عن الأفارقة والروح التي تدعم فلسطين
تاريخ جنوب أفريقيا الداعم والمتضامن مع فلسطين أسَّس له الزعيم نيلسون منديلا الذي دعم القضية الفلسطينية، والتزم خلال مراحل حياته النضالية بالوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني، وزار قطاع غزة عام 1999، وأيَّد بلا تردد الانتفاضة الثانية.
كما أن الروح هي التي تقاتل في الميادين العسكرية وفق المقولة الشهيرة للشهيد القائد عماد مغنية، فهناك روح تقاتل أيضاً في ميادين الحرب الناعمة. تظهر الوقائع أن أفريقيا من بين الأماكن الأساسية التي تسري فيها هذه الروح، وأن الأميركيين من أصل أفريقي من بين الذين حلت فيهم هذه الروح.
تبنّي جنوب أفريقيا، التي تختصر نضالاً طويلاً ومؤلماً للأفارقة، مهمّة الدفاع عن فلسطين من خلال القضية التي رفعتها ضد "إسرائيل" أمام محكمة العدل الدولية هو أحد تجليات هذه الحقيقة.
وقد عبر الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا عن هذه الحالة عندما قال: "لم أشعر قط بالفخر الذي أشعر به اليوم وأنا أرى رونالد لامولا ابن هذه الأرض يدافع عن قضيتنا في المحكمة"، وأضاف تعليقاً على الخطوة التي اتخذتها بلاده ضد "إسرائيل": "لن نكون أحراراً حقاً ما لم يتحرر الشعب الفلسطيني".
وهنا يكمن جوهر القضية التي تجمع الأفارقة والفلسطينيين؛ فنضال الشعب الفلسطيني ضد آخر أشكال الاستيطان والتمييز العنصري المتمثل بالمشروع الصهيوني يمكن اعتباره الوريث الشرعي لنضال الأفارقة.
هذا ما تأكَّد في المؤتمر العالمي لمناهضة العنصرية الذي عُقد في مدينة دربن في جنوب أفريقيا عام 2001. في هذا المؤتمر، تحوّل التضامن مع فلسطين إلى قضية حاشدة تحظى بالإجماع. وبعدما كان الفصل العنصري في جنوب أفريقيا يسيطر على جدول أعمال مؤتمرين سابقين عُقدا عامي 1978 و1983، حلَّ الفلسطينيون محل الفصل العنصري في دربن، حيث تكرست صورة "إسرائيل" كرمز لاستعمار العصر الحديث وآخر حالات الاستعمار التقليدي.
تبيَّن داخل قاعات المؤتمر الذي شاركت فيه وفود تمثل 3 آلاف منظمة غير حكومية من أنحاء العالم أن "إسرائيل" لم يعد بإمكانها الاعتماد على الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية في ضمان تمتعها بالحصانة في المنتديات الدولية. وقد اضطر الوفدان الإسرائيلي والأميركي إلى الانسحاب أمام موجة التضامن مع فلسطين التي شكلت علامة فارقة لدى المشاركين.
تاريخ جنوب أفريقيا الداعم والمتضامن مع فلسطين أسَّس له الزعيم نيلسون منديلا الذي دعم القضية الفلسطينية، والتزم خلال مراحل حياته النضالية بالوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني، وزار قطاع غزة عام 1999، وأيَّد بلا تردد الانتفاضة الثانية، وعمل على تكريس التماثل بين ما عايشه الجنوب أفريقيون خلال نظام الفصل العنصري ومعاناة الفلسطينيين من جراء الاحتلال الإسرائيلي وممارساته.
وقد عبر الأسقف ديزموند توتو عن مستوى التوحش الإسرائيلي خلال تصريحه لصحيفة الغارديان البريطانية تعليقاً على زيارة له إلى فلسطين عام 2009، قائلاً "إن أموراً تحدث في إسرائيل مثل العقوبات الجماعية لم تحدث أبداً خلال حكم نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا".
كلامه جاء بعد المذبحة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي عام 2009 في غزة، وفي ظل إقرار الكنيست الإسرائيلي سلسلة قوانين عنصرية، مثل القانون الذي يهدد بسجن كل من ينكر أن "إسرائيل" دولة يهودية، والقانون الذي يحظر على أي شخص الدعوة إلى دولة ثنائية القومية، والقانون الذي يعاقب من يحيي ذكرى النكبة بالسجن 3 سنوات، وهذا ما دفع الكاتب الإسرائيلي أورى أفنيرى إلى وصف الكنيست بأنه "مصنع قوانين عنصرية ذات رائحة كريهة مميزة".
هذه الرائحة الكريهة شعر بها كل زائر للأراضي الفلسطينية المحتلة. وزير الزراعة والاستخبارات في حكومة منديلا روني كاسرلز كان أحد هؤلاء. وقد قال للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عندما التقاه عام 2004: "حتى في جنوب أفريقيا العنصرية لم يحدث أن قصفت الطائرات الحربية أو الدبابات بانتوستان أو حتى بلدة".
