عن اشتباكات الدبلوماسية الجزائرية مع مشروع تصفية القضية الفلسطينية
أول ما بادرت إليه الجزائر بمجرد اعتلائها مقعدها في مجلس الأمن هو استصدار موقف دولي جماعي يرفض تهجير الفلسطينيين من أراضيهم ويدين كل فعل من شأنه أن يؤدي إليه.
خلف الدبلوماسية النضالية الجزائرية التي تخاض ضدّ الكيان دفاعاً عن مشروع الدولة الفلسطينية، داخل أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، يقع الاشتباك مع استراتيجية الصهيونية ومشروعها لتصفية القضية الفلسطينية الجاري تجسيده على صعد متعدّدة، ما يعكس وعياً جزائرياً بأنّ المعركة الدبلوماسية والقانونية مع الكيان باتت حتمية لا مناص منها في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة المنبثقة عن تراكمات النضال والتضحيات الفلسطينية طوال العقود السبعة الماضية.
من المفيد قبل الخوض في مستويات الاشتباك الجزائري مع استراتيجية الصهيونية ومشروعها التذكير بأنّ الجزائر تسير على خطى المسار الذي رسمه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20 سبتمبر/ أيلول 2023 حيث أعلن أنّ عضوية الجزائر في مجلس الأمن بدءاً من كانون الثاني/ يناير 2024 ستنذر لخدمة فلسطين وحقوق الفلسطينيين المهضومة.
والحقّ أنّ هذا التوجّه بما ينطوي عليه من ثبات على المبادئ المؤسسة للسياسة الخارجية الجزائرية ليس إلا تكريساً للخطّ النضالي للجزائر المستقلة وخط الحركة الوطنية إبّان الاحتلال قبلها.
وبالفعل، لم تحد الجزائر عمّا قطعته على نفسها منذ تبوأت مقعدها في مجلس الأمن جاعلة من فلسطين عنواناً لكلّ تحـرّكاتها.
إذ قبل أن يمر شهر واحد على عضويتها، وفي جلسة علنية عقدت بطلب منها، نجحت الجزائر في حثّ مجلس الأمن على تبني موقف بالإجماع رافض لكل مشروع يتضمّن التهجير القسري للفلسطينيين من أراضيهم، أصدر في بيان صحفي باسم كل أعضاء المجلس يوم 13 كانون الثاني/ يناير.
ثم، عادت الجزائر في 20 شباط/فبراير، أي بعد شهر ونيف من مبادرتها الأولى، إلى اقتراح مشروع قرار هذه المرة طالب بـ"وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية ورفض التهجير القسري للسكان المدنيين الفلسطينيين".
ورغم أنّ مشروعها أجهض بفيتو أميركي، فإن الجزائر أصرّت على عقد جلسة رسمية للجمعية العامة للأمم المتحدة في 04 آذار/مارس 2024 خصّصت لمناقشة هذا النقض الجائر وفسح المجال أمام أعضاء الجمعية لمحاسبته "أخلاقياً".
ولم يثن فيتو الولايات المتحدة الجزائر عن استكمال النضال في سبيل استصدار قرار بوقف إطلاق النار في غزة، ولم تبرح سعيها باسم كتلة الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن الدولي (E10) في سبيل مبتغاها إلى أن كلّل بصدور القرار رقم 2728 القاضي بوقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة خلال شهر رمضان، مع ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى سكانه وإطلاق سراح الرهائن.
كوّن هذا المكسب الدبلوماسي دافعاً للجزائر للانخراط في معركة دبلوماسية جديدة، على حد وصف الرئيس تبون، تتوخّى الظفر بقبول الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي مطلب عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة.
من أجل ذلك، قدمت الجزائر مشروع قرار إلى مجلس الأمن في 16 نيسان/أبريل الفارط باسم المجموعة العربية في إثر جهد حثيث بذله جهازها الدبلوماسي حشداً لأكبر دعم لمقترحها، وإن كان الأخير قد أجهض بفيتو أميركي -كان متوقعاً-في جلسة مجلس الأمن يوم 18 نيسان/أبريل، بيد أنّ نتيجة التصويت عليه عكست مجدّداً عمق عزلة الولايات المتحدة عالمياً وانحسار تأثيرها في مواقف الحكومات حيال فلسطين.
بالتزامن مع هذا، دعت الجزائر مع الأردن إلى عقد جلسة لمجلس الأمن نوقشت فيها التحديات التي تواجهها "وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى" (الأونروا) في 18 نيسان/أبريل الماضي أعلنت خلالها الجزائر تقديم مساهمة مالية استثنائية لهذه الوكالة قدرها 15 مليون دولار.
يــجمل العرض التفصيليّ السابق نشاط بعثة الجزائر الدائمة لدى الأمم المتحدة منذ كانون الثاني/يناير المنصرم، لكنه لا يقدم صورة سابغة عن كل الجهد الدبلوماسي الجزائري المنذور لخدمة القضية الفلسطينية.
ففي غضون حركيتها الدؤوب داخل أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لم تتوان الجزائر أيضاً عن المرافعة من أجل حشد دولي أكبر لصالح القضية الفلسطينية وضدّ الاحتلال ومشروعه من على منبر حركة عدم الانحياز في قمتها الـ 19 في كامبالا (أوغندا) في 19 كانون الثاني/ يناير 2024، ثم بعدها بيوم واحد بمناسبة القمّة الثالثة لمجموعة 77 + الصين المنعقدة في المدينة نفسها.
كما كانت المرافعة لصالح فلسطين وحشد الدعم لقضيتها عنواناً لمشاركة الجزائر في كل من الاجتماع الاستثنائي لمجلس وزراء خارجية الدول الأعضاء بمنظمة التعاون الإسلامي في 05 آذار/ مارس 2024 في جدة (السعودية)، وأشغال الدورة 161 لمجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري في 06 آذار/ مارس 2024.
هذه النشاطات، وغيرها، وما تنطوي عليه من حركية دبلوماسية حثيثة تخوّلنا الحكم بتأصّل إيمان الجزائر بالحقّ الفلسطيني وانخراطها في مشروع تحرير فلسطين، حكم تثبته كل السلوكيات والمبادرات الدبلوماسية المجسّدة للخطاب الجزائري حيال فلسطين.
بيد أنّ حكماً أكثر تمعّناً وتبصرّاً في هذا الصدد يتطلّب غوصاً أعمق في التصوّرات الفكرية التي يبنى عليها التجنّد الدبلوماسي الجزائري لصالح القضية الفلسطينية، والذي ينبثق عن إدراك بهدف تصفيتها بوصفه ذروة سنام المشروع الصهيوني وقمة هرم أولوياته.
ومن الواضح أنّ صانع السياسة الخارجية الجزائرية وعبر مضامين خطابات ومشاريع بعثة الجزائر الدائمة لدى الأمم المتحدة يشتبك مع هذا الهدف على ثلاثة مستويات: التهجير، الإبادة وإبقاء فلسطين في حالة "اللا دولة".
ويفضي تفكيك محاور تركيز المبادرات الدبلوماسية الجزائرية ومضامينها الفكرية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية منذ كانون الثاني/ يناير 2024 بناء على التصوّر السابق إلى استنتاجات ثلاثة:
- الأوّل هو الانتباه المبكر لمشروع تهجير الغزيين قسرياً والذي وُضع كهدف للعدوان الصهيوني على غزة، وبنى "جيش" الاحتلال خططه الحربية على أساسه منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، وكان الدليل على ذلك القصف المكثّف على شمال القطاع ابتداءً، ثم التوجه نحو وسطه فجنوبه رويداً رويداً إلى أن توقف في حدود رفح اليوم، كل هذا من أجل إكراه سكان القطاع ودفعهم نحو الجنوب على أمل أن يبرحوا أراضيهم نحو مصر.
لهذا، نجد أن أول ما بادرت إليه الجزائر بمجرد اعتلائها مقعدها في مجلس الأمن هو استصدار موقف دولي جماعي يرفض تهجير الفلسطينيين من أراضيهم ويدين كل فعل من شأنه أن يؤدي إليه، كما كان رفض التهجير بنداً محورياً في كل مشاريع القرارات التي اقترحتها الجزائر على المجلس، وعنواناً أساسياً ضمن عناوين مداخلاتها خلال جلساته.
- الثاني هو الوعي بأنّ تحقيق البعد الديمغرافي للإبادة لا يتم عبر التهجير فحسب، بل نذرت له أيضاً آلة القتل والدمار الصهيونية ضدّ البشر وكل أشكال الحياة في غزة بنية إخضاع سكانها لظروف معيشية يراد بها تدميرهم كلياً.
وعليه، ناضلت وتناضل بعثة الجزائر الدبلوماسية لدى الأمم المتحدة باستماته وبلا هوادة في سبيل استصدار قرار بوقف دائم وفوري لإطلاق النار، وجعله مرهوناً بإدخال المساعدات الإنسانية بلا قيد ولا شرط.
ومن أوجه وعي الجزائر بهذا البعد لمشروع التصفية والإبادة، دعمها المعلن والصريح لدعوى جنوب أفريقيا ضدّ الكيان في محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، ومطلبها بعقد جلسة لمجلس الأمن لمناقشة سبل تطبيق الإجراءات الاستثنائية التي طالبت بها المحكمة في قرارها الصادر يوم 26 كانون الثاني/ يناير 2024.
- الثالث هو الإدراك بأنّ الكيان والولايات المتحدة الأميركية وزمرة من الدول الغربية المتواطئة معهما، تعمل على الإبقاء على فلسطين قابعة في حالة اللا دولة واللا حدود واللا سيادة، ذلك أن الاعتراف بفلسطين دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة سيجعل تصفية قضيتها مستقبلاً مستحيلاً، وسيعطي شرعية لكل أفعال المقاومة التي يصر الصهاينة والمتصهينون عنوة على وصمها بالإرهاب.
وعليه، ومن دون فهم هذا الوجه من أوجه اشتباك مشروع المقاومة والتحرّر مع مشروع الاحتلال والتصفية سيتعذّر فهم النضال الجزائري في سبيل الاعتراف بفلسطين دولة كاملة العضوية في هيئة الأمم المتحدة، وتالياً، سيتعذر فهم سبب الاعتراض الأميركي المتواصل لهذا المطلب، وسعيها إلى ثني الجزائر عن النضال في سبيله.
من المؤكد أنّ الاستنتاجات السابقة ليست كل ما يمكن استنباطه من محاولات استكشاف الأبعاد الحقيقية لدبلوماسية الجزائر النضالية منذ بداية "طوفان الأقصى"، ثم عضويتها غير الدائمة في مجلس الأمن الدولي، لكنها بالمقابل توفر مداخل تفسيرية وشارحة لكيفية تعاطي الجزائر واشتباكها مع مشاريع الصهيونية لتصفية القضية والحق الفلسطينيين، وهو بلا شك اشتباك يخفي أسباباً وجودية للصراع بين الجزائر والكيان، وبقدر ما كان التوجه نحو تطوير القراءات التحليلية والتفسيرية لخطاب الدبلوماسية الجزائرية وممارساتها حيال فلسطين ومشروع تحريرها كلما اكتسبنا سبباً جيداً يحملنا على أن نرى دبلوماسية الجزائر وسياستها الخارجية عموماً بعيداً من زاوية التسفيه المقصود وغير المقصود الذي كثيراً ما يوجّه إليها.