في المدرسة الأميركية - السعودية يسترشد بماكس فيبر عن "احتكار الدولة للسلاح"، كما كان يسترشد المرحوم جبران التويني بمعاهدة وستفاليا (1648 على أنقاض الأمبراطورية الرومانية المقدّسة) "لاحتكار الدولة قرار الحرب والسلم"، فيؤوّلان على هواهما مفاهيم إنشاء الدولة في بداية تاريخها، ويتغاضيان عن تاريخ سلاح مزرعتهما القريب خلال عشرات الغزو والاحتلال الإسرائيلي للبنان، ولم يحرّر الأرض ويردع العدوان سوى سلاح المقاومة.
التغيير قدَر لا خيار
الخراب المتفجّر الذي شيّدته سياسات التبعية والتحلّل منذ الطائف هو الحافز الأساس لطموح التغيير السياسي والاقتصادي الذي يقضّ مضاجع اللبنانيين؛ ضحايا نظام التبعية وعصابات المافيا الإجرامية.
العزوف عن بحث رؤية لمشروع وطني من أجل تفكيك التبعية ووقف استفحال الاهتراء والانهيار عبر إعادة البناء، ساهم في إطلاق العنان للسفارات الأميركية والسعودية والفرنسية و"المؤسسات الدولية"، لتسرح وتمرح وحدها في مناخ شعبي عام يتطلّع إلى تغيير الخراب.
رياح التغيير الساخنة التي هبّت في الانتخابات مشبعَة بالغبار ورمال الصحراء، لكنها ليست كلّها سامة، فمنها مسموم بحقَن كيميائية أميركية وسعودية، ومنها متأثر بثقافة دولية طاغية تتوهّم تغيير طربوش المنظومة السياسية في المجلس النيابي والحكومة تغييراً لنظام النهب والانهيار في أحضان التبعية.
هذه الرياح ليست الأخطر على المقاومة ومصير لبنان المهدّد بالجوع والفوضى الأمنية، بل لعلّ فيها بعض الظواهر الطبيعية الصحية في العديد من الملفات الإصلاحية الضرورية لوقف الخراب إذا أبصر مشروع إعادة البناء النور على درب الجلجلة.
لعل هذا الأمر هو سبب إحباط ديفيد شينكر في برنامج "مؤسسة واشنطن"، وسبب امتعاض ديفيد هيل في "موقع وبلسون"، لأن الحرب الاقتصادية والسياسية لم تؤدِّ، كما يشتهيان، إلى حشد كل التغييرين في أولوية مواجهة سلاح المقاومة وتحميل حزب الله مسؤولية الانهيار وفساد نظام التبعية والطبقة السياسية.
التهديد بالانفجار والمزيد من الخراب والانهيار... يذر قرون أركان نظام التبعية ومزرعة الدولة المنزوعة السلاح (الكتائب، حزب جعجع، و"المعارضة"...) صفاً واحداً في جبهة الدكاكين العربية التي حقّق كل منها سيادته على قهر شعبه بالاضطهاد والقهر والإذلال، وحقّق كل منها استقلاله في حرية النهب وتطويب البلاد والعباد في سوق العبودية الأميركية.
أمام هذا التهديد الداهم، عبّرت بيئة المقاومة في الانتخابات عن حماية السلاح، لكنها عبّرت أيضاً عن طموح التغيير لوقف استفحال الخراب؛ ففي كل الدوائر الانتخابية، ثمة أوراق ملغاة نتيجة كتابة تعليقات على أسماء بعض المرشحين الفاسدين. وقد بلغ عدد هذه الأوراق في دائرة الجنوب الثانية 6 آلاف اقتراع لاغٍ في القرى الشيعية، تعبيراً عن المطالبة بتغيير وطني لا يكون ضد حزب الله، ولا يكون من دون حزب الله.
أغلب الدلائل تشير إلى أن المجلس النيابي الجديد مشلول بتناقضاته الحادة، وأن أتباع الوصاية الأميركية - السعودية يخوضون حرب "السيادة والاستقلال" من أجل مزرعة التبعية المنزوعة السلاح. وفي هذا السبيل، تستكمل واشنطن والسعودية حروب الجوع والتفتيت والانحلال وتأجيج الانهيار والانقسامات العصبية، وربما الانفجارات الأمنية.
في مثل هذه الظروف والوقائع، يكون المخرج الأكثر أماناً ثورة لتغيير النظام وإعادة تأسيس الدولة والنظام، لكن الثورة في الظروف التي وصل إليها لبنان هي أقرب الطرق إلى الحرب الأهلية المستدامة.
يبقى أن لبنان هو بلد المعجزات الموصوفة التي أدّت به إلى الغرق، وربما تنتشله معجزة فأل بالفورة بدل الثورة، للاتفاق على أن يكون المجلس المنتخَب مجلساً تأسيسياً ومجلساً تنفيذياً لملء الفراغ المحتمل درءاً لتجنّب الهاوية، بيد أن التعويل على المجهول لا يوقف تغيّر الأحوال، فهي تتغيّر بهدوء كل يوم جديد حتى تهب العاصفة، ولا تنتظر من يدعوها للتغيير.