هذه الشهادات والمواقف تؤكد أن المناضلين ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا يفهمون القضية الفلسطينية ومحنة الفلسطينيين، ويعتبرونها قضية تشترك مع ما واجهوه من تفرقة وعنصرية وظلم واضطهاد. لذلك، رفضوا أن يكونوا شيطاناً أخرس، بل صدحوا بأصواتهم من أجل فلسطين.
المناضل مالكوم إكس لم يلتزم الصمت أيضاً تجاه الظلم الذي يمارس على الفلسطينيين. الرجل الذي كان رمزاً لولادة جديدة للإنسان الأفرو-أميركي الأسود في مواجهة 400 عام من العبودية، وملهماً ثورياً للمهمشين والفقراء، والخطيب الأميركي الأفصح في القرن العشرين تحدث عن "أن النضال الفلسطيني ليس مجرد صرخة، بل هو معركة شرسة وأساسية من أجل العدالة ومن أجل حقوق الإنسان التي يجب أن ترثها كل روح حية على هذا الكوكب. إنها مقاومة لا تنضب ضد قبضة الاحتلال الخانقة"، وناشد مريديه قائلاً: "لا تنسوا أبداً يا أصدقائي أن الفلسطينيين يشبهون كثيراً الأميركيين من أصل أفريقي".
بالفعل، لم تنسَ أنجلينا ديفيس، أيقونة الثورة السوداء، الشعب الفلسطيني، فتبنت قضيته منذ سبعينيات القرن الماضي حتى اليوم. المناضلة الشهيرة التي كتبت من أجلها أغنية "أنجلينا ثمة رياح لا تموت أختاه"، ربطت بين نضال السود ونضال الفلسطينيين قائلة: "كلنا فلسطينيون في مواجهة العدو ذاته على جبهات عدة".
لقد شغلت فلسطين مكانة مركزية في مسيرتها السياسية، وذلك يعود من وجهة نظرها إلى "التشابهات ما بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، فكلاهما تأسس من خلال الاستعمار الاستيطاني وعمليات التطهير العرقي ضد السكان الأصليين وأنظمة الفصل العنصري".
هذا المفهوم حضر أيضاً عند ويليام دوبوا صاحب الكتاب المرجعي "أرواح الأمة السوداء" الذي أرّخ فيه لمراحل السود التحررية، وأكد في صفحاته: "كلما خف طيف العبودية كانت أميركا تبتكره مجدداً".
دوبوا وضع "إسرائيل" في موقع "المعتدي الاستعماري وصاحبة الدور في حركة الاسترقاق الحديثة"، ووصفها بالمخلب للقوى الاستعمارية.
صحيح أن دوبوا الذي ألهمت أفكاره العديد من الكتابات المعاصرة حول العرقية والعنصرية في العالم تأخر في الوصول إلى هذه القناعة بعدما تبنى لسنوات طويلة وبشكل بالغ الغرابة الرواية الصهيونية، إلا أن موقفه تغير بعد العام 1956. وقد عبر عن أفكاره الجديدة في قصيدة شهيرة له بعنوان "السويس"، التي اعتبرت تحولاً كبيراً في رؤيته.
هذا التحول الكبير لم يظهر للأسف بشكل واضح عند فانز فانون مؤلف كتاب "المعذبون في الأرض" الذي بيعت منه مئات الآلاف من النسخ وترجم إلى 15 لغة؛ فقد بقي موقف فانون من القضية الفلسطينية ملتبساً، إلا أن أفكاره التي ألهمت المناضلين في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينة تنطبق إلى حد بعيد على واقع القضية الفلسطينية؛ فقد توجه فانون في كتابه إلى الشعوب المضطهدة ودعاها إلى مقاطعة الحضارة الغربية التي "استعبدت الناس وسخّرتهم في خدمة أغراضها وتشييد أمجادها وأخذت بمخانق الإنسانية كلها تقريباً"، وتوجه إلى المعذبين في الأرض قائلاً: "انظروا إلى الحضارة الغربية. إنها تتأرجح بين التفكك النووي والانحلال الروحي".
بهذه الصرخة، ختم فانون كتابه الشهير الذي صدر بعد رحيله عام 1961، وكأنه يتحدث عن السقوط الأخلاقي الغربي الذي بلغ ذروته اليوم بعد عملية طوفان الأقصى والحرب التي تشنها "إسرائيل" منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وهو عندما قال: "أينما تمسّ الحرية أشعر بأنني معني. نحن جميعاً معنيون مهما كانت ألواننا"، كأنه يشير إلى روح الأفارقة الذين تضامنوا مع فلسطين وآمنوا بما قاله الزعيم نيلسون منديلا عام 1997: "ندرك جيداً أن حريتنا منقوصة من دون حرية الفلسطينيين